الصفحات

الاثنين، 8 أكتوبر 2012

اللهجات وأبعادها السياسية والاجتماعية


في أول يوم عمل لي، ذهبت إلى إحدى الإدارات لاستلام هوية العمل، وجدت هناك موظفتين، وبعد حوار قصير بيني وبين الموظفة الأولى، بادرتني الموظفة الأخرى بالسؤال التالي: عفواً، حضرتك كويتي؟ قبل أن أجيب عن سؤالها، بادرتني بالتعليل التالي: لهجتك لا تبدو كويتية! إزاء هذه الملاحظة “العميقة”، سألتها: وكيف تبدو لك لهجتي؟ فأجابت بتردد: لا أدري، ربما هي لهجة بدوية!
حاولت أن أشرح لها ما يتضمنه كلامها من افتراضات ضمنية مغلوطة، فقلت: من الواضح أن كلامك مبنيّ على افتراضين: الأول، هو وجود تضاد بين ما تسمينه “اللهجة الكويتية” واللهجة البدوية، والافتراض الثاني هو أن من المستحيل أن يكون شخص ما كويتياً ويتحدث بلهجة بدوية! إذا قبلنا بصحة هذين الافتراضين، فإن ما يترتب على كلامك هو أنك لست بدوية، لأنك لا تتحدثين بلهجة بدوية، أليس كذلك؟، أجابت الموظفة بثقة تحسد عليها: بكل تأكيد! تابعت حديثي لأقول: لكن لاحظي أن هذا يعني أيضاً أنني لست كويتياً، لأني لا أتحدث “اللهجة الكويتية”، فهل هذا ما أردت قوله؟!
يقول عالم اللغة الاجتماعي، ماكس فاينرايخ: “اللغة هي لهجة مدعومة بقوات مسلحة”! بمعنى أن اللهجة المهيمنة أو السائدة في أي مجتمع تعكس لهجة أولئك المسيطرين على زمام الأمور، سواء من خلال الاقتصاد أو التعليم أو وسائل الإعلام بأشكالها كافة، لكن الهيمنة اللغوية لا تعني الاعتراف بلهجة واحدة فقط وإقصاء بقية اللهجات.
في كل دولة مدنية، هناك سياسة لغوية تضع تصوراً للغات أو اللهجات الرسمية للدولة، مع عدم إغفال رعاية الحكومة للغات واللهجات غير الرسمية، ذلك أن التعدد اللغوي يمنح الدولة بعداً جغرافياً وعمقاً تاريخياً، كما أنه يعكس مقدار التسامح السائد بين أفراد المجتمع الواحد. لكن في الكويت، و في ظل شعار “الوحدة الوطنية”، أصبح مفهوم “الوحدة” يعني توحيد ملامح الإنسان الكويتي على مستوى اللهجة، والملبس، وحتى التفكير!
هل هناك فعلا لهجة كويتية؟ “اللهجة” مفهوم لغوي، و”كويتي” مفهوم سياسي، ومن الخطأ الجمع بين المفهومين من الناحية العلمية، فجغرافيا اللغة شيء وجغرافيا الوطن شيء آخر، ذلك أن الحدود اللغوية بين لهجة وأخرى لا تتطابق بالضرورة مع الحدود السياسية بين دولة وأخرى، والسبب في ذلك بسيط ومباشر، فتاريخ تطور اللغات واللهجات سابق زمنياً لتاريخ تطور الكيانات السياسية، ولو كانت المطابقة بين الحدود اللغوية والحدود السياسية شرطاً أساسيا لقيام أي دولة، لما قامت دول كثيرة، ومن ضمنها الكويت!
ليست هناك لهجة كويتية، بل لهجات متعددة تقع ضمن الحدود السياسية لدولة الكويت، منها لهجات بحرية تشترك في بعض خواصها اللغوية مع اللهجات البحرية على ساحل الخليج، ومنها لهجات صحراوية تشترك في بعض خواصها اللغوية مع لهجات الجزيرة العربية والأقاليم الشمالية. إن هذا التعدد اللغوي، مثل أي تعدد، مدعاة للفخر وخليق بالاعتزاز، لا أن يكون موضوعاً للفرقة والنزاع.
عندما تتحدث، فإن لسانك لا يعبر عن شخصيتك فحسب، بل عن آمال طبقتك الاجتماعية وطموحاتها، وهي آمال وطموحات مشروعة بالقدر الذي تكون فيه آمال الطبقات الاجتماعية الأخرى وطموحاتها مشروعة. هناك- مع الأسف- من يظن أن لسانه هو فقط من يعبّر عن هوية الدولة، وفي هذا الظن إقصاء غير مبرر، وهناك أيضا من يظن أن الانتقال من منطقة سكنية إلى أخرى يستلزم استبدال اللهجة اللغوية بأخرى، وفي هذا الظن استجداء بغيض للقبول الاجتماعي، وتنازل غير مبرر لحقوق طبقة اجتماعية بأكملها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق