السبت، 1 سبتمبر 2018

لماذا ينبغي لقضية "البدون" أن تكون أولوية الأولويات؟


لنبدأ بتوضيح الواضح لتفادي أي التباس حول عنوان هذا المقال. مصطلح "أولوية" يقتضي منطقيا وجود مجموعة لا يقلّ عدد ما تحتويه من عناصر عن اثنين، وسواء أشارت هذه العناصر إلى أشياء أو أشخاص أو حتى إلى قضايا معينة، فإنّ مصطلح "أولوية" يقتضي دلاليّا وجود تراتب من حيث حجم الأهمية بين محتويات المجموعة، وعندما نقول إنّ القضية الفلانية هي "أولوية الأولويات"، فإننا بطبيعة الحال لا ننكر أهمية القضايا الأخرى، بل نشير فقط إلى أنّ القضية الفلانية تفوق من حيث حجم الأهمية كلّ القضايا الأخرى، وأريد من خلال هذا المقال أن أدافع عن العبارة التالية: قضية "البدون" في الكويت هي أولوية الأولويات.

كل متابع للشأن الداخلي في الكويت يُدرك أنّ قضية عديمي الجنسية (أو "البدون") لم تعد مقتصرة على موضوع الجنسية، بل تفاقمت في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص لتتحوّل من قضية جنسية إلى كارثة إنسانية، والسبب لمن لا يجبنون عن تسمية الأشياء بأسمائها يكمن في الاستراتيجية التي يتبنّاها "الجهاز المركزي" في تعامله مع فئة اجتماعية يبلغ عدد أفرادها عشرات الآلاف على أقل تقدير، وأمّا مضمون تلك الاستراتيجية فلم يعد خافيا على أحد: اخنق "البدون" إلى أن يكفّ عن الصراخ بأنّه "بدون"، وتجسيد هذه الاستراتيجية على أرض الواقع هو ما نراه اليوم في سياسات عنصرية ولاإنسانية تواطأت من خلالها كل أجهزة الدولة مع "الجهاز" على وأد أمل الإنسان "البدون" في الحصول، ليس على الجنسية وحسب، بل على التعليم والتطبيب وحرية الحركة، ثم تمادت في غيّها لتصل إلى أموال الزكاة ولم ترحم حتى الأطفال.

لا أجد مصطلحا أنسب من مصطلح "ابتزاز" لوصف هذه الاستراتيجية العنصرية واللإنسانية تجاه "البدون"، ذلك أن لكل سلوك ابتزازي شرطين كافيين لوجوده: الإكراه والتهديد، وكلاهما متوافر بكميات كبيرة في سياسات "الجهاز المركزي" ضد "البدون"! كل هذه السياسات القمعية هي من أجل إنجاح الاستراتيجية إيّاها، فإمّا أنْ يجد "البدون" له وطنا في الخارج، وإمّا أنْ نجد له قبرا في الداخل! أقولها بألم صادق، لا ساخرا ولا مُنتقصًا: لو كُنّا ككويتيين شعب الله المختار، كم سيبلغ ثمن تذكرة الانضمام إلينا؟ من الصعب تحديد رقم معيّن، ولكن من الواضح أنّ الثمن سيكون أغلى من ثمن سحق كرامة الإنسان، فهذا الثمن الأخير يدفعه "البدون" في زمن نحن فيه أبعد ما نكون عن شعب الله المختار.

على ضوء ما تقدّم، يصبح من الطبيعي النظر إلى قضية "البدون" بوصفها قضية إنسانية بامتياز، أي أنها قضية ليست مرتبطة بالإنسان وحسب، بل هي قضية متّصلة بالإنسان من حيث هو إنسان، ولهذا عندما نقارن بين هذه القضية وقضايا أخرى مثل "الرقابة على الكتب" أو "حقوق المرأة"، فإنّ من الواضح أنّنا أمام قضايا ترتبط جميعها بالإنسان، لكن وحدها قضية "البدون" هي  القضية المرتبطة بالإنسان من حيث هو إنسان، ذلك أنّ الوصاية على القارئ فيها انتقاص لمبدأ حرية الاختيار، والوصاية على المرأة فيها انتقاص لمبدأ المساواة، وأمّا الوصاية على "البدون" فلا تنتهك هذين المبدأين وحسب، بل تذهب إلى أبعد من ذلك من خلال التعدّي السافر على أبسط حقوق الإنسان! ثم ما قيمة أن يدافع القارئ الكويتي عن حقه في اختيار كتابه المفضّل في الوقت الذي لا يكترث فيه بجاره "البدون" الذي حُرم أطفاله من حقّهم في تعلّم القراءة والكتابة؟ ما قيمة أن تنتفض المرأة الكويتية للمطالبة بمساواتها مع الرجل في الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى المرأة "البدون" التي لا تجد من الحقوق ما يجده الحيوان نفسه، مثل التطبيب وحرية الحركة وغيرهما من ضمن أبسط الحقوق المشروعة؟

الاعتصام، بوصفه وسيلة احتجاج مشروعة، يعكس حيوية المجتمع ومدى تفاعل أفراده مع قضايا الشأن العام، ولكنه يشير أيضا إلى الأولوية التي يُضفيها أفراد المجتمع على قضاياهم، ومن المؤسف أنّنا في الكويت لا نستطيع حتى أن نقول إنّ الأولويات مقلوبة لَديْنا، لأنها لو كانت كذلك، لكان في مقابل الاعتصامات العديدة التي أُقيمت من أجل "الكتاب" أو "المرأة" اعتصامٌ واحدٌ على الأقل تدعو إليه أي جهة غير حكومية احتجاجا على تعسّف "الجهاز" ضد "البدون"! إنّ التفسير المعقول لذلك هو أننا (كجماعات وليس كأفراد) لا نكترث بقضية تعسّف "الجهاز" ضدّ "البدون"، وعدم الاكتراث ناتج، ليس عن تفاوت في مقدار الأهمية التي نوليها للقضايا الأخرى بالقياس إلى هذه القضية، بل هو ناتج عن عدم وجود اكثراث من الأساس! عندما يكون ذهابك إلى المسرح بواقع خمس مرات في السنة في مقابل مرتين لذهابك إلى المتحف، فإنّ باستطاعتك أن تقول إنّك تهتمّ بالمسارح أكثر من اهتمامك بالمتاحف، ولكن عندما تتكرر زياراتك إلى المسرح في الوقت الذي لم تطأ فيه قدماك أي متحف، فإنّ من العدل أن نقول إنّك لا تكثرث بزيارة المتاحف على الإطلاق. لا يبدو الأمر مختلفا عندما نقارن بين موقفنا كمجتمع من قضية تعسّف "الجهاز" ضدّ "البدون" وموقفنا من القضايا الأخرى.

لست أقلل من أهمية الاعتصام من أجل القضايا الأخرى على الإطلاق، ولكنّي أؤكد وبضمير مرتاح أنّ هذه القضية رغم فداحتها لا تُشكّل أولوية في محيطنا السياسي-الاجتماعي، ذلك أن مفهوم التظاهر لدينا يفتقر إلى قيمة إنسانية، ولهذا نقف متفرّجين أمام قضية "البدون"، تماما كما نقف متفرّجين على انتهاك حقوق العمالة الأجنبية وظروفها المعيشية المزرية دون أن نُحرّك ساكنا، بل دون أن تخطر في بالنا فكرة الاعتصام!