الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

العلم والدين

في أي بلد، عندما يكون عدد دور العبادة أكبر بكثير من عدد المراكز العلمية، فإن من الغريب أن نسأل: ما هو الدين؟ لكن من الطبيعي جداً أن نسأل: ما هو العلم؟ دعنا نحاول أولاً وضع تعريف لمفهوم «العلم»، ثم لنفحص بعد ذلك مدى قدرة هذا التعريف على توضيح الفرق بين العلم والدين.
تعريف أولي: العلم هو بناء منطقي يهدف إلى تفسير ظواهر الطبيعة.
لعل القارئ لاحظ أن هذا التعريف واسع جداً، فالدين أيضا بناء منطقي يهدف إلى تفسير ظواهر الطبيعة. لنأخذ، على سبيل المثال، ظاهرة كسوف الشمس، فلو طلبت من عالم في مجال الفلك أن يضع تفسيراً لهذه الظاهرة الطبيعية، فأغلب الظن أنه سيشير إلى تصادف وجود القمر على خط مستقيم بين الشمس والأرض، وهذا التفسير العلمي نتيجة منطقية للقوانين الرياضية التي تحكم حركة الأجرام السماوية. بالمثل، لو سألت رجل دين عن هذه الظاهرة الطبيعية، فلعله يلجأ إلى تفسير غائي من خلال القول إن سبب الكسوف يعود إلى رغبة الخالق في تخويف عباده وحثهم على الاستغفار والتكفير عن ذنوبهم، وهذا التفسير الديني نتيجة منطقية لوجود خالق قادر على كل شيء.
نحن نرى، إذن، أن التعريف أخفق في توضيح الفرق بين العلم والدين، فهو تعريف يشمل الاثنين معاً، لكن في سياق التحليل السابق، كان لابد لنا من الحديث عن التفسير الديني والتفسير العلمي، لذا بدلاً من السؤال عن الفرق بين العلم والدين؟ دعنا نُعِدْ صياغة السؤال على النحو التالي: ما هو الفرق بين التفسير العلمي والتفسير الديني؟
لو عدنا إلى المثال السابق حول ظاهرة الكسوف، لوجدنا أن عالم الفلك سيدّعي أن هذه الظاهرة دليل على صحة تفسيره العلمي، بينما يؤكد رجل الدين أنها دليل على صحة تفسيره الديني، لذا لن يكون بوسعنا معرفة الفرق بين الاثنين من خلال الاعتماد على ظاهرة الكسوف بعد وقوعها، لكن ماذا عن ظاهرة الكسوف قبل وقوعها؟ بمعنى آخر، ماذا لو فحصنا قدرة كل تفسير على حدة، على التنبؤ بموعد الكسوف القادم؟ القدرة على التنبؤ هي أحد أهم الأدلة على صحة أي نظرية، لذا فسنحاول الآن إخضاع كِلا التفسيرين، العلمي والديني، لاختبار القدرة على تنبؤ موعد الكسوف القادم.
لنفترض أن عالم الفلك يزعم أن حساباته تشير إلى أن موعد الكسوف القادم سيكون في الساعة الثالثة ظهراً من يوم السبت القادم، ثم يأتي الموعد المحدد من دون أن نلاحظ أي كسوف للشمس! النزاهة العلمية ستجبر عالم الفلك على الاعتراف بخطأ حساباته الفلكية، وربما أيضا خطأ النظرية العلمية برمتها! لكن ماذا عن رجل الدين؟ إذا وقع الكسوف، فسيأتي الجواب على أنها مشيئة الخالق، وإذا لم يقع الكسوف، فسيأتي الجواب أيضا على أنها مشيئة الخالق، لكن لاحظ أن رجل الدين منسجم تماماً مع نفسه، فكلا التفسيرين نتيجة منطقية لوجود خالق قادر على كل شيء.
إذن، الفرق بين التفسير العلمي والتفسير غير العلمي يكمن في حقيقة أن الأول قابل للتزييف، بينما الثاني غير قابل للتزييف إطلاقاً! هنا نأتي إلى المعيار الذي وضعه الفيلسوف النمساوي «كارل بوبر» في كتابه الشهير «منطق الاكتشاف العلمي» (الجزء الأول، الفصل السادس)، وهو معيار نستطيع بواسطته التمييز بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية، فالنظرية العلمية تسمح لنا باختبار مدى صحتها عن طريق المخاطرة بتقديم مجموعة من التنبؤات لما سيحدث مستقبلاً، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها استعانة العالم الإنكليزي «إدموند هالي» بقوانين «نيوتن» للتنبؤ بموعد ظهور أحد المُذنّبات، إذ أكد أن الموعد سيكون في أواخر عام 1758، وقد ظهر المذنب فعلاً في الخامس والعشرين من ديسمبر من عام 1758، والمُذنّب يعرف اليوم باسم «مذنب هالي» تخليداً لذكرى ذلك العالم الإنكليزي!
ينبغي التمييز هنا بين الرجم بالغيب divination والتنبؤ العلمي scientific prediction، فالأول حصيلة تراث من الخرافة، أما الثاني فثمرة نظام رياضي محكم. أهمية مفهوم التنبؤ العلمي تكمن في وظيفته كمعيار نستطيع من خلاله تحديد هوية النظرية ومدى صحتها، فالنظرية التي لا تستطيع تقديم تنبؤات علمية قابلة للاختبار لا تنتمي إلى ميدان العلم، بل إلى ميدان الفلسفة. لاحظ أن النظرية الخطأ ليست شراً مطلقاً، فهي على الأقل تمكنت من إتاحة الفرصة لنا لاختبارها، وهذه صفة إيجابية لا تتوافر في النظريات كلها التي تقع خارج نطاق العلم!
إن السبب الذي دفع «كارل بوبر» إلى تأليف كتابه حول منطق الاكتشاف العلمي يكمن في حقيقة انبهاره من نجاح نظريتيْ النسبية العامة والنسبية الخاصة، إذ قدّم «آينشتاين» مجموعة من التنبؤات العلمية القابلة للاختبار مثل انحراف الضوء بجوار الأجرام السماوية الضخمة مثل الشمس، وقد تمكن العالم البريطاني «إدنغتون» من إثبات صحة تنبؤ «آينشتاين»! لقد اتخذ «بوبر» من نظريتيْ «آينشتاين» نموذجاً لما ينبغي أن تتصف به أي نظرية علمية، وهذا ما يفسر هجومه المشروع على نظريات أخرى تدّعي صفة العلمية، مثل نظريات «فرويد» في علم النفس، أو نظرية «ماركس» في علم التاريخ، وقد نتطرق إلى هذه النقطة في مقال قادم.

الاثنين، 14 سبتمبر 2009

الهداية المتبادلة

ينتابني أحياناً شعور غريب بأني شيطان ذو قرنين، خصوصا بعد أن أقرأ الرسائل الواردة في بريدي الإلكتروني، فأغلب تلك الرسائل تأتي من أشخاص يدعون لي بالهداية، وبالرغم من أني أبادلهم الشعور نفسه، أي أني أتمنى لهم أيضاً ما يتمنونه لي، إلا أن من الواضح أننا نختلف حول تعريف مفهوم 'الهداية': مصدر الهداية التي يعنون يقطن في مكان بعيد وراء النجوم، ومصدر الهداية التي أعني يكمن في مكان قريب تحت فروة شعر الرأس!
هناك ممن لا يكتفي بالدعوة إلى الهداية، بل يستعين أيضاً بخليط عجيب من الشتائم، لكن يبدو أن أخلاقي 'الشيطانية' تأبى أن أبادل الشتيمة بالشتيمة، لذا أراني من حيث لا أدري مُعرضاً عن الإساءة ومكتفيا بالصمت، وقبل أن أقذف بالرسالة إلى مكانها الطبيعي في سلة المهملات، أتساءل بيني وبين نفسي: كيف تستقيم الدعوة إلى الهداية مع التفنن في اختيار الألفاظ الساقطة؟!
البعض الآخر لا يلجأ إلى الشتيمة، بل يجرّب حظّه في محاولة الإقناع، وعادة ما تأتي هذه المحاولة عن طريق تضمين الرسالة بعض الروابط الإلكترونية لخطب وبرامج دينية لمشاهدتها، أي أن محاولة الإقناع ليست أصيلة، بل هي مجرد إحالة إلى جهات أخرى كي تقوم بعملية الإقناع! هنا يكمن السبب الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال، حيث أريد أن أوضح لماذا لا يستسيغ عقلي الخطاب الديني، فمن يدري؟ لعل هذا المقال يساهم أخيراً في تقليص عدد الروابط الإلكترونية التي تصلني بشكل مستمر!
بشكل عام، يحتوي الخطاب الديني على نوعين من المقولات: هناك مقولات لا أستطيع التحقق من مدى صحتها بأي وسيلة كانت، فهي لا تخضع لشروط التجربة العلمية ولا تعبّر عن نتائج منطقية، لذا لا أملك سوى أن أقف حائراً أمامها! النوع الثاني من المقولات يشير إلى معلومات قابلة للاختبار، إما بشكل مباشر عن طريق إجراء تجرية علمية، وإما بشكل غير مباشر من خلال فحص ما ينتج عنها، وفي كلتا الحالتين أجدني مضطراً لرفضها، لأنها تخفق دائماً في تجاوز الاختبار! سأتجاوز النوع الأول من المقولات لأني لا أريد أن أكلّف القائمين على 'الجريدة' ما لا يطيقون، خصوصاً في ظل قانون المطبوعات السخيف، لكن سأكتفي بمثال واحد بخصوص النوع الثاني من المقولات.
قبل فترة قصيرة، بعثت لي قارئة برابط إلكتروني لبرنامج ديني، وطلبت مني أن أدلي برأيي حول مضمونه، والبرنامج من تقديم أحد الذين اشتهروا بالتهريج وحب الإثارة، وأما الموضوع فيتعلق بفوائد الحجاب بالنسبة للمرأة، ومن ضمن الحجج التي استعان بها مقدم البرنامج تلك التي وردت في درس ديني لأحد مشايخ الأزهر، ومضمون الحجة كالتالي:
'في مجتمع مسلم محافظ، حيث تلتزم جميع النساء باللباس الشرعي، لا يشعر الرجل بأن الدهر قد أفسد جمال امرأته، فهي تبدو دائما في عينيه المرأة الأجمل، لأنه لا يرى جمال النساء الأخريات نظراً لارتدائهن اللباس الشرعي، لذا فإن فرصة إخلاصه لزوجته ستكون كبيرة جدا!'
ليس بوسعي أن أختبر صحة هذه الحجة بطريقة مباشرة، فليست هناك دراسة علمية تثبت صحتها، كما أني لا أملك مقياسا أقيس بواسطته معدل إخلاص الزوج لزوجته! لكن لحسن الحظ، بإمكاني أن أختبر صحة هذه الحجة بطريقة غير مباشرة، وهي طريقة تعرف باسم 'البرهان غير المباشر' أو reductio ad absurdum، أي أني سأسلّم بصحة الحجة كي أتمكن من فحص ما يترتب على القبول بصحتها.
حسنا، لنفرض أنك تعيش في مجتمع مسلم وأنك متزوج من امرأة ترتدي اللباس الشرعي، ثم تقول لها: يا زوجتي العزيزة، ما رأيك في إخلاصي لك؟ حمدا لله يا زوجتي العزيزة أننا نعيش في مجتمع مسلم لا يقبل بوجود امرأة لا ترتدي اللباس الشرعي، وإلا فإن إخلاصي لك لن يساوي فلساً واحداً، وسترينني أقفز كالذئب على أول امرأة أراها في الشارع!
هذا بالضبط ما سينتج عن هذه الحجة المتهافتة لو كانت صحيحة، وهي إن دلت على شيء فإنها تدل بلا شك على أن مفهوم الإخلاص رخيص جداً! لاحظ أيضا أن القبول بصحة هذه الحجة العقيمة يعني استحالة إخلاص الزوج لزوجته في مجتمع غير مسلم، وهو أمر ينافي الواقع، بل لعلّ الأقرب إلى الحقيقة هو أن الإخلاص من هذا النوع يوجد في المجتمعات غير المسلمة أكثر من وجوده في المجتمعات المسلمة، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار مسألة تعدد الزوجات.
أخيراً، لست أدعو أحداً إلى عدم الاستماع إلى الخطاب الديني، فكل شخص حر في اختيار طريقة استغلال وقت فراغه، لكني أدعو فقط إلى اختبار صحة المقولات التي يتضمها هذا الخطاب، وهنا تحديدا يكمن معنى الهداية التي أتمناها بصدق لبعض القراء ممن أغرقوا بريدي الخاص بروابطهم الإلكترونية!

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

المعالجة السطحية للديمقراطية الكويتية

سنحتفل بعد سنوات قليلة بمرور نصف قرن على صدور الدستور، وبعدها بسنوات قليلة أيضاً، سنحتفل بمرور نصف قرن على إنشاء جامعة الكويت، ولعل أنسب طريقة للاحتفال بهاتين المناسبتين هي أن نعيد تقييم البحوث العلمية التي تناولت مسيرة الديمقراطية الكويتية، وذلك بغرض التعرّف على مدى مساهمة تلك البحوث في مساعدتنا على فهم تاريخنا السياسي. لو سلّمنا بقدرة البحوث العلمية على تجاوز المحيط الأكاديمي والتأثير في تشكيل الرأي العام، ولو قبلنا بحقيقة أن الرأي العام يفتقر إلى نظرة عميقة في فهم مسيرة الديمقراطية الكويتية، فإن النتيجة المنطقية هي أن البحوث العلمية هي المسؤولة عن المعالجة السطحية للديمقراطية الكويتية.
في روايته الخالدة 'الحرب والسلام'، يسخر الأديب الروسي الشهير 'تولستوي' من التفسير السطحي للأحداث التاريخية، حيث يرى أنه تفسير يعتمد على الربط بين الأحداث والأشخاص، من دون أدنى اعتبار للظروف الموضوعية التي تشكّل المحرّك الأساسي لعجلة التاريخ. إن أبرز سمات التفسير السطحي للتاريخ تكمن في الاعتماد على شخصية 'القائد العظيم' أو شخصية 'الدكتاتور الشرير'، فكلاهما مسؤول عن تحديد مسار التاريخ حسب هذه القراءة السطحية للأحداث التاريخية. بعبارة مختصرة، 'تولستوي' يخبرنا أن التاريخ لا يصنعه مجموعة من الأشخاص، مهما بلغت عظمتهم، ومهما بلغ جبروتهم.
لعل أبرز مثال على هذا النمط من التفسير السطحي للتاريخ هو ما نجده في كتاب 'الفهرست' لابن النديم، حيث نشاهد كيف تم ربط حركة الترجمة الأولى في التاريخ الإسلامي بشخصية الخليفة المأمون وزيارة 'أرسطو' للخليفة في منامه (انظر 'الفهرست'، صفحة 244). لو قبلنا بهذا التفسير السطحي لإحدى أهم حركات الترجمة في التاريخ الإنساني، فإن المحصلة هي أنه لولا زيارة 'أرسطو' للمأمون في منامه، لضاعت أغلب الأدبيات والعلوم اليونانية إلى الأبد!
لكن يبدو أننا مازلنا نتخذ من 'ابن النديم' مثالاً يحتذى به في فهمنا لتاريخنا السياسي، فعادة ما يتم الربط بين الديمقراطية الكويتية وشخصية الأمير الراحل عبدالله السالم، وهناك من يعتقد أنه كلما تعرفنا على ملامح هذه الشخصية، ازدادت قدرتنا على فهم الأسباب التي تقف خلف نشأة الديمقراطية الكويتية! إذا كنا ننسب الفضل في نظامنا الديمقراطي إلى شخصية 'القائد'، فهل من المستغرب أن نعقد آمالنا في استمرار الديمقراطية على شخصية 'القائد' أيضاً؟ بمعنى آخر أكثر تحديدا، شبح 'الحل غير الدستوري' يستمد قوته من هذا الربط السطحي بين شكل الحكم وهوية الحاكم، ولعل تعبير 'خصوصية الديمقراطية الكويتية' يشير في واقع الأمر إلى أن ديمقراطيتنا هبة أكثر منها حقا مكتسبا، وهي كذلك فعلا ما لم نتخلّص من هذا التفسير السطحي لتاريخنا السياسي (بودّي أن أسهب أكثر في توضيح هذه النقطة، لكن 'خصوصية الديمقراطية الكويتية' لا تسمح بذلك!)
هذه المعالجة السطحية للديمقراطية الكويتية لا تقتصر فقط على الجانب التاريخي، بل تتعدّاه إلى أبسط المفاهيم المرتبطة بأي نظام ديمقراطي. لنأخذ، على سبيل المثال، مفهوم 'إرادة الأمة' الذي يتردد كثيرا في الندوات السياسية، حيث يأتي عادة في سياق التذكير بأحداث تاريخية مثل تزوير الانتخابات والانقلابات السابقة على الدستور، أو في سياق الحديث عن مشكلات تقنية تتعلق بالعملية الانتخابية مثل تعديل الدوائر أو تجديد النظام الانتخابي. حسنا، لنفترض وجود انتخابات نزيهة خالية من شراء الأصوات أو تزوير صناديق الاقتراع، ولنفترض أيضا أن هذه الانتخابات النزيهة تمت وفق نظام الدائرة الانتخابية الواحدة، ولنطرح بدورنا السؤال التالي: هل يحق لنا أن نستنتج من هذه الحالة الافتراضية أن صناديق الاقتراع مرآة صادقة لإرادة الأمة؟ إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فإن كل ما بوسعنا استنتاجه هو أن صناديق الاقتراع مرآة صادقة لأثر 'البروباغندا' بجميع أشكالها في توجيه الرأي العام وتحديد نتائج الانتخابات.
عندما يدلي أغلب المواطنين بأصواتهم الانتخابية تحت تأثير المذهب الديني أو الانتماء القبلي أو العائلي، فهل من المعقول أن نتحدث عن 'إرادة الناخب'، ناهيك عن 'إرادة الأمة'؟ من جانب آخر، نجاح إعلان تجاري في زيادة الطلب على منتوج معين يدلّ فقط على جودة الإعلان، لا جودة المنتوج! بالمثل، نجاح حملة انتخابية في زيادة الرصيد الانتخابي لمرشح معين يدلّ فقط على جودة الحملة، لا جودة المرشح! لكن لاحظ أن العامل المشترك بين الحالتين هو نجاح 'البروباغندا' في شلّ قدرتنا على التفكير، وغياب التفكير يعني غياب الإرادة!

الأربعاء، 2 سبتمبر 2009

طالب علم في ورطة

سألت شاباً سوري الجنسية عن آخر أخبار رسالة الدكتوراه التي يعدها منذ بضع سنين، فأجابني بلهجة أهل حلب: 'يا خاي والله العظيم أنا في ورطة'! سألته من جديد عن طبيعة هذه 'الورطة'، فأخبرني أنه سافر من بريطانيا إلى سورية لجمع بعض البيانات المتعلقة بموضوع بحثه العلمي، وبعد عودته إلى مكان دراسته في بريطانيا، قام بتحليل تلك البيانات على ضوء النظرية العلمية التي يتبناها في بحثه، لكنه اكتشف أن أغلب البيانات جاءت متناقضة مع مبادئ النظرية، وهي نظرية تحظى بشعبية كبيرة في أحد ميادين العلم وصاحبها مفكر أميركي مشهور!
أعترف بأني لم أفهم أين تكمن الورطة، ذلك أن من الطبيعي أن تكون قدرة كل نظرية علمية على التفسير نسبية ومحدودة، كما أن هناك مبدأ عاما في فلسفة العلم يشير إلى أن النظرية التي تدّعي تفسير كل شيء لا تفسر أي شيء، ولعلّ هذا المبدأ ينطبق بشكل ملحوظ على كتابات الدكتور زغلول النجار وغيره من المهتمين بكتب ما يسمى بالإعجاز العلمي.
طلبت من صاحبي أن يأخذني 'على قد عقلي' كي يوضّح لي أين تكمن المشكلة، فأشار إلى أنه لا يستطيع إنجاز الرسالة من دون أن تأتي البيانات منسجمة مع النظرية، لذا فإن جهده الآن منصبّ على كيفية 'تعديل' البيانات بطريقة تضمن انسجامها مع الجانب النظري للرسالة!
استغربت من هذا الحرص الشديد على إثبات صحة نظرية لمجرد أنها تحظى بشعبية كبيرة، وأن من يقف وراءها عالم أميركي مشهور! لم يكن هناك أشهر من 'أرسطو' في القرون الوسطى، ورغم ذلك جاء 'جاليليو' ليقلب الطاولة على التعاليم البالية لأرسطو في مجال الفيزياء! لولا أن أظهر 'نيوتن' تحديا لفلسفة 'ديكارت' الميكانيكية، لما أصرّ على التمسك بمبدأ 'التأثير عن بعد' الذي يرتكز عليه قانون الجاذبية، ولولا مبادرة 'آينشتين' إلى الشك في مبدأ 'نيوتن' لما تعرّفنا على أعظم نظرية في القرن العشرين، ولولا تحدّي 'داروين' لتعاليم الكنيسة حول أصل الإنسان لما تعرّفنا على جذورنا الطبيعية!
اقترحت على صاحبي أن يتمسك بالنتائج التي تناقض صحة النظرية، فبهذه الطريقة سيكون موضوع رسالة الدكتوراه أكثر إمتاعاً من الناحية العلمية الصرفة، فبدلا من التسليم السلبي بصحة النظرية، لابد من إظهار نوع من التحدي الإيجابي، وهنا تحديداً تكمن متعة البحث العلمي! لكن جاء ردّ صاحبي مخيبا للآمال، وباللهجة الحلبية أيضا: 'يا خاي شو هل العلاق الفاضي، بدنا نخلص ونمشي'!
لم يبق في جعبتي سوى سلاح واحد، لذا حاولت أن أذكّر صاحبي بأن هناك بعض الشروط لإنجاز رسالة الدكتوراه، أهمها الالتزام بالنزاهة العلمية، لذا فإن إصراره على التغاضي عن تلك النتائج المناقضة للنظرية يعدّ خرقاً واضحاً لمفهوم النزاهة العلمية!
أجاب صاحبي بنبرة غاضبة بأنه لم يسرق كي أتهمه في عدم التقيد بالنزاهة العلمية!
إجابة صاحبي تدل بوضوح على المستوى المؤسف للبحث العلمي في عالمنا العربي، فالنزاهة العلمية أصبحت مقتصرة فقط على عدم سرقة جهد الآخرين، ومع تزايد عدد السرقات واللصوص، اختفى المعنى العميق لمفهوم النزاهة العلمية، وهذا موضوع مهم أرجو أن تسمح لي الظروف في أن أتطرّق إليه في مقال قادم.