الجمعة، 31 يوليو 2009

قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر (2)

هناك علاقة لا تناظرية (asymmetric relationship) بين الحاجة والرغبة، فالحاجة تبرّر الرغبة، لكن الرغبة لا تبرّر الحاجة، فمثلاً، قد تحتاج إلى شراء سيارة لظروف قاهرة، لذا فإنه من الطبيعي أن تكون لديك رغبة في شراء سيارة، لكن في المقابل، قد تكون لديك رغبة في اقتناء سيارة، لكنك تتنازل عن هذه الرغبة لأنها لا تنم عن حاجة ضرورية.
هذه العلاقة اللا تناظرية إيجابية وصحية، فهي تدل على أمرين: الأمر الأول، هو أنك تملك من الأشياء ما تحتاج إليه فعلاً، والثاني، هو أن لديك قدرة فائقة على التحكم في رغباتك ونزواتك الشخصية.
لكن الأمر المؤسف هو أن المحافظة على هذه العلاقة الصحية تكاد تكون مستحيلة في عصر رأسمالي قائم على فكرة الاستهلاك، وتعود جذور هذه المشكلة إلى عشرينيات القرن الماضي، عندما قام Edward Bernays بالاستفادة من نظريات علم النفس ووضعها تحت تصرّف رجال الأعمال والشركات الكبرى، مستفيداً من أدوات التحليل النفسي التي صاغها Freud، ومن مفهوم 'غريزة القطيع' كما جاء في أعمال Trotter، ومن مفهوم 'سيكولوجية الجماهير' كما جاء في أعمال Le Bon.
كان الهدف الأساسي هو تشكيل عقول الناس بطريقة تضمن استمرار عادة الاستهلاك وتلبية مصالح الطبقة التجارية، ولتحقيق ذلك، كان لابد من القضاء على قدرة الفرد على التمييز بين الحاجة والرغبة، لذا لجأ Bernays إلى سلاح 'البروباغندا'، فهو سبق أن تساءل بخبث: 'لماذا لا تنجح (البروباغندا) في زمن السلم كما نجحت في زمن الحرب؟!'.
كان Bernays يعتقد أنه إذا أراد أصحاب الشركات الكبرى إنتاجا شاملاً للبضائع، فلابد من خلق حاجة دائمة إلى الاستهلاك، وهو أمر لن يتحقق إلّا إذا استطاعت الماكينة الدعائية التحكم في الرأي العام وتوجيهه نحو المزيد من الاستهلاك (انظر كتابه Manipulating Public Opinion، 1928).
كان Bernays يراهن على غباء الناس وعلى 'غريزة القطيع'، وبالنظر إلى شهية الاستهلاك التي اجتاحت العالم منذ الربع الأول من القرن الماضي، ليس لنا سوى أن نسلّم بأن Bernays كسب الرهان!
يستمد الإنسان قيمته من صميم ذاته ومن قدراته الشخصية، لكن في ظل موجة الاستهلاك التي اجتاحت العالم منذ بدايات القرن الماضي، أصبحت قيمة الإنسان مرتبطة بما يملك من أشياء، وهو ارتباط غير حقيقي! في كتاب The Sane Society، من تأليف استاذ علم النفس الاجتماعي Erich Fromm، هناك وصف دقيق لمدى تهافت العلاقة بين المستهلك والبضاعة المستهلكة. يقول Fromm 'في الماضي، كانت هناك علاقة حميمية بين الإنسان والأشياء التي يشتريها بماله، أما في عصر طفرة الاستهلاك، أصبح من غير الممكن وجود مثل هذه العلاقة، ذلك أنه ليس هناك وقت كافٍ لنشوئها، فالمستهلك مغرم بكل شيء جديد، وهو لهذا السبب على استعداد لاستبدال ما يشتريه اليوم لقاء ما يستجد غدا' (صفحة 131).
ثم ينتقل Fromm إلى عقد مقارنة بين اللذة الناتجة عن تجربة حقيقية، واللذة المزيفة التي هي وليدة عادة الاستهلاك 'عندما أقرأ كتاباً، أو أشاهد منظراً خلاباً، أو أتحدث مع صديق، أشعر أني خضت تجربة حقيقية وتلقائية، تجربة تجعلني أحس أني لم أعد كما كنت قبل خوض تلك التجربة، كأن شيئاً في داخلي قد تغيّر! هذه اللذة الحقيقية تقف على النقيض من تلك اللذة الناتجة عن الاستهلاك، فعندما ألبّي رغبتي في شراء شيء لا أحتاج إليه، لا يطرأ أي تغيير في ذاتي، ولا أشعر بأي إضافة إلى قيمتي كإنسان! كلنا يعرف شعار كاميرا Kodak الذي يقول: اضغط الزر، ونحن نتكفّل بالباقي!' ليس مطلوبا منك أن تفعل أي شيء، أو أن تعرف أي شيء، بل كل ما يتعين عليك عمله هو أن تضغط الزر! إن السائح الذي نراه منشغلا في التقاط الصور لا يرى شيئا إلا من خلال الكاميرا المعلقة في رقبته! الكاميرا تستمتع بمشاهدة المناظر المحيطة نيابة عنه، وأما هو (أي السائح) فقد استبدل تجربة روحية حقيقية بحفنة من الصور!' (صفحة 133).
لكن الأمر لا يقتصر فقط على استهلاك الأشياء، ذلك أن الإنسان نفسه أصبح موضوعاً للاستهلاك! عندما وصل أينشتاين إلى أميركا، أرادت إحدى شركات التبغ الاستفادة من شهرته الكبيرة، فعرضت عليه أن يقوم بعمل دعاية لإحدى منتوجاتها مقابل مردود مالي كبير، لكن أينشتاين رفض العرض، وقد عبّر عن غضبه من كثرة هذه العروض بطريقة ساخرة، حيث يقول 'هؤلاء المسوّقون الأغبياء لا يفرّقون بين طالب العلم والعاهرة'!
لكن هناك في المقابل من يحرص على تسويق ذاته من دون مقابل مادّي، ففي عصر المال، تضاءلت قيمة الإنسان إلى مجرد سلعة، وبما أن كل سلعة في حاجة إلى تسويق، فإن الإنسان نفسه أصبح ضحية لمرض تسويق الذات، وأعراض هذا المرض كثيرة، منها المبالغة في تضخيم الإنجازات الشخصية تحت بند 'السيرة الذاتية'، والحرص على الظهور الإعلامي المتكرر، وكتابة مقال وتوزيعه بالجملة عن طريق البريد الإلكتروني!
لن يستعيد الإنسان قيمته إلا عندما يكف عن تحديد هويته من خلال ما يملك من أشياء، ولن يكف الإنسان عن تسويق ذاته إلا حينما يستعيد احترامه لنفسه!

ليست هناك تعليقات: