السبت، 1 سبتمبر 2018

لماذا ينبغي لقضية "البدون" أن تكون أولوية الأولويات؟


لنبدأ بتوضيح الواضح لتفادي أي التباس حول عنوان هذا المقال. مصطلح "أولوية" يقتضي منطقيا وجود مجموعة لا يقلّ عدد ما تحتويه من عناصر عن اثنين، وسواء أشارت هذه العناصر إلى أشياء أو أشخاص أو حتى إلى قضايا معينة، فإنّ مصطلح "أولوية" يقتضي دلاليّا وجود تراتب من حيث حجم الأهمية بين محتويات المجموعة، وعندما نقول إنّ القضية الفلانية هي "أولوية الأولويات"، فإننا بطبيعة الحال لا ننكر أهمية القضايا الأخرى، بل نشير فقط إلى أنّ القضية الفلانية تفوق من حيث حجم الأهمية كلّ القضايا الأخرى، وأريد من خلال هذا المقال أن أدافع عن العبارة التالية: قضية "البدون" في الكويت هي أولوية الأولويات.

كل متابع للشأن الداخلي في الكويت يُدرك أنّ قضية عديمي الجنسية (أو "البدون") لم تعد مقتصرة على موضوع الجنسية، بل تفاقمت في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص لتتحوّل من قضية جنسية إلى كارثة إنسانية، والسبب لمن لا يجبنون عن تسمية الأشياء بأسمائها يكمن في الاستراتيجية التي يتبنّاها "الجهاز المركزي" في تعامله مع فئة اجتماعية يبلغ عدد أفرادها عشرات الآلاف على أقل تقدير، وأمّا مضمون تلك الاستراتيجية فلم يعد خافيا على أحد: اخنق "البدون" إلى أن يكفّ عن الصراخ بأنّه "بدون"، وتجسيد هذه الاستراتيجية على أرض الواقع هو ما نراه اليوم في سياسات عنصرية ولاإنسانية تواطأت من خلالها كل أجهزة الدولة مع "الجهاز" على وأد أمل الإنسان "البدون" في الحصول، ليس على الجنسية وحسب، بل على التعليم والتطبيب وحرية الحركة، ثم تمادت في غيّها لتصل إلى أموال الزكاة ولم ترحم حتى الأطفال.

لا أجد مصطلحا أنسب من مصطلح "ابتزاز" لوصف هذه الاستراتيجية العنصرية واللإنسانية تجاه "البدون"، ذلك أن لكل سلوك ابتزازي شرطين كافيين لوجوده: الإكراه والتهديد، وكلاهما متوافر بكميات كبيرة في سياسات "الجهاز المركزي" ضد "البدون"! كل هذه السياسات القمعية هي من أجل إنجاح الاستراتيجية إيّاها، فإمّا أنْ يجد "البدون" له وطنا في الخارج، وإمّا أنْ نجد له قبرا في الداخل! أقولها بألم صادق، لا ساخرا ولا مُنتقصًا: لو كُنّا ككويتيين شعب الله المختار، كم سيبلغ ثمن تذكرة الانضمام إلينا؟ من الصعب تحديد رقم معيّن، ولكن من الواضح أنّ الثمن سيكون أغلى من ثمن سحق كرامة الإنسان، فهذا الثمن الأخير يدفعه "البدون" في زمن نحن فيه أبعد ما نكون عن شعب الله المختار.

على ضوء ما تقدّم، يصبح من الطبيعي النظر إلى قضية "البدون" بوصفها قضية إنسانية بامتياز، أي أنها قضية ليست مرتبطة بالإنسان وحسب، بل هي قضية متّصلة بالإنسان من حيث هو إنسان، ولهذا عندما نقارن بين هذه القضية وقضايا أخرى مثل "الرقابة على الكتب" أو "حقوق المرأة"، فإنّ من الواضح أنّنا أمام قضايا ترتبط جميعها بالإنسان، لكن وحدها قضية "البدون" هي  القضية المرتبطة بالإنسان من حيث هو إنسان، ذلك أنّ الوصاية على القارئ فيها انتقاص لمبدأ حرية الاختيار، والوصاية على المرأة فيها انتقاص لمبدأ المساواة، وأمّا الوصاية على "البدون" فلا تنتهك هذين المبدأين وحسب، بل تذهب إلى أبعد من ذلك من خلال التعدّي السافر على أبسط حقوق الإنسان! ثم ما قيمة أن يدافع القارئ الكويتي عن حقه في اختيار كتابه المفضّل في الوقت الذي لا يكترث فيه بجاره "البدون" الذي حُرم أطفاله من حقّهم في تعلّم القراءة والكتابة؟ ما قيمة أن تنتفض المرأة الكويتية للمطالبة بمساواتها مع الرجل في الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى المرأة "البدون" التي لا تجد من الحقوق ما يجده الحيوان نفسه، مثل التطبيب وحرية الحركة وغيرهما من ضمن أبسط الحقوق المشروعة؟

الاعتصام، بوصفه وسيلة احتجاج مشروعة، يعكس حيوية المجتمع ومدى تفاعل أفراده مع قضايا الشأن العام، ولكنه يشير أيضا إلى الأولوية التي يُضفيها أفراد المجتمع على قضاياهم، ومن المؤسف أنّنا في الكويت لا نستطيع حتى أن نقول إنّ الأولويات مقلوبة لَديْنا، لأنها لو كانت كذلك، لكان في مقابل الاعتصامات العديدة التي أُقيمت من أجل "الكتاب" أو "المرأة" اعتصامٌ واحدٌ على الأقل تدعو إليه أي جهة غير حكومية احتجاجا على تعسّف "الجهاز" ضد "البدون"! إنّ التفسير المعقول لذلك هو أننا (كجماعات وليس كأفراد) لا نكترث بقضية تعسّف "الجهاز" ضدّ "البدون"، وعدم الاكتراث ناتج، ليس عن تفاوت في مقدار الأهمية التي نوليها للقضايا الأخرى بالقياس إلى هذه القضية، بل هو ناتج عن عدم وجود اكثراث من الأساس! عندما يكون ذهابك إلى المسرح بواقع خمس مرات في السنة في مقابل مرتين لذهابك إلى المتحف، فإنّ باستطاعتك أن تقول إنّك تهتمّ بالمسارح أكثر من اهتمامك بالمتاحف، ولكن عندما تتكرر زياراتك إلى المسرح في الوقت الذي لم تطأ فيه قدماك أي متحف، فإنّ من العدل أن نقول إنّك لا تكثرث بزيارة المتاحف على الإطلاق. لا يبدو الأمر مختلفا عندما نقارن بين موقفنا كمجتمع من قضية تعسّف "الجهاز" ضدّ "البدون" وموقفنا من القضايا الأخرى.

لست أقلل من أهمية الاعتصام من أجل القضايا الأخرى على الإطلاق، ولكنّي أؤكد وبضمير مرتاح أنّ هذه القضية رغم فداحتها لا تُشكّل أولوية في محيطنا السياسي-الاجتماعي، ذلك أن مفهوم التظاهر لدينا يفتقر إلى قيمة إنسانية، ولهذا نقف متفرّجين أمام قضية "البدون"، تماما كما نقف متفرّجين على انتهاك حقوق العمالة الأجنبية وظروفها المعيشية المزرية دون أن نُحرّك ساكنا، بل دون أن تخطر في بالنا فكرة الاعتصام!

الجمعة، 24 أغسطس 2018

"أهل الكويت" و"بدون الكويت"


عنوان هذا المقال لا يخلو من غرابة، ومصدر الغرابة هو أنّه عنوان يشير إلى مفهومين لا وجود لهما، أو على الأقل، ما كان ينبغي لهما الوجود من الأساس، فلو كُنّا نعيش في مجتمع ينبذ العنصرية من جانب، وينشد العدالة من جانب آخر، لذاب المفهومان وانصهرا في مفهوم واحد: شعب الكويت! تجدر الإشارة، مع ذلك، إلى الحقيقة التالية، وهي أنّ كل مفهوم، وبصرف النظر عمّا يُشير إليه، ليس سلبيا في ذاته، بل إنّ السلبية ناتجة عن كيفية استخدامنا للمفهوم، ولا نستثني من ذلك مفهومي "أهل الكويت" و"بدون الكويت". لنوضح هذه النقطة من خلال التوقف عند كلا المفهومين على حدة.

إلامَ يشير مفهوم "أهل الكويت"؟ لا يشير في ظاهره إلّا إلى مجموعة من البشر اتخذت من بقعة جغرافية وطنا لها، وفي حدود هذا المعنى الظاهري لا يُعدّ هذا المفهوم سلبيا في ذاته، وإنّما السلبية ناتجة عن استخدامه بطريقه فيها تحريف لما يشير إليه، فعلى سبيل المثال، عندما تكشف العنصرية عن وجهها القبيح، فإنّ مفهوم "أهل الكويت" سيشير إلى مجموعة من المعتوهين ممن يدفعهم الإحساس بالانتماء إلى بقعة جغرافية عن طريق التوارث إلى الاعتقاد بمُلكية تلك البقعة، وبذلك يتحول مفهوم "الوطن" إلى مجرد عزبة، ويتحوّل مفهوم "المواطنة" إلى مجرد بطاقة عضوية للانضمام إلى نادي المعتوهين! عندما نقول إن العنصري إنسان معتوه، فإننا لا نقدّم تقييما، بل مجرّد وصف لحالة مرضية، فالعنصرية، وإنْ كانت مرتبطة بأسباب سياسية-اقتصادية، فإنها مع ذلك تعبّر عن مرض نفسي بامتياز، ذلك أنّ العنصرية في جوهرها شعور بالنقص يتمّ تجاوزه عادة من خلال تضخيم الذات على حساب تحجيم الآخر، بمعنى آخر، العنصرية سلوك عدواني تجاه الآخر في سبيل معالجة شعور "الأنا" بالدّونية، كما أنّ وصف الإنسان العنصري بالمعتوه يعود إلى حقيقة أنه إنسان تخلّى عن عقله من جرّاء شعوره بالدونية، وتخلّى عن ضميره من جرّاء سلوكه العدواني.

"بدون الكويت" مفهوم لا يختلف عن سابقه من حيث أنه يشير أيضا إلى مجموعة من البشر اتخذت من بقعة جغرافية وطنا لها، فكلمة "بدون" لا تشير إلى كائنات فضائية بل إلى مجموعة من البشر، وفي حدود هذا المعنى الظاهري لا يُعدّ مفهوم "بدون الكويت" سلبيا في ذاته، وإنّما السلبية ناتجة عن استخدامه بطريقة مغلوطة وفيها مصادرة لحقّ الآخرين في الانتماء إلى وطن، ذلك أنّ كلمة "بدون" تعني "بدون جنسية"، والجنسية هي علاقة انتساب إلى دولة، في حين أنّ الوطنية هي علاقة انتساب إلى وطن، وبذلك فإنّ تعذّر الانتماء إلى دولة لا يترتّب عليه بالضرورة تعذّر الانتماء إلى وطن، وإذا كان من حقّ أي دولة تحديد قائمة الأفراد المنتسبين إليها، فإنّ من حقّ أيّ فرد تحديد انتمائه إلى أيّ وطن يشاء! عندما نقول إنّ من حقّ أي دولة تحديد قائمة الأفراد المنتسبين إليها، فإنّنا لا نعني أنّ الأمر مرهون بمزاج السُّلطة، بل ينبغي لموضوع الجنسية أن يكون خاضعا إلى معايير موضوعية غير مرتبطة بالأصل أو المذهب أو غيرهما من معايير متعلّقة في مجملها بمصادفات بيولوجية أو ثقافية.  

على ضوء ما تقدّم، يبدو من الواضح أن النفس العنصري هو الذي يقف وراء الاستخدام الشائع والمغلوط لمفهومي "أهل الكويت" و"بدون الكويت"، ففي ظلّ هذا النفس البغيض، ليس كلّ مَن يحمل الجنسية الكويتية كويتيّا، وكلّ مَن لا يحمل الجنسية الكويتية ليس كويتيا، وبذلك تتكشّف ازدواجية معيار "الجنسية" لتفضح لاعقلانية السلوك العنصري، فتارة يتم التعامل مع الجنسية بوصفها معيارا قانونيا غير كاف، وتارة يتم التعامل معها بوصفها معيارا قانونيا كافيا! عندما يتغلغل هذا النفس العنصري في مؤسسات الدولة ليتحوّل إلى سياسة تتبنّاها السلطة التنفيذية، فلا غرابة في تفتيت نسيج المجتمع وزرع الفرقة بين أفراده من جانب، وشنّ حرب لاإنسانية على شريحة اجتماعية لم تُنصفها الحكومات المتعاقبة من جانب آخر.

بطبيعة الحال، "الجنسية الكويتية مُكلفة" حسب قاموس أعضاء نادي المعتوهين، ولهذا هُم ضدّ توسيع دائرة المُجنّسين، أي هُم ضدّ مشاركة ثروات البلد مع شريحة اجتماعية يعيش أغلب أفرادها ظروفا مادية تزداد سوءا في ظل السياسة اللاإنسانية لما يُسمى "الجهاز المركزي"، ومع ذلك لم ولن نسمع من أعضاء نادي المعتوهين نبرة احتجاج واحدة ضدّ استئثار عوائل لا يتعدّى عددها أصابع اليد الواحدة بالنصيب الأكبر من ثروات البلد!

بطبيعة الحال أيضا، "التجنيس سيجلب العادات الدخيلة" إلى نادي المعتوهين، وكأنّ الكويت لم تكن عبر تاريخها مجتمعا مفتوحا اختلطت فيه اللهجات والأعراق والمذاهب، وكأنّ ثقافتها لم تتأثر أبدا بالهند شرقا وأفريقيا غربا! لكن العقلية العنصرية لا تزدهر إلّا في ظلّ مجتمع منغلق، حتى لو تطلّب الأمر اقتصار أفراد هذا المجتمع المنغلق على حفنة من المعتوهين!

الثلاثاء، 14 أغسطس 2018

حوار الأديان: المفهوم والمضمون


حوار الأديان: المفهوم والمضمون
 فهد راشد المطيري
(بحث نُشر في مجلة الثقافة العالمية، نوفمبر-ديسمبر 2016)

1.    مقدمة
الحوار وسيلة من شأنها المساهمة في تسوية الخلاف بين طرفين بطريقة سلمية، واللغة هي وسيلة للحوار، وهي أيضا قدرة طبيعية تقتصر على فصيلة الإنسان، واستناداً إلى هذه الحقائق، بوسعنا أن نصل إلى استنتاج  مفاده أنّ البشر هم الوحيدون الذين يتمتعون بفرصة حلّ خلافاتهم بطريقة سلمية، وهنا تحديدا تبرز أهمية "الحوار" بوصفه تأكيدا لمدنيّة الإنسان، وهي مدنيّة تتجلى من خلال اتخاذ وسيلة الحوار بديلاً عن كلّ وسائل العنف في أفضل الحالات، وعن العنف الفيزيائي في أسوئها.

حوار الأديان هو حوار موضوعه الأديان، أي أنه حوار حول الأديان، وعندما نتجاوز موضوع الحوار إلى هوية طرفيْ الحوار، فإنّ الحوار حول الأديان يتخذ شكلين: حوار بين الأديان، وحوار مع الأديان. يعبّر الشكل الأول عن الحالة التي تُمثّل فيها الأديان طرفي الحوار، أي حوار ديني-ديني، في حين يشير الشكل الثاني إلى الحالة التي تُمثّل فيها الأديان طرفا واحدا من العلاقة، أي حوار ديني-علماني، وينصبّ اهتمام هذا البحث على الدفاع عن القضية التالية: لا جدوى من تشجيع الحوار الديني-الديني من دون تشجيع الحوار الديني-العلماني.  

يناقش هذا البحث "حوار الأديان" مفهوماً ومضموناً، فأما من حيث المفهوم، يستند البحث إلى التحليل المنطقي لمفهوم "الحوار" بشكل عام، ومفهوم "حوار الأديان" بشكل خاص، وذلك بغرض التعرف على (1) العلاقات المنطقية التي يتضمنها هذا المفهوم، و(2) خواص الحوار الجوهرية، و(3) طبيعة الحوار الديني، وأمّا من حيث المضمون، فإنّ البحث يستعين بملامح من تاريخ الحوار بين الأديان بغرض الوقوف على طبيعة الحوار الديني-الديني من جانب، والتعرف على أوجه القصور في هذا الحوار من جانب آخر، كما يحاول البحث أيضا التدليل على أهمية الحوار مع الأديان في إضفاء قيمة حقيقية على الحوار بين الأديان، سواء كان هذا الحوار الأخير مواجهة ابستمولوجية تنشد الحقيقة، أو كان تسوية وجودية تنشد التعايش[1].

2.    مفهوم الحوار
لا تسعفنا قواميس اللغة العربية في تحديد ماهية الحوار، فالقول – مثلا – بأنّ الحوار هو "تراجع الكلام بين طرفين" يبلغ من الاتساع بحيث يشمل إلى جانب "الحوار" مفاهيم أخرى مثل "المناظرة" و"الجدال" وحتى "التسامر"[2]، وهذه نتيجة طبيعية لتعريف لا يذهب إلى أبعد من التحليل المنطقي لمفهوم "الحوار"، فمن الناحية المنطقية الصرفة، يشير هذا المفهوم  إلى علاقة ثنائية-انعكاسية: هي ثنائية لأنها تقوم بين طرفين، محاوِر ومحاوَر، بصرف النظر عن عدد المتحاورين على طرفي العلاقة؛ وهي انعكاسية لأنّ الطرفين يتبادلان الأدوار بين متكلم تارة، ومستمع تارة أخرى. بطبيعة الحال، لا تقتصر هذه العلاقة الثنائية-الانعكاسية على مفهوم "الحوار"، بل تتعداه إلى كل أشكال الحديث بين طرفين، وإذا كان لا بدّ من الوقوف عند ماهيّة الحوار، فلا مناص من تحديد تلك الخواص التي يمتاز بها "الحوار" عن أشكال الحديث الأخرى.

بإمكاننا التعرّف على  هذه الخواص بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال تحديد الأسباب التي تدفعنا إلى استبعاد أشكال الحديث الأخرى من نطاق مفهوم "الحوار"، فمثلا، التسامر بين طرفين ليس حوارا لأنّ الحديث في هذه الحالة يفتقر عادة إلى موضوع محدد، والمناظرة ليست حوارا لأنها تُخضع ثنائية الإقناع والاقتناع إلى ثنائية الفوز والخسارة، والجدال ليس حوارا لأنه إلى إضعاف حجة الخصم أقرب منه إلى البحث عن الحقيقة، ومن هنا فإنّ باستطاعتنا القول إن مفهوم "الحوار" يمتاز بالخواص التالية: (1) وجود موضوع محدد، و(2) تكافؤ قابلية الإقناع مع قابلية الاقتناع، و(3) البحث المخلص عن الحقيقة. دعنا نرى ما تنطوي عليه كل خاصية من هذه الخواص تِباعاً.

لكل حوار أركان، وموضوع الحوار هو أحد هذه الأركان، فالموضوع هو بمنزلة الإطار الذي يرسم حدود "فضاء الخطاب" (space of discourse)، وكلما كانت هذه الحدود واضحة المعالم، ازدادت مساهمتها في تحقيق التواصل الإيجابي بين طرفي الحوار، ولكن هذا يفترض ضمنا أكبر قدر ممكن من إلمام كلا الطرفين بطبيعة موضوع الحوار، ومن هنا فإنّ القول بضرورة ارتباط الحوار بموضوع محدد ينطوي في آخر المطاف على ضرورة أن يتمتع المتحاورون بالحدّ الأدنى من الكفاية المعرفية حول موضوع الحوار.

ماذا عن الخاصية الثانية لمفهوم "الحوار"، أي خاصية التكافؤ بين قابلية الإقناع وقابلية الاقتناع؟ هناك ثلاث نقاط تجدر الإشارة إليها في معرض إجابتنا عن هذا السؤال. أولا، لا معنى للحديث عن ثنائية الإقناع والاقتناع من دون وجود اختلاف حقيقي بين المتحاورين من حيث وجهات النظر حول موضوع الحوار. إنّ الحوار الذي يفتقر إلى اختلاف حقيقي في وجهات النظر لا يعدو أن يكون مجرّد تأكيد على صحة وجهة نظر مشتركة بين طرفي الحوار. ثانيا، لا معنى للحديث عن ثنائية الإقناع والاقتناع من دون وجود اعتراف حقيقي من قِبل طرفي الحوار بعدم احتكار أيّ منهما للحقيقة المتعلقة بموضوع الحوار. إنّ المحُاور الذي لا يرى في الحوار إلّا طريقا باتجاه واحد لا يخلّ بمفهوم الحوار فحسب، بل إنه يمنح نفسه من دون مبرر درجة ابستمولوجية أرقى من تلك التي يضفيها على الطرف الآخر[3]. ثالثاً، إن نجاح طرف في إقناع طرف آخر بوجهة نظر معينة يفترض ضمنا وجود آلية إقناع متفق عليها بين الطرفين، وليس غريبا أن تكمن هذه الآلية في تلك القوانين المنطقية التي تحكم طُرق التفكير السليم، فمن المعروف تاريخيا أن علم المنطق ارتبط منذ نشأته بمفهوم الحوار، حيث كان أرسطو ينظر إلى المنطق بوصفه نظرية حول عملية النقاش بين طرفين[4]. لهذا كلّه، يمكن القول إنّ التكافؤ بين قابلية الإقناع وقابلية الاقتناع ينطوي على (1) اختلاف حقيقي في وجهات النظر، و(2) عدم احتكار الحقيقة، و(3) الاحتكام إلى قوانين المنطق كمعيار لآلية الإقناع.

نأتي، أخيرا، إلى الخاصية الثالثة من خواص الحوار، وهي خاصية البحث المخلص عن الحقيقة. إنّ البحث عن أيّ شيء يقتضي منطقيا الافتقار إلى هذا الشيء، والبحث عن الحقيقة ليس استثناء من هذه القاعدة.  نحن نرى – إذاً – أنّ مفهوم "الحوار" لا يقف في مقتضياته عند ضرورة عدم احتكار الحقيقة، بل إنه يتعدى ذلك إلى ضرورة الاعتراف بعدم امتلاكها في الأساس. ليست الحقيقة كتابا مفتوحا كي يدّعي أحدٌ امتلاكها، كما أنها ليست نسبية بحيث يتقاسم الجميع نُسخاً متناقضة منها. بعبارة أخرى أكثر تحديدا، ليس ثمة تناقض منطقي بين موضوعية الحقيقة من جهة، وتعذّر الوصول إليها من جهة أخرى، وهنا تحديدا إنّما تبرز أهمية الحوار من الناحية الابستمولوجية، فالحوار لا يقتصر على ضمان الوجود المشترك لأفكار متناقضة، بل إنه يضمن أيضا إمكانية تصارع الأفكار بطريقة تخطو بنا خطوة إلى الأمام على طريق الحقيقة، وهذا ما يجعل البحث المخلص عن الحقيقة أهمّ من محاولة الوصول إليها بأي ثمن.

ما تقدّم من تحليل يشير إلى ماهية "الحوار"  بوصفه شكلا من أشكال الحديث بين طرفين، بحيث يمتاز كلا الطرفين بالكفاية المعرفية الضرورية حول موضوع محدد، مع استعداد مبدئي للتعامل مع وجهة النظر المغايرة بطريقة موضوعية تحتكم إلى قواعد التفكير السليم، إلى جانب التحلّي بإيمان مخلص في البحث عن الحقيقة من خلال تداول الأفكار واختبار مدى صحتها.

بعد أن تطرقنا إلى ماهية "الحوار"، ننتقل الآن إلى مناقشة مفهوم "الحوار الديني"، بغية التعرف على طبيعته ومدى انسجامه مع مفهوم  "الحوار" بحسب التحليل الذي أوردناه.



3.    طبيعة الحوار الديني
كإطار عام لما يلي من مناقشة، سنبدأ بسؤال قد يشوبه شيء من استفزاز غير متعمد: هل يشير مفهوم "الحوار الديني" إلى تناقض لفظي؟ بمعنى آخر، هل هناك تعارض جوهري بين مصطلح "الحوار" ومصطلح "الدين"؟ الإجابة القصيرة عن هذا السؤال هي "نعم أحيانا، ولا أحيانا أخرى"، وأمّا الإجابة الطويلة فتستدعي تحديد متى تكون الإجابة "نعم"، ومتى تكون "لا"، وهذه هي المهمة التي تقع على عاتقنا فيما يلي من سطور.

ليس من الممكن فهم طبيعة الحوار الديني من دون التمييز بين حالتين لهذا الحوار: حالة عامة، وحالة خاصة. أمّا الحالة العامة للحوار الديني فتقتصر على أن يكون الدين موضوعَ الحوار، وأمّا الحالة الخاصة فتذهب إلى أبعد من ذلك بحيث يكون أحد طرفي الحوار – على الأقلّ – مُتبنّياً لوجهة نظر تستند في صحتها إلى موضوع الحوار نفسه، أي الدين[5]. يبدو من الواضح أنّ الحالة الخاصة تقتضي الحالة العامة من الناحية المنطقية، في حين أنّ العكس غير صحيح، ولهذا يبدو من الواضح أيضا أن طبيعة الحوار الديني في حالته العامة تختلف عن طبيعته في حالته الخاصة. يكمن هذا الاختلاف في حقيقة عدم وجود تعارض بين مفهومي "الحوار" والدين" عند النظر إلى الحوار الديني في حالته العامة، في حين أنّ الحالة الخاصة للحوار الديني تشير إلى وجود مثل هذا التعارض.

في سبيل توضيح هذه النقطة، لنفترض أنّنا أمام حوار موضوعه الدين ويدور بين طرفين لا ينتمي أيّ منهما إلى أيّ دين، أو – على الأقل – لا يستند أيّ منهما إلى الدين لإقناع الآخر بوجهة نظره الخاصة حول موضوع الحوار. إذا أمعنّا النظر في هذه الحالة العامة من الحوار الديني، فإننا لا نجد أيّ عائق مبدئي يحول دون إمكانية وجود حوار حقيقي حول الدين، ذلك أنّ عدم التزام طرفي الحوار بمعتقد ديني معيّن يجعل من تحقيق خواص مفهوم "الحوار" أمرا ممكنا، وبالأخص تلك المتعلقة بثنائية الإقناع والاقتناع وبالبحث المخلص عن الحقيقة. لكن عندما ننتقل إلى فحص الحالة الخاصة من الحوار الديني، فإنّ الأمر يبدو مختلفا تماما، ذلك أن التزام أحد طرفي الحوار (أو كليهما) بالحدود التي يفرضها معتقده الديني الخاص يجعل من إمكانية وجود حوار حقيقي أمراً مستحيلا[6]، وتكمن هذه الاستحالة في حقيقة أن "الدوغما" و"التعصّب" هما من بين أهم مظاهر الاعتقاد الديني، وكلاهما في تضاد مع  خواص الحوار الحقيقي[7].

يشير مفهوم "الدوغما" إلى الإيمان المطلق بصحة رأي معين، في حين يشير مفهوم "التعصّب" إلى الدفاع المستميت عن صحة رأي بأي ثمن. هناك – إذاً – اختلاف طفيف بين هذين المفهومين، فالأول يعبّر عن موقف، والثاني يعبّر عن ممارسة، كما أنّ "الدوغما" شرط ضروري لوجود "التعصب"، ذلك أن من غير المعقول أن يُدافع المرء بشراسة عن رأي لا يُؤمن بصحته. هنا تحديدا يكمن التضاد بين مظاهر الاعتقاد الديني وخواص الحوار الحقيقي، فالإيمان المطلق بصحة المعتقد الديني والدفاع المستميت عنه لا يسمحان بإمكانية تكافؤ قابلية الإقناع مع قابلية الاقتناع، كما أنّهما يتضمّنان مبدأ عدم التنازل عن امتلاك الحقيقة، وهو مبدأ يتعارض مع البحث المخلص عن الحقيقة.

إنّ الدين في جوهره يشتمل على نظرية عامة عن الكون بكلّ ما فيه، لا سيّما الحياة ومعناها الأسمى، لكن ليس من الممكن أن تكون أي نظرية موضوعا لحوار حقيقي في ظل وجود التزام مسبق بصحة النظرية، ولهذا فإنّ  التزام أحد طرفي الحوار بصحة معتقده الديني يتناقض مع مفهوم الحوار بوصفه بحثا مخلصا عن الحقيقة، فمن يدّعي امتلاك ناصية الحقيقة لا يبحث عنها أبدا، فضلا عن أن يُخلص في طلبها. تنبغي ملاحظة أنّ هذا التعارض بين مفهومي "الحوار" و"الدين" لا يعدو أن يكون نتيجة طبيعية لتعارض آخر بين مفهومي "العلم" و"الإيمان"، ولعلّ أهم ملمح من ملامح هذا التعارض الأخير يكمن في مفهوم "الشك"، فالشك مُفيد للعلم، مُفسدٌ للإيمان.

لكن ماذا لو كان الهدف من الحوار الديني شيئا آخر غير البحث عن الحقيقة؟ هذا السؤال يقودنا إلى الوقوف مليا عند مضمون الحوار الديني، وخصوصا عند ما يُطلق عليه "حوار الأديان"، وهذا هو موضوعنا في القسم التالي والذي سنحاول من خلاله استعراض الأهداف المحتملة لمثل هذا الحوار من جهة، واستعراض بعض نماذجه التاريخية بصورة موجزة[8].

4.    حوار الأديان: المضمون
سبق أن أشرنا في المقدمة إلى شكلين من أشكال الحوار حول الأديان: حوار بين الأديان، وحوار مع الأديان. سنناقش مضمون كلا الشكلين تباعا فيما يلي، مع الإشارة إلى بعض الشواهد التاريخية المتعلقة بحوار الأديان بشكل عام.

لنبدأ بسؤال بسيط ومباشر: ما الهدف من الحوار بين الأديان؟[9] هناك ثلاث إجابات محتملة – على الأقل – عن هذا السؤال، ولا تخلو كلّ إجابة على حدة من إشكالية. أولا، هناك هدف لا يبدو ممكنا من الناحية المنطقية، ونعني به هدف انتزاع اعتراف متبادل بين أتباع الأديان المختلفة بصحة كلّ دين، فلو تمّ ذلك لكان بمنزلة اعتراف متبادل ببطلان حقيقة كلّ دين، ذلك أن صحة كل دين تعتمد على بطلان حقيقة الأديان الأخرى ولو بصورة جزئية. ثانيا، هناك هدف التوصل إلى احترام متبادل بين الأديان، ولا يخلو هذا الهدف أيضاً من إشكالية، فهو يفترض ضمناً أن الأديان لا تحترم بعضها بعضاً، ولهذا السبب بالذات هي مدعوة إلى الحوار لفرض حالة من الاحترام المتبادل فيما بينها. إذا كان هذا صحيحاً، فإن الأجدر بأتباع كلّ دين أن يعيدوا قراءة تراثهم الديني لمعرفة أين يكمن منبع عدم احترام الديانات الأخرى، ولو تم ذلك لانتفت الحاجة إلى عقد حوار أساساً. ثالثا، لعل الهدف من الحوار بين الأديان يكمن في محاولة التشديد على نقاط الالتقاء وصرف النظر عن نقاط الاختلاف، وذلك بغرض ضمان التعايش السلمي بين أتباع هذه الأديان كلها. يبدو هذا الهدف معقولا، لكنه مع ذلك يشير إلى اعتراف ضمني مفاده أن الأديان غير متسامحة مع مبدأ الاختلاف، وفي حال بروز هذا الاختلاف على السطح فإن الحوار بين الأديان يصبح مستحيلاً، فضلاً عن استحالة التعايش السلمي غير المشروط بينها. يُضاف إلى ذلك ما سبق أن أشرنا إليه في معرض حديثنا عن خواص مفهوم الحوار، ونعني به ضرورة وجود اختلاف حقيقي بين طرفي الحوار، لكن يبدو أن الحوار الديني-الديني عاجز عن الجمع بين الاحترام المتبادل والاختلاف الحقيقي، ولهذا فإنه لا يعدو أن يكون مجرد  حوار يهدف إلى التأكيد المتبادل على وجهات نظر مشتركة.

لا يخلو الحوار بين الأديان من إشكالية أهدافه فحسب، بل إنّه حوار لا يخلو أيضاً من مفارقات غريبة. على سبيل المثال، الدعوة إلى حوار مسيحي- إسلامي تفترض وجود رؤية مسيحية موحدة في مقابل رؤية إسلامية موحدة، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، ولعل عام 2004 حمل معه دلالة خاصة، ففي شهر مايو من تلك السنة عُقد منتدى الوحدة والثقافة الإسلامية في البحرين تحت شعار "الوحدة الإسلامية وتحديات العولمة"، وقبله بثلاثة أشهر ألقى بابا الفاتيكان الراحل يوحنّا بولس الثاني خطاباً عاطفياً ضمن مناسبة "أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين". المفارقة الأخرى هي دعوة طرفين إلى الحوار في الوقت الذي يكون فيه كل منهما منهمكاً في سباق محموم لزيادة عدد الأعضاء، فالقارة الإفريقية كانت ولم تزل ساحة نزاع عقائدي بين الدعوة إلى الإسلام والتبشير بالنصرانية، وهو النزاع الذي شهد اتهامات متبادلة باللعب غير النظيف والتنافس غير الشريف[10]، ولا يبدو أن الطرفين يكترثان بالسؤال التالي: لماذا تكون الأسواق العقائدية رائجة في دول البؤس والفقر والحاجة؟

هناك أيضا حالة من عدم الثقة المتبادلة بين أطراف الحوار، وما من شك في أنّ لهذه الحالة ما يبررها[11]، فارتباط حركة الإرساليات التبشيرية بالقوى الغربية الاستعمارية إبّان القرون القليلة الماضية، وارتباط الحركات الجهادية في عصرنا الحاضر ببعض دور العبادة في العواصم الأوروبية، ساهما من ضمن عوامل أخرى في ترسيخ هذه الحالة من عدم الثقة والتي تقف عائقا أمام إجراء حوار حقيقي بين الإسلام والمسيحية، ولا يبدو الأمر مختلفا مع الديانة اليهودية التي وقف معظم أحبارها مع القمع الإسرائيلي لشعب فلسطين، أو البوذية التي تورّط بعض رُهبانها في الصراع على السلطة وتأجيج الاقتتال الطائفي في شرق آسيا منذ منتصف القرن الماضي. بل إننا نجد أيضا انعكاسا لهذه الحالة من عدم الثقة المتبادلة في الأدبيات المتعلقة بحوار الأديان، فعلى سبيل المثال، اتخذ الدكتور وليم سليمان في كتابه "الحوار بين الأديان" موقفا متشككا من نوايا "الطرف الآخر" في إجراء مثل هذا الحوار، وقد ذهب به الشك في بعض الأحيان إلى حدود لا تستقيم مع معطيات الواقع[12]، وتجدر الإشارة هنا أيضا إلى ما ورد في المحاضرة الشهيرة التي ألقاها بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر في عام 2006[13]، وهي المحاضرة التي أثارت ردود فعل عنيفة ومتوقعة في العالم الإسلامي، حيث استشهد البابا بحوار جرى بين قيصر بيزنطي ومثقف مسلم من بلاد فارس ليدلل على أنّ الإسلام انتشر بحدّ السيف دون الإقناع بالعقل[14]!

إلى جانب هذه الإشكاليات المتعلقة بالحوار بين الأديان، والمتمثلة بغموض الأهداف وكثرة المفارقات وانعدام الثقة، تبرز إشكاليات أخرى على مستوى الحوار مع الأديان، لعلّ أهمها تلك الناتجة عند انحسار مستويات الحرية والتسامح، وبالأخصّ في عالمنا الإسلامي. إن إمكانية وجود حوار ديني-علماني في عالمنا الإسلامي تبدو بعيدة المنال في عصرنا الراهن، ذلك أنّ مثل هذا الحوار يتطلب قدرا من الحرية والتسامح لم يزل مفقودا في ثقافتنا العربية، وقد بلغ الأمر درجة من السوء إلى الحدّ الذي أصبحنا فيه عاجزين عن رصد الخط الفاصل بين الخطاب العلماني والخطاب الديني، وهذا ما نراه بوضوح في خطاب علماني عربي مرصّع بمفردات دينية غيبية، وكأنما الأمر أشبه بضريبة يقدمها العلمانيون العرب لخصومهم في التيار الديني، شُكراً وعرفاناً لمنحهم إياهم الحق في الوجود والتعبير عن آرائهم! بل إن منهم من لا يتردد في التنظير حول ماهية "الإسلام الصحيح"، وكأن وظيفة الخطاب العلماني هي إيجاد صيغة علمانية، إلى جانب الصيغ التي تقدمها المذاهب الدينية المتناحرة، حول هوية الإسلام الصحيح! ما من شك في أنّ التخلي عن هذه المداهنة المعيبة باهظ الثمن[15]، ولكن ما قيمة الحوار المحكوم بغريزة الخوف والموسوم بغياب الندّية؟

إذا صرفنا النظر عن الإشكاليات المتعلقة بالمستويات المتدنية للحرية والتسامح، فإنّ هناك أيضا عقبات أخرى تقف على طريق الحوار الديني-العلماني، ومن أبرزها ازدواجية التعامل مع العلمانية من قِبل المؤسسات الدينية، وهي ازدواجية  تشير إلى انتهازية سياسية من جانب، واعتراف ضمني بأهمية النظام العلماني في ضمان التعايش السلمي بين الأديان والمذاهب من جانب آخر، فعلى سبيل المثال، بينما تحاول الجماعات الإسلامية في دول العالم الإسلامي التغلل إلى التشريعات والقوانين المدنية واستبدالها تدريجياً بالشريعة الإسلامية، تُصرُّ الجماعات المسيحية، وعلى رأسها الفاتيكان، على إضافة كلمة "الرب" وتعبير "التراث المسيحي لأوروبا" إلى أبجديات مسودة دستور الاتحاد الأوروبي. إنّ أمرا كهذا يحدث في الوقت الذي يُفضّل فيه كلا الطرفين، الإسلامي والمسيحي، وجود نظام علماني عند الطرف الآخر، وذلك لضمان حقوق الأقليات التابعة له، بمعنى آخر، النظام العلماني مرفوض في نطاق خريطة حدودي الدينية، لكن حبذا وجود هذا النظام عند غريمي ومنافسي كي أجبره على ضمان حقوق أتباعي الموجودين على أرضه! هذه الازدواجية في المعايير ليست غريبة عن العقلية الدينية ذات النفس الانتهازي، لكنها تحمل دلالة في غاية الأهمية: إنها تشير إلى اعتراف ديني بأن التعايش السلمي بين الأديان ممكن فقط في ظل نظام يفصل بين الدين والسياسة، وبأن فرصة الوجود غير المشروط لأي دين تحت مظلة دين آخر ضعيفة جداً، إن لم تكن مستحيلة[16].

إحدى أهم تبعات هذا الاعتراف هي أنه لا جدوى من تشجيع الحوار الديني-الديني من دون تشجيع الحوار الديني-العلماني،  ذلك أنّ من شأن المواجهة الابستمولوجية غير المقيدة والتي يتيحها هذا الحوار الأخير إفساح المجال أمام الأديان لإعادة النظر في مفهوم "الحقيقة المطلقة" ودفع أتباعها إلى التحلّي بفضيلة التواضع المعرفي[17]، وهو ما يضمن حالة من التسامح الفكري تساعد في تحقيق تسوية وجودية بين الأديان بهدف التعايش السلمي فيما بينها. 

5.    خاتمة
في مسرحية "ناتان الحكيم"، لمؤلفها الأديب الألماني جوتهولد افرايم ليسنج (1729-1781)[18]، يباغت صلاح الدين الأيوبي التاجر اليهودي "ناتان" بالسؤال التالي: هل الدين الصحيح هو اليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام؟ كانت قصة "الخواتم الثلاثة" هي الجواب الذي عثر عليه "ناتان" للتخلص من هذا السؤال الشائك، إذ تحكي القصة عن خاتم ينال كلّ من يمتلكه محبة الناس من حوله، وقد توارثت الخاتم أجيال بعد أجيال إلى أن وصل إلى أب له من الأبناء ثلاثة، ولأنه يحبّ كل واحد منهم بالقدر نفسه، احتار فيمن يرث الخاتم بعد مماته، فلجأ إلى حيلة تمكّن بواسطتها من صنع خاتمين مماثلين للخاتم الأصلي، ثم اجتمع مع كلّ ابن من أبناءه على انفراد ليعطيه خاتما،  فظن كلّ واحد منهم أنه الوريث الوحيد للخاتم، لكنهم ما لبثوا أن اكتشفوا الحقيقة بعد موت أبيهم، فاختصموا فيما بينهم عند القاضي كي يحدد من منهم يمتلك الخاتم الأصلي، فلم يكن من القاضي بعد أن تيقن من صعوبة التمييز بين الخواتم الثلاثة إلّا أن نصحهم بأن يعيش كلّ واحد منهم حياته بطريقة تجعله جديرا بالخاتم، أي أن يكون جديرا بمحبة الناس له، وليس ثمة طريق أقرب إلى قلوب الناس من التسامح مع الجميع!

تكثر الإشارة إلى هذه القصة في الأدبيات الأجنبية التي تتناول موضوع الحوار بين الأديان، ولعل ّفي ذلك دلالة على أنّ حِرْص أنصار هذا الحوار على التسوية الوجودية بين الأديان يفوق حرصهم على المواجهة الابستمولوجية، وهذا بالضبط هو المغزى من قصة "الخواتم الثلاثة"، وما من شكّ في أنّ التاريخ الدموي للحروب الدينية من جهة، وتعاظم خطر التطرف الديني في عصرنا الحاضر من جهة أخرى، جعلا من محاولة ضمان الحدّ الأدنى من التعايش السلمي بين الأديان والمذاهب ضرورة ملحة، لكن حتى مع صرف النظر عن الإشكاليات التي تعترض طريق الحوار بين الأديان والتي سبق أن أشرنا إليها، تبدو فرصة نجاح مثل هذا الحوار بعيدة المنال، ذلك أن الأديان تقف على مسافات متفاوتة من قضية التسامح، ولهذه الحقيقة أسبابهها الموضوعية، فعلى سبيل المثال، إذا كان رجل الدين المسيحي مدركا لحقيقة أن نجاح الحوار لا يتطلّب التنازل عن الأيديولوجية بقدر ما يتطلّب عدم تحصينها من النقد الصارم الذي هو قوام نجاح أي حوار، فما ذلك إلّا لأنّ المسيحية قد أُرغمت على التماهي مع تبعات عصر التنوير الأوروبي، وهذا ما يفسر ازدهار الحوار المسيحي-العلماني في الوقت الذي يكاد يكون فيه الحوار الإسلامي-العلماني منعدما، فمثل هذا الحوار يتطلب قدرا كبيرا من التسامح  لا يتسنّى إلا في ظلّ ثورة عقلية تدفع إلى التحلّي بفضيلة الاعتراف بالتواضع المعرفي، ولم تزل هذه الثورة العقلية – مع الأسف – حُلُما بعيدا عن واقع ثقافتنا العربية-الإسلامية المعاصرة.





المراجع الأجنبية
Cornille, C. (ed.) (2013), The Wiley-Blackwell Companion to Inter-Religious Dialogue, Wiley-Blackwell.
Cornille, C. (2013), “Conditions for Inter-Religious Dialogue,” in C. Cornille (ed.), The Wiley-Blackwell Companion to Inter-Religious Dialogue, Wiley-Blackwell, pp. 20=33.
Chesworth, J. (2007), “Challenges to the Next Christendom: Islam in Africa,” in F. Wijsen and R. Schreiter (eds.), Global Christianity: Contested Claims, Rodopi: Amsterdam, pp. 117-132).
Henry, C. F. H. (1969), “Confronting Other Religions,” Christianity Today, August: 31.
Krabbe, E. (2006), “Dialogue Logic,” in D. M. Gabbay and J. Woods (eds.), Handbook of the History of Logic, Elsevier, Amsterdam, pp. 665-704.
McGavran, D. (1974), The Clash between Christianity and Cultures, Washington: Canon.
McKeon, R. (ed.) (1941), The Basic Works of Aristotle, New York: Random House, Inc.
Swidler, L. (2013), “The History of Inter-Religious Dialogue,” in C. Cornille (ed.), The Wiley-Blackwell Companion to Inter-Religious Dialogue, Wiley-Blackwell, pp. 3=19.

المراجع العربية
إسماعيل، محمد الحسيني (2004)، الحوار الحفي: الدين الإسلامي في كليات اللاهوت، مكتبة وهبة، مصر.
أمجوض، عبدالحليم آيت (2012)،  حوار الأديان: نشأته وأصوله وتطوره، دار ابن حزم، الرباط.
حداد، جولييت نصري (1997)، البيانات المسيحية الإسلامية المشتركة، دار المشرق، بيروت.
الحسن، يوسف (1990)، البعد الديني في السياسة الأمريكية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
الدهان، محمد محمد (1988)، قوى الشر المتحالفة: الاستشراق، التبشير، الاستعمار، دار الوفاء، مصر.
سليمان، وليم (1976)، الحوار بين الأديان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
عبدالعزيز، زينب (1995)، الفاتيكان والإسلام، دار القدس، القاهرة.
فضل الله، محمد حسين (1994)، في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي، دار الملاك، بيروت.
الغزالي، محمد (2001)، التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، دار القلم، دمشق.
المطيري، فهد راشد (2006)، "قراءة في محاضرة بابا الفاتيكان"، الحوار المتمدن، العدد 1679.
هدايات، سور رحمان (2000)، التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة، دار السلام، القاهرة.


 الهوامش



[1] أو سواء كان هذا الحوار حوارا عِقديا أو واقعيا، بحسب التصنيف الذي وضعه السيد محمد حسين فضل الله (1994). 
[2] هكذا ورد تعريف كلمة "حوار" بوصفه تراجع الكلام في القواميس اللغة العربية مثل لسان العرب لابن منظور وتاج العروس للزبيدي.
[3] كثيرة هي الأدبيات الإسلامية المعاصرة التي لا ترى في الحوار مع الأديان الأخرى وسيلة للوصول إلى الحقيقة، بل واجبا للدفاع عن حقيقة الإسلام، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقرر أحد الباحثين العرب بكل ثقة بأن علم الكلام إنما نشأ لأنّ الإسلام يحرّم إجبار الآخرين على اعتناقه، ولذا جاء علم الكلام كوسيلة حوارية للدفاع عن الإسلام بالحجة والمنطق. انظر أمجوض (2012: 260).
[4] في بداية كتابه الشهير "المباحث" (Topics)، يشير أرسطو إلى فن النقاش بوصفه علما يبدأ من مسلّمات متفق عليها ويتجنّب الوقوع في التناقض، وقد أطلق على هذا النوع من الحوار اسم "التفكير الديالكتيكي" (dialectical reasoning). انظر: McKeon (1941: 188)، وانظر كذلك Krabbe (2006: 666-667).

[5] على سبيل المثال، الحوار بين طرفين لا يتبنى أيّ منهما وجهة نظر مستندة إلى دين معين يعبّر عمّا نسميه هنا الحالة العامة للحوار الديني، في حين أن الحوار الذي يتبنى فيه أحد الطرفين (أو كلاهما) وجهة نظر تعتمد على دين معين يعبّر عن الحالة الخاصة للحوار الديني.
[6] للوقوف على شروط نجاح الحوار الديني-الديني، انظر Cornille (2013: 20-33).
[7] قد يبلغ التعصب أحيانا درجة من التناقض بحيث يُعالج الداء بالداء، كأن يقال – مثلا – إنّ ديني وحده براء من التعصب، على العكس من الأديان الأخرى! انظر –على سبيل المثال لا الحصر – الغزالي (2001). أما فيما يخص المقارنة  غير الموضوعية لمفهوم "التسامح في الأديان" في الأدبيات الإسلامية، انظر كمثال: هدايات (2000).
[8] للاطلاع على تاريخ موجز للحوار بين الأديان، انظر Swidler (2013: 3-19).
[9] لا بدّ من الإشارة هنا إلى أولئك الذين يرفضون مبدأ الحوار بين الأديان في الأساس. انظر – على سبيل المثال – الدهان (1988) وعبدالعزيز (1995) وإسماعيل (2004). هناك أيضا أدبيات لديانات أخرى تنحو المنحى المتطرف في رفض الحوار، مثل Henry (1969) و McGavran (1974).
[10] للتعرف على بعض الطرق الملتوية والمستخدمة في الصراع الأيدولوجي بين الإسلام والمسيحية، انظر Chesworth (2007: 117-132).
[11] إضافة إلى ما نأتي على ذكره في هذه الفقرة من تبريرات، تنبغي أيضا الإشارة إلى التوظيف السياسي لحوار الأديان في خدمة الصراع الرأسمالي-الاشتراكي، ولعلّ مؤتمرات بوحمدون في حقبة الخمسينات هي المثال الأبرز على هذه الحقيقة، حيث تم استخدام الحوار الإسلامي-المسيحي في مواجهة المدّ الشيوعي. انظر حداد (1997)، وانظر كذلك الحسن (1990).
[12] علي سبيل المثال، يشير د. وليم سليمان في كتابه إلى محاضرة د. يوجين بليك، السكرتير العام الاسبق لمجلس الكنائس العالمي، التي ألقاها في مؤتمر كيوتو الشهير حول الحوار بين الأديان في عام 1970، ثم يذهب د. وليم سليمان إلى حدّ القول إن الغرض الأساسي من تلك المحاضرة  هو "أن تظلّ بلاد العالم الثالث مصدرا للمواد الخام فلا تستخدم العلم والتكنولوجيا الحديثتين لتحقيق التنمية" (انظر، سليمان، 1976، ص. 31). لقد قرأ كاتب هذه السطور محاضرة د. يوجين بليك كاملة ولم يعثر على أدنى تلميح إلى مثل هذا الغرض، كما أن التاريخ النضالي ليوجين بليك في الولايات المتحدة ضد التمييز العنصري لا يستقيم مع ما ذهب إليه د. وليم سليمان في قراءته الخاصة لتلك المحاضرة.
[13] للاطلاع على نقد موجز لمحاضرة البابا بنديكت، انظر المطيري (2006).
[14]  لا يعنينا هنا التوقف عند مضمون هذه المحاضرة التي أثارت كل هذا الاحتجاج، فآداب أوربا قاطبة طوال قرون عديدة مليئة بعبارات أكثر فجاجة، و يكفي أن نلقي نظرة سريعة على أشعار "فرانسيس كيبيدو" في الأدب الأسباني كي نتأكد من ذلك، كما أن عملية نفي الآخر و التقليل من شأنه هي عملية متبادلة بين الأديان على مر العصور، لكن ما يعنيني هنا هو الغرض من هذه المحاضرة البابوية، وهو التأكيد على أنّ الإسلام، على العكس من المسيحية، يضع الإيمان في درجة أرفع من منزلة العقل! قد يكون هذا الرأي صحيحا فيما يخصّ الإسلام، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار أن تيار الغزالي المتمثل في "تهافت الفلاسفة" هو التيار الذي ساد في تراثنا الإسلامي إلى يومنا الحاضر، و يكفي أن ننظر كيف يفسر شيخ مثل ابن عثيمين "لا إكراه في الدين"  كي ندلل على سيادة هذا التيار، لكن هل يعني ذلك أن المسيحية لا تشارك الإسلام تغليب الإيمان على العقل؟ من المستهجن حقا خلو محاضرة البابا من أية إشارة إلى الحروب الصليبية أو لمحاكم التفتيش أو لملاحقة العلماء وحرقهم مع مؤلفاتهم، فهذه كلها حقائق تاريخية تؤكد على أن الفكر المسيحي أيضا يضع الإيمان بمنزلة أرفع من منزلة العقل.
[15] يكفي التذكير هنا بقائمة المفكرين العرب الذين دفعوا حياتهم ثمنا للتعبير عن آرائهم، ومن ضمنهم المفكر اللبناني مهدي عامل الذي عبّر عن هذه الحقيقة بقوله المشهور: "إنها لمخاطرة كبرى أن يفكر المرء في واقعه باللغة العربية"!
[16] ربما نستثني من ذلك تاريخ دخول البوذية إلى اليابان وتعايشها السلمي مع ديانة "الشينتو" الأصلية.
[17] لقد ساهم عصر التنوير الأوروبي في دفع المسيحية إلى إعادة النظر في مفاهيم كثيرة، ومن ضمنها مفهوم "الحقيقة المطلقة"، ما أدى لاحقا إلى إمكانية إقامة حوار مسيحي-علماني يتمتع بدرجة عالية من التسامح والجدية (انظر، Swidler, 2013: 11).
[18] قام الكاتب الفلسطيني إلياس نصر الله حداد بترحمة المسرحية إلى العربية في عام 1932 ونشرتها مطبعة دار الأيتام بالقدس، كما قامت الكاتبة المصرية فوزية حسن مؤخرا بوضع ترجمة للمسرحية نفسها تحت عنوان "الخواتم الثلاثة"، وصدرت عن المركز القومي للترجمة.