الجمعة، 31 يوليو 2009

الدين والأدب

أثناء عطلة نهاية الأسبوع الماضي، قضيت وقتاً ممتعاً في قراءة نص مسرحية 'تاتانيا'، والنص من تأليف الأستاذ بدر محارب، وأما أحداث المسرحية فتدور في قرية معزولة اسمها 'تاتانيا'، يعيش فيها أناس أميّون لا يحسنون القراءة أو الكتابة، ويتحكم في إدارة شؤونها رجل دين يدعى القس 'بيير'.
يصل إلى القرية المدرس 'رامون'، محاولاً إخراج أهلها من الظلمات إلى النور، لكنه يكتشف صعوبة المهمة التي جاء من أجلها، فأهل القرية أسرى لأوامر القس ونواهيه، يطيعون كلمته ويخشون سطوته!
وبعد محاولات عديدة، ينجح 'رامون'، أو هكذا يظن، في إقناع أهل القرية بالوقوف ضد القس والتمرد على سلطته، فيثور القس غضباً ليتهم المدرس بأنه 'ملحد وكافر وزنديق'، ثم يأمر بالقبض عليه وإيداعه السجن بتهمة إفساد عقول أهل القرية وتأليب قلوبهم ضد تعاليم الرب، وتتوالى الأحداث بعد ذلك إلى أن يكتشف القارئ ما لم يكُن في الحسبان!
من الواضح أن المسرحية لم تقع في 'المحظور'، فانتقاد سطوة رجال الدين جاء من خلال إطار الدين المسيحي، كما أن موضوع 'الإلحاد' لم يكن موضوعاً مركزياً، بل مجرد 'تهمة' عابرة وقد تكون غير صحيحة! هنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف سيكون شكل الأدب العربي، يا ترى، لو كانت لدى المبدعين العرب حرية مطلقة في التعبير عن إبداعهم الأدبي؟ من الصعب العثور على إجابة مباشرة عن هذا السؤال، فالإبداع الأدبي لا يخضع لقدرتنا على التنبؤ، لكن بإمكاننا على الأقل أن نحصل على إجابة غير مباشرة، من خلال إلقاء نظرة سريعة على بعض الأمثلة من الأدب العالمي، حيث نشاهد كيف تم انتقاد التراث المسيحي من الداخل، أي على أيدي أبنائه.
في رواية 'الأخوة كارامازوف' لدوستويفسكي، يسرد الأخ الملحد 'إيفان' على أخيه المؤمن 'أليوشا' حكاية تدور أحداثها في مدينة إشبيلية، حيث يعود السيد المسيح من جديد ويتعرف عليه أهل المدينة من خلال أعماله الخارقة للطبيعة، لكن السيد المسيح اختار وقتاً غير مناسب لعودته، فالزمن هو زمن التشدد الديني ومحاكم التفتيش!
وبعد أن ذاع الخبر بين الناس، أصدر رئيس محاكم التفتيش أمراً بالقبض على السيد المسيح وإيداعه السجن! في جنح الظلام، يزور رئيس محاكم التفتيش السيد المسيح في زنزانته ليخبره أن الكنيسة لم تعُد في حاجة إليه، وأن قرار عودته يعرقل المهمة الأساسية لرجال الدين! هذا المقطع من الرواية آية من آيات الأدب الإنساني، لكن ما يهمنا هنا هو معرفة مضمون هذه 'المهمة الأساسية لرجال الدين'، وهذا ما نجده في خطاب رئيس محاكم التفتيش إلى السيد المسيح، حيث يقول: 'لقد أنجزنا المهمة... فالناس تخلوا عن حريتهم طواعية ووضعوها تحت أقدامنا' (أي تحت أقدام رجال الدين)!
في عام 1930، خرجت إلى النور رواية 'سان مانويل بوينو'، للكاتب الإسباني ميغيل دي أونامونو، وتدور أحداثها في قرية جبلية في شمال غرب قشتالة، فيها راهب طيب القلب يحظى باحترام جميع أهالي القرية، لكن ما كان خافياً على الجميع هو أن الراهب نفسه لا يؤمن بوجود حياة بعد الموت، وقد استطاع الراهب أن يخفي سره عن أهالي القرية إلى يوم وفاته، وعذره في ذلك أن الإيمان بحياة أخرى يشيع الطمأنينة في قلوب أهالي القرية، فليس كل إنسان قادر على التسامح مع فكرة الموت من دون وجود ضمانات لحياة أخرى!
من المرجّح أن يكون 'أونامونو' قد استعان بالقصة الحقيقية للأب 'ميسلييه' في كتابة روايته، ففي أوائل القرن الثامن عشر، كان هناك راهب فرنسي يدعى الأب 'جان ميسلييه'، وبعد وفاته، تم العثور على دفتر مذكراته الخاص، وفيه نجد اعترافاً صريحاً بالإلحاد، بل وتمرداً على كل تعاليم الدين!
لست أتوقع قراءة قصص مشابهة في أدبنا العربي المعاصر، فمازال الطريق طويلاً وشاقاً، لكن سيأتي اليوم الذي نقرأ فيه رواية عربية تتحدث عن شيخ دين يُظهر عكس ما يبطن، تماماً مثل الراهب الطيب في رواية 'سان مانويل'! هناك بالطبع حركة إلحادية تاريخية في تراثنا العربي، تحدث عنها الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه الشهير 'تاريخ الإلحاد في الإسلام'، لكني لست في صدد الحديث هنا عن تيارات فلسفية وفكرية، بل أعمال أدبية وفنية.
هناك أيضا كتاب حديث نسبيا منشور تحت عنوان 'محنتي مع...'، ولكن هوية مؤلف هذا الكتاب ليست حقيقية، كما أن الكتاب ليس عملاً أدبياً بالمعنى الحرفي، بل مجرد اعترافات شخصية لأسماء وهمية!
معالجة الأدب للمسائل الدينية خطوة مهمة على الطريق الصحيح، فالأدب الملتزم لن يجد قضية أكثر إلحاحاً من قضية الدين!
ملاحظة: غدا وبعد غد، سيتم عرض مسرحية 'تاتانيا' على مسرح الدسمة في تمام الثامنة والنصف مساء، وهذه فرصة لمن أراد أن يقضي وقتا ممتعا في مشاهدة عمل أدبي جميل.

حديث حول القمر

من أشهر الصور في تاريخ الفوتوغرافيا تلك التي تم التقاطها قبل أربعين عاماً، ويبدو فيها أثر قدم أحد رواد الفضاء على سطح القمر، لكن الجدير بالذكر هو أن أثر تلك القدم مازال موجوداً على سطح القمر، وسيبقى في مكانه ملايين السنين، فمن المعروف أن القمر ليس له غلاف جوي، ولا يوجد على سطحه ماء، ولم يعد يحتوي على براكين نشيطة، مما يعني أن فرصة بقاء أثر قدم الإنسان على سطح القمر كبيرة جداً، ومن يدري؟ لعل بقاء أثر أقدام الإنسان على سطح القمر سيكون أطول من بقاء الإنسان نفسه على سطح الأرض، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار نزعة التدمير الذاتي لدى الإنسان وميله الغريزي إلى الحروب والدمار والعدم!

الفضاء هو المكان الذي يقطن فيه جيران كوكب الأرض، والقمر هو أقرب جيراننا، لكنه جار خرج من رحم الأرض، فهناك شبه إجماع بين علماء الفضاء على كيفية نشوء القمر، ويمكن تلخيص نظرية نشوء القمر بشكل مبسّط على النحو التالي: قبل أربعة مليارات سنة تقريباً، اصطدم كوكب الأرض بجسم آخر يوازي في حجمه حجم كوكب المريخ، وأدى الاصطدام إلى فقدان الأرض لجزيء كبير من جلدها الصخري، ثم تلاحمت في ما بعد الصخور المتطايرة لتدور في فلك الأرض على شكل جسم دائري، وهذا الجسم الدائري هو القمر! إذا صحّت النظرية (وهناك أدلة علمية على صحتها، لكن لا مجال لذكرها الآن)، فإن هذا يعني أن رحلة 'أرمسترونج' ورفاقه إلى سطح القمر لم تتجاوز سطح الأرض بالمعنى الحرفي، فهي ليست سوى زيارة للفرع الذي انشق قبل مليارات السنين عن الأصل.

ارتبط القمر بثقافات الشعوب على مر العصور، فالقمر هو نديم العشاق في أشعار المحبين، ولعلي أستثني من ذلك الشاعر الأرجنتيني ليوبولدو لوغونس، الذي سخر من صورة القمر ومن هيام العشاق في كتابه الشعري Lunario Sentimental، المنشور في عام 1909، ولكنه نجح مع ذلك في وصف سطح القمر في أشعاره بطريقة لا تختلف كثيرا عما شاهده 'أرمسترونج' ورفاقه قبل أربعين سنة! من ناحية أخرى، ساعد دوران القمر المنتظم حول الأرض في تمكين الإنسان من وضع التقويم القمري، فالقمر يستغرق 27 يوماً و7 ساعات و20 دقيقة كي يكمل دورة واحدة حول الأرض، لكن الأرض أيضا تدور في فلكها حول الشمس، مما يعني وجوب إضافة فارق الوقت الذي يسمح للقمر في الرجوع من جديد إلى نقطة البداية، لذا فإن التقويم القمري يحتوي على 29 يوماً و12 ساعة تقريباً! لكن في المقابل، الأرض تكمل دورة كاملة حول الشمس في حوالي 365 يوماً، لذا فإن الفارق بين التقويم القمري والتقويم الشمسي يساوي 11 يوماً، ولهذا السبب يأتي شهر رمضان في كل عام متقدماً عن السنة السابقة بحوالي 10 إلى 11 يوماً.

في الجزيرة العربية، وقبل مجيء الإسلام بمئات السنين، كان العرب يتبعون التقويم القمري في شؤونهم اليومية، لكن التقويم القمري كما لاحظنا لا يتصف بالثبات، ونظرا لأهمية الأشهر الحرم في رواج التجارة وتأمين سير القوافل، إذ تتوقف في تلك الأشهر كل أشكال العنف من ثأر وحرب ونهب، برزت الحاجة إلى اعتماد التقويم الشمسي بدلا من التقويم القمري، فهذه هي الطريقة المثلى لضمان تزامن الأشهر الحرم مع فترة جني المحاصيل وتحسن الطقس وسهولة الترحال من مكة وإليها. حدث هذا الانتقال إلى التقويم الشمسي قبل 200 عام فقط من مجيء الإسلام، وهو انتقال تطلّب معرفة حسابية بقوانين الفلك، وهذه كانت وظيفة 'القلمس'، التي اشتهر بها بنو كنانة، لكن مع مجيء الإسلام، ونزول 'إنما النسيء زيادة في الكفر'، إلى آخر الآية 37 من 'سورة التوبة'، تم منع التقيد بالتقويم الشمسي والعودة من جديد إلى التقويم القمري، وتشترك أغلب كتب التفسير في التأكيد على أن سبب المنع يعود إلى ميل القبائل العربية إلى التحكم بموعد حلول الأشهر الحرم بما يتناسب مع رغبتها في الاقتتال! لكن هناك تفسير آخر، وهو أن سبب المنع يكمن في محاولة التقليل من أهمية 'القلمس' ومكانته الروحية، والحد من الاحترام الكبير الذي كان يحظى به، أي أن السبب سياسي صرف (انظر في هذا الصدد كتاب A History of Astronomy، للمؤرخ الهولندي Pannekoek، صفحة 27).

هناك اعتقاد يشير إلى تأثير حركة القمر على قدرات الإنسان العقلية والنفسية، ومازالت هناك بقايا لهذا الاعتقاد في بعض اللغات، فكلمة Lunatic تعني بالإنكليزية 'مجنون' أو 'طائش'، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Luna، وتعني 'القمر'. لكن العلاقة بين القمر والأرض تتجاوز مجرد التأثير على معتقدات الشعوب وثقافاتهم، فمن المعروف أيضا أن قوة جذب القمر للأرض هي المسؤولة عن حركتي المد والجزر من جانب، وعن الشكل البيضاوي للأرض من جانب آخر! بالمقابل، الأرض تمارس قوة جذب باتجاه القمر، وقد ساهمت قوة الجذب هذه في تساوي دورة القمر حول نفسه مع دورته حول الأرض، ولهذا السبب تحديداً لا يمكننا أن نشاهد أبداً الوجه الآخر للقمر! يقول العلماء إن الأرض ستلقى المصير نفسه، فبعد مليارات السنين منذ الآن، سيساهم القمر في تقليل سرعة دوران الأرض بحيث تكون الدورة المحورية (دوران الأرض حول نفسها) مساوية للدورة المدارية (دوران الأرض حول الشمس)، مما يعني أن جانباً واحداً من الأرض سيكون مقابلا للقمر على الدوام، في حين لا يرى مَن يعيش في الجانب الآخر من الأرض صورة القمر أبداً! إذا كنت تعيش في الجانب الذي يسمح لك في مشاهدة القمر، فستلاحظ أن القمر يبدو ثابتاً في السماء من دون حراك (انظر كتاب The Universe، لمؤلفه John Scalzi).

أخيرا، إذا كان القمر سيبدو ثابتاً في السماء بعد مليارات السنين، وإذا افترضنا (من ضمن افتراضات أخرى) بقاء فصيلة الإنسان على سطح الأرض إلى ذلك الحين، فإن ما سوف يترتّب على ذلك هو أن الأجيال القادمة من المفسرين وطلاّب العلم الديني سيجدون أنفسهم مرغمين على إعادة تفسير الآية المتعلقة بمنازل القمر.

قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر (2)

هناك علاقة لا تناظرية (asymmetric relationship) بين الحاجة والرغبة، فالحاجة تبرّر الرغبة، لكن الرغبة لا تبرّر الحاجة، فمثلاً، قد تحتاج إلى شراء سيارة لظروف قاهرة، لذا فإنه من الطبيعي أن تكون لديك رغبة في شراء سيارة، لكن في المقابل، قد تكون لديك رغبة في اقتناء سيارة، لكنك تتنازل عن هذه الرغبة لأنها لا تنم عن حاجة ضرورية.
هذه العلاقة اللا تناظرية إيجابية وصحية، فهي تدل على أمرين: الأمر الأول، هو أنك تملك من الأشياء ما تحتاج إليه فعلاً، والثاني، هو أن لديك قدرة فائقة على التحكم في رغباتك ونزواتك الشخصية.
لكن الأمر المؤسف هو أن المحافظة على هذه العلاقة الصحية تكاد تكون مستحيلة في عصر رأسمالي قائم على فكرة الاستهلاك، وتعود جذور هذه المشكلة إلى عشرينيات القرن الماضي، عندما قام Edward Bernays بالاستفادة من نظريات علم النفس ووضعها تحت تصرّف رجال الأعمال والشركات الكبرى، مستفيداً من أدوات التحليل النفسي التي صاغها Freud، ومن مفهوم 'غريزة القطيع' كما جاء في أعمال Trotter، ومن مفهوم 'سيكولوجية الجماهير' كما جاء في أعمال Le Bon.
كان الهدف الأساسي هو تشكيل عقول الناس بطريقة تضمن استمرار عادة الاستهلاك وتلبية مصالح الطبقة التجارية، ولتحقيق ذلك، كان لابد من القضاء على قدرة الفرد على التمييز بين الحاجة والرغبة، لذا لجأ Bernays إلى سلاح 'البروباغندا'، فهو سبق أن تساءل بخبث: 'لماذا لا تنجح (البروباغندا) في زمن السلم كما نجحت في زمن الحرب؟!'.
كان Bernays يعتقد أنه إذا أراد أصحاب الشركات الكبرى إنتاجا شاملاً للبضائع، فلابد من خلق حاجة دائمة إلى الاستهلاك، وهو أمر لن يتحقق إلّا إذا استطاعت الماكينة الدعائية التحكم في الرأي العام وتوجيهه نحو المزيد من الاستهلاك (انظر كتابه Manipulating Public Opinion، 1928).
كان Bernays يراهن على غباء الناس وعلى 'غريزة القطيع'، وبالنظر إلى شهية الاستهلاك التي اجتاحت العالم منذ الربع الأول من القرن الماضي، ليس لنا سوى أن نسلّم بأن Bernays كسب الرهان!
يستمد الإنسان قيمته من صميم ذاته ومن قدراته الشخصية، لكن في ظل موجة الاستهلاك التي اجتاحت العالم منذ بدايات القرن الماضي، أصبحت قيمة الإنسان مرتبطة بما يملك من أشياء، وهو ارتباط غير حقيقي! في كتاب The Sane Society، من تأليف استاذ علم النفس الاجتماعي Erich Fromm، هناك وصف دقيق لمدى تهافت العلاقة بين المستهلك والبضاعة المستهلكة. يقول Fromm 'في الماضي، كانت هناك علاقة حميمية بين الإنسان والأشياء التي يشتريها بماله، أما في عصر طفرة الاستهلاك، أصبح من غير الممكن وجود مثل هذه العلاقة، ذلك أنه ليس هناك وقت كافٍ لنشوئها، فالمستهلك مغرم بكل شيء جديد، وهو لهذا السبب على استعداد لاستبدال ما يشتريه اليوم لقاء ما يستجد غدا' (صفحة 131).
ثم ينتقل Fromm إلى عقد مقارنة بين اللذة الناتجة عن تجربة حقيقية، واللذة المزيفة التي هي وليدة عادة الاستهلاك 'عندما أقرأ كتاباً، أو أشاهد منظراً خلاباً، أو أتحدث مع صديق، أشعر أني خضت تجربة حقيقية وتلقائية، تجربة تجعلني أحس أني لم أعد كما كنت قبل خوض تلك التجربة، كأن شيئاً في داخلي قد تغيّر! هذه اللذة الحقيقية تقف على النقيض من تلك اللذة الناتجة عن الاستهلاك، فعندما ألبّي رغبتي في شراء شيء لا أحتاج إليه، لا يطرأ أي تغيير في ذاتي، ولا أشعر بأي إضافة إلى قيمتي كإنسان! كلنا يعرف شعار كاميرا Kodak الذي يقول: اضغط الزر، ونحن نتكفّل بالباقي!' ليس مطلوبا منك أن تفعل أي شيء، أو أن تعرف أي شيء، بل كل ما يتعين عليك عمله هو أن تضغط الزر! إن السائح الذي نراه منشغلا في التقاط الصور لا يرى شيئا إلا من خلال الكاميرا المعلقة في رقبته! الكاميرا تستمتع بمشاهدة المناظر المحيطة نيابة عنه، وأما هو (أي السائح) فقد استبدل تجربة روحية حقيقية بحفنة من الصور!' (صفحة 133).
لكن الأمر لا يقتصر فقط على استهلاك الأشياء، ذلك أن الإنسان نفسه أصبح موضوعاً للاستهلاك! عندما وصل أينشتاين إلى أميركا، أرادت إحدى شركات التبغ الاستفادة من شهرته الكبيرة، فعرضت عليه أن يقوم بعمل دعاية لإحدى منتوجاتها مقابل مردود مالي كبير، لكن أينشتاين رفض العرض، وقد عبّر عن غضبه من كثرة هذه العروض بطريقة ساخرة، حيث يقول 'هؤلاء المسوّقون الأغبياء لا يفرّقون بين طالب العلم والعاهرة'!
لكن هناك في المقابل من يحرص على تسويق ذاته من دون مقابل مادّي، ففي عصر المال، تضاءلت قيمة الإنسان إلى مجرد سلعة، وبما أن كل سلعة في حاجة إلى تسويق، فإن الإنسان نفسه أصبح ضحية لمرض تسويق الذات، وأعراض هذا المرض كثيرة، منها المبالغة في تضخيم الإنجازات الشخصية تحت بند 'السيرة الذاتية'، والحرص على الظهور الإعلامي المتكرر، وكتابة مقال وتوزيعه بالجملة عن طريق البريد الإلكتروني!
لن يستعيد الإنسان قيمته إلا عندما يكف عن تحديد هويته من خلال ما يملك من أشياء، ولن يكف الإنسان عن تسويق ذاته إلا حينما يستعيد احترامه لنفسه!

قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر (1)

الناس في الشارع أشبه بالنمل حينما تنظر إليهم من شرفة أحد المباني الشاهقة، وكلما انتقلت إلى الطوابق العلوية، تضاءل الناس إلى مستويات تافهة من حيث الحجم! كل نقطة صغيرة تتحرك أمام عينيك لها همومها الخاصة، وذكرياتها، ورغباتها، ومخاوفها، لكن كل ذلك تم اختزاله بفضل الارتفاع الشاهق إلى مجرد نقطة تافهة تتحرك بغباء على قارعة الطريق! الأمر يبدو مشابهاً حينما ننظر إلى قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر، فكلما زاد مستوى التعقيد في العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية، تضاءلت قيمة الإنسان إلى مجرد رقم! في السابق، كان السؤال الأساسي بعد كل مناسبة اجتماعية هو 'من حضر؟'، أما الآن فإن السؤال تحوّل إلى 'كم عدد الحضور؟'. في السابق أيضاً، كانت أنماط التداول التجاري المتواضعة تسمح بوجود علاقة حميمية بين البائع والمشتري، أما في عصر الإنترنت، وفي ظل ارتفاع معدلات الاستهلاك الشامل والبيع بالجملة، فأضحت العلاقة ذاتها باردة، ولاشخصية، ومفرطة في التجريد!
بات الإنسان مجرد سلعة لها رقم يشير إلى قيمتها، أي أن السوق هو الذي يحدد قيمة الإنسان! تقرأ الصحيفة، وتقع عيناك على خبر يقول: 'انتحار خادم في المنطقة الفلانية'! لا يبدو الخبر مهمّاً من وجهة نظر أصحاب الصحيفة، فهو منشور في ركن صغير في أسفل الصحفة، لكن ما يثير الانتباه هو طريقة صياغة الخبر، فالذي أنهى حياته لم يكن خادماً، بل إنساناً في المقام الأول، إنسان له مشاعر ورغبات وأحلام، له أسرة تنتظر عودته بفارغ الصبر، له قيمة بشرية لا تختلف عن أي إنسان آخر. لماذا احتوى هذا الخبر المؤسف على كلمة 'خادم'؟ ما الذي من الممكن أن يضيفه نوع الوظيفة إلى فداحة عملية الانتحار؟ لماذا يعتقد من صاغ ذلك الخبر أن كلمة 'إنسان' لا تؤدي الغرض؟ قد يكمن السبب في محاولة لفت انتباه القارئ إلى مشكلة تزايد عمليات الانتحار بين صفوف الخدم، لكن لا يبدو هذا السبب مقنعاً، فمكان النشر، كما أشرت منذ قليل، لا يوحي بأهمية الخبر! لست أجد سببا مقنعاً سوى أن كلمة 'خادم' تعكس القيمة الحقيقية لهذا الإنسان بالنسبة لنا، فهي كلمة تشير إلى مكانته الاجتماعية المتواضعة من جانب، وإلى قيمته الاقتصادية التافهة من جانب آخر، وهذا بالضبط ما يفسر عدم أهمية الخبر ونشره في ركن صغير في أسفل الصفحة!
تقلب الصفحة، فتقرأ خبراً آخر فيه تأكيد على 'ضرورة ربط المناهج الدراسية باحتياجات سوق العمل'! قد يبدو الخبر طبيعياً، لكن هل هو كذلك فعلاً؟ الأمر الطبيعي هو أن إعداد المناهج الدراسية مرتبط بعوامل تتعلق بمواكبة التراكم المعرفي للبشرية في اللحظة الراهنة، وترسيخ قواعد التفكير النقدي، وبث روح المسؤولية تجاه المجتمع، وتهذيب الإحساس بقيمة الإنسان ومكانته في هذا الكون. لكن عندما تكون 'لغة السوق' هي السائدة، فإن كل إنسان تصبح له قيمة محددة، أي مجرد رقم، وكلما زاد معدل التحصيل العلمي، زادت قيمة الإنسان المتعلم حسب سعر السوق. إذا كنت تحمل شهادة البكالوريوس، فإن قيمتك الاقتصادية أقل ممن يحمل شهادة الماجستير، وإذا كنت طموحاً بما فيه الكفاية وحصلت على شهادة الدكتوراه، فإنك ستجني ثمرة هذا الطموح على شكل زيادة في قيمة راتب آخر الشهر. إذا كان هذا هو واقع الحال، فهل من المنطقي أن نستغرب هذا التسابق المحموم في نيل الشهادات العلمية بأي طريقة وبأي ثمن؟
ربط المناهج الدراسية باحتياجات سوق العمل يعني أن السوق هو الذي يقرر نوعية الفروع العلمية الجديرة بالاهتمام، وإذا ثبت أن أحد التخصصات الدراسية غير مجدٍ اقتصادياً، فإن أرباب السوق لن يتورعوا عن المطالبة بإزالة هذا التخصص من المناهج الدراسية! لم تعد المعرفة مرتبطة بقيمة الإنسان من حيث هو إنسان، بل أصبحت مرتبطة فقط بالجدوى الاقتصادية لهذا الإنسان بوصفه مجرد سلعة في سوق العمل. لم تعد المعرفة غاية في ذاتها، بل مجرد وسيلة إلى صعود السلم الاجتماعي بأقصى سرعة! أصبح اختيار التخصص الدراسي مرتبطاً بالإثراء المادي وزيادة رصيد الحساب، بدلاً من الإثراء النفسي وزيادة رصيد المعرفة.
(يتبع)

لماذا السماء زرقاء؟: مشهدان وتعليق

المشهد الأول:
نحن في بريطانيا. طفل يسأل أمّه: 'ماما، لماذا السماء زرقاء؟' الأم ترتبك، فهي لا تعرف كيف تجيب، لكنها مع ذلك تسارع إلى اختراع إجابة على النحو التالي: 'اسمع يا حبيبي، السماء زرقاء لأن البحر أزرق، فعندما تسقط أشعة الشمس على سطح البحر، ينعكس اللون الأزرق إلى أعلى فتبدو السماء زرقاء'! الطفل يصدّق ما سمعه من أمّه، وأما الأم فتبدو مسرورة لأنها استطاعت التخلص من هذا السؤال الصعب!
المشهد الثاني:
نحن في الكويت. طفلة تسأل أباها: 'بابا، لماذا السماء زرقاء؟' الأب لا يكلّف نفسه النظر إلى طفلته، ومع ذلك يجيب بكل ثقة: 'السماء زرقاء لأنها هكذا خُلقت، فهذه مشيئة الله'. الطفلة تصمت محتارة، فهي تلاحظ أن إجابة أبيها لا تتغيّر مهما تعددت الأسئلة التي تطرحها عليه، وأما الأب فيخلد إلى النوم بضمير مرتاح!
تعليق:
فضول الأطفال بلا حدود، وهم يعبّرون عن هذا الفضول من خلال الكم الهائل من الأسئلة التي يطرحونها، لكننا لا نتورع عن قتل هذا الفضول عن طريق اختلاق قصص واهية أو اللجوء إلى إجابات جاهزة! في المشهد الأول، كبرياء الأم كان أقوى من حرصها على تقديم معلومة صحيحة إلى طفلها، لذا لم تجد هذه الأم حرجاً في اختلاق قصة من نسج خيالها، فلا ينبغي أن يكتشف صغيرها أنها جاهلة! في المشهد الثاني، لا يملك الأب سوى إجابة واحدة لكل سؤال يخطر في عقل طفلته، وعندما تكون هناك إجابة واحدة عن كل الأسئلة، فإن فكرة طرح سؤال جديد تصبح غير ضرورية، لأن الإجابة معروفة سلفا، والنتيجة هي قتل الفضول واستئصاله!
عندما يطرح الأطفال سؤالاً لا نملك إجابة عنه، فإن أمامنا خيارين: إما أن نتقاسم مع أطفالنا فضولهم ودهشتهم عن طريق الاعتراف بجهلنا، وإما أن نتقاسم معهم جهلنا وغباءنا من خلال التظاهر بالمعرفة! الخيار الثاني هو السائد رغم مضاره، والخيار الأول هو الغائب رغم فوائده!
صحيح، لماذا السماء زرقاء؟ تعترف لطفلك بأنك لا تملك إجابة، لكنك تؤكد له أن السؤال مهم ويستحق البحث وتقصي الحقائق! تقترح عليه الذهاب معاً إلى المكتبة، ففي المكتبة كنوز من المعرفة! تقرآن معا كتاباً علمياً للأطفال فيه إجابة شافية، فيتعرّف طفلك على حقائق علمية تناسب عمره، فالأرض لها غلاف جوي مليء بالغازات وبخار الماء وذرات الغبار، وضوء الشمس له طيف من الألوان، منها الأحمر والأصفر والأزرق، بعضها يخترق الغلاف الجوي، وبعضها يتم امتصاصه ثم تشتيته في كل الاتجاهات، والسبب في أن لون السماء أزرق هو أن هذا اللون هو الذي يتم امتصاصه وتشتيته في كل الاتجاهات! سيكبر طفلك، وستكبر معه الإجابة، فيتعرف على سرعة الضوء، ويقيس طول الموجة، ويسمع لأول مرة اسم عالم الفيزياء الإنكليزي اللورد Rayleigh!
لكن الفضول في طلب المعرفة لن يتوقف عند هذا الحد، فبالرغم من أن الإجابة تبدو مقنعة، فإنها تدفع أيضاً إلى طرح أسئلة أخرى! مثلاً، إذا كان وجود الغلاف الجوي سبباً في كون السماء زرقاء، فكيف سيكون لون السماء في حال افترضنا عدم وجود هذا الغلاف؟ ستشعر بمتعة لا تضاهى وأنت ترى الدهشة ترتسم على وجه طفلك حينما يعرف الإجابة، فالسماء ستستحيل سوداء، وأما الشمس فبيضاء، وهذا بالضبط ما يراه رجال الفضاء في رحلتهم خارج الغلاف الجوي!
سألك طفلك سؤالاً ينم عن دهشة وفضول، فلم تحاول أن تخفي جهلك، بل تقاسمت معه الدهشة والفضول، ثم اقترحت الذهاب إلى المكتبة، وهو اقتراح ساهم في لفت انتباه طفلك إلى أهمية السؤال أولاً، وأهمية المكتبة ثانياً! لقد زرعت في قلب طفلك حب المعرفة لأنك لم تبخسه حقه في أن يسأل: 'لماذا السماء زرقاء؟'.

جاري العنصري

لدي جار فرنسي في الخمسين من عمره، يعمل استاذاً في الجامعة، ويسكن في شقة واسعة وجميلة، لا يشاطره فيها سوى قط أبيض اللون. اعتاد هذا الجار أن يدعوني إلى منزله في بعض عطل نهاية الأسبوع لمزاولة لعبة الشطرنج. جاري هذا غريب الأطوار، ففي إحدى المرات، استغرق وقتاً طويلاً ليقنعني بمدى ذكاء قطه الأبيض! لم أستطع أن أكبح رغبتي في الضحك عندما سمعته يقول: 'عندما أخرج للتنزه مع 'بلانك' (هذا هو اسم القط)، فإنني ألاحظ قدرته الفائقة على مطاردة الفئران واصطيادها، وهذا دليل واضح على الذكاء! بالطبع، هناك شيء اسمه 'مصيدة الفئران'، ولكن هذا دليل على ذكائنا نحن البشر، وربما هو دليل أيضا على غباء الفئران!'.
لكن أبرز صفة في جاري هي أنه إنسان عنصري، وهو يعترف بذلك من دون تردد، ومن دون أن يصاحب هذا الاعتراف شعور بالخجل! عنصرية جاري لها مستويات مختلفة، فهو يرى أن 'الأمم الأوروبية' هي الوحيدة القادرة على صنع حضارة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ويرى أيضاً أن الشعب الفرنسي أرقى الشعوب الأوروبية، أما إقليم 'الألزاس' فهو أفضل الأقاليم الفرنسية! ليس عندي شك في أن جاري مقتنع تماماً بما يقول، لكن هل هي مجرد مصادفة أن يرتبط هذا الاقتناع بحقيقة أن جاري أوروبي، فرنسي، ألزاسي؟ بمعنى آخر، لو كان جاري صينياً من مدينة شانغهاي، فهل ستتغير قناعاته العنصرية حسب إحداثيات الموقع الجغرافي الذي ينتمي إليه؟!
أعترف بأن السبب وراء حرصي على تلبية دعوة جاري لممارسة لعبة الشطرنج لا يرتبط بعشقي لهذه اللعبة الجميلة بقدر ارتباطه برغبتي الصادقة في فهم ذهنية الإنسان العنصري! أريد، مثلاً، أن أعرف كيف لإنسان مثله أن يكون عنصرياً، ذلك أننا لو افترضنا أن أي استاذ جامعي يمتاز بالحد الأدنى من التفكير العقلاني، فإن السؤال الطبيعي في هذه الحالة سيكون: هل من الممكن أن تجتمع العقلانية والعنصرية في جوف واحد؟ أشك في ذلك، فالآراء العنصرية، مثل كل الآراء غير العقلانية، تستمد قوتها من غياب التفكير النقدي! طلبت من جاري أن يحدد ماذا يقصد بقوله إن الشعب الفرنسي أرقى شعوب أوروبا، فمن دون تعريف واضح لمعنى اسم التفضيل 'أرقى'، لن يكون بوسعي التحقق من مدى صحة رأيه. لم أحصل، مع الأسف، على تعريف واضح، إنما جاءت إجابته مبهمة ولا تدل على شيء ذي معنى! عندما يزعم جاري أن شعبه أرقى الشعوب فإن هذا الزعم بالنسبة إليه بمنزلة قانون عام، لكن عندما أقوم بلفت انتباهه إلى وجود ثغرات في هذا القانون من خلال الإشارة إلى نماذج سيئة من بعض أفراد شعبه، فإنه يسارع إلى التأكيد على أن تلك النماذج السيئة لا تعدو أن تكون مجرد استثناءات من القانون العام، أما القانون ذاته فيبقى قائماً على الدوام! هذا النمط من التفكير يدل بوضوح على استحالة الجمع بين العقلانية والعنصرية.
الإنسان العنصري مريض نفسيّ، فالعنصرية تمنحه شعوراً زائفاً بالأهمية من خلال تضخيم الذات على حساب تحجيم الآخر، ذلك أن تضخيم الذات يؤدي تلقائياً إلى تحجيم الآخر! لنأخذ، على سبيل المثال، فكرة التفاخر بالأصل، فعندما يفتخر أحدهم بأصله، فإنه يفترض وجود خصلة حميدة في أصله تفتقر إليها بقية الأصول، كما أن فكرة التفاخر بالأصل تستمد قوتها من افتراض وجود أصول شريفة وأخرى وضيعة، ولولا هذا الافتراض لفقدت هذه الفكرة قيمتها الاجتماعية! لو آمن الجميع بالحقيقة العلمية التي تقول إن هناك اختلافاً طفيفاً جداً من حيث التركيب الجيني بين فصيلة الإنسان وفصيلة الشامبانزي، لأصبحت فكرة التفاخر بالأصل مدعاة للضحك والسخرية!

صفحات من دفتر الذاكرة 7

مطار 'هيثرو' مزدحم، كالعادة! الأوروبيون يقفون على اليسار، وبقية الكائنات البشرية تقف على اليمين: انحرفت يميناً ووقفت في الطابور. جاء دوري فقدمت جوازي إلى المسؤول. سألني عن سبب المجيء إلى هنا، فأخبرته أني في بعثة دراسية. سألني من جديد عن التخصص الدراسي، ومكان الجامعة، ومدة الدراسة. أجبت عن كل الأسئلة، لكن يبدو أني، لسبب ما، فشلت في أن أنال ثقته بي! طلب مني أن أنتظر في غرفة صغيرة، وبعد مرور خمس دقائق، جاء مسؤول آخر للتحقيق معي! وجّه لي هذا المسؤول أسئلة سخيفة، منها مثلاً: ما رأيك في الحرب الأخيرة واحتلال العراق؟! حاولت أن أعبّر عن رأيي في الحرب بكل صراحة، ثم قاطعني ليسأل:
- هل سبق أن زرت العراق؟ ومتى؟
- نعم، دخلت العراق في العام الماضي، مع بداية الحرب، ومكثت هناك مدة ستة أشهر تقريباً!
- هل تعي ما تقول؟ هل أنت في كامل قواك العقلية؟!
- نعم!
سألني عن السبب وراء دخولي العراق، فأخبرته أني كنت مترجماً متطوعاً في الجيش البريطاني. نظر إليّ بارتياب، كان واضحاً أنه لم يصدق كلمة واحدة مما قلت! يبدو أنه لا يتخيل دخول عربي إلى العراق إلا لغرض الإرهاب! خرج من الغرفة بعد أن أخذ جوازي وطلب مني أن أنتظر! لا أحب الانتظار. فتحت حقيبتي. دفتري الأزرق الصغير محشور بين كتابين. أخرجته، فتحته، قرأت:
'صباح العشرين من مارس من عام 2003 لم يكن كأي صباح: بدأت الحرب!... 'بو علي' يحرِّض الجميع على التراجع! يصيح أحد الجنود: غاز، غاز، غاز! صاحب 'الدشداشة' يسألني: هل تؤمن؟! الضابط الكبير يدخن غليوناً، ويتحدث عن 'المهمة الإنسانية'! صاحبي يجلس إلى جانبي ليقول: 'من سيدلك على أماكن الخنادق غيري، يا أعمى؟!'
عاد المسؤول، فتوقفت عن القراءة. أعاد لي جواز السفر ليقول: 'شكراً للانتظار، بإمكانك الآن دخول بريطانيا'! خرجت لأبدأ رحلة جديدة من الذكريات، أما ذلك الدفتر الأزرق، وبالرغم من أنه مليء بتفاصيل تجربة غنية بالأحداث والأشخاص والأماكن، فقد فضّلت أن أتركه مغلقا منذ ذلك اليوم، ومَن يدري؟ لعلي أعود بعد حين لأكمل قراءته من جديد!

صفحات من دفتر الذاكرة 6

وقف أحد الجنود ينادي من خلال مكبّر الصوت:
- Bunker ...Bunker
توجّه الجميع إلى الخنادق. حرمني كمّام الغاز من ارتداء نظارتي: وضعتها في جيب القميص. لا أرى شيئاً، بينما المطلوب هو أن أعثر على خندق في أقل من دقيقة وفي جنح الظلام! قلت لصاحبي إني منذ هذه اللحظة أصبحت 'رجلا مستطيعاً بغيره'، كما كان أبو العلاء المعري يصف نفسه! طلب مني أن أتبعه، فمشيت على خطاه! عثرنا على خندق، لكن سمعنا صوتاً من داخله يقول:
- Sorry guys, it’s full!
صاح صاحبي غاضبا: 'هل هذا خندق أم فندق؟!' عدنا من جديد نبحث عن مكان آمن! صاحبي يتمتم من خلف الكمّام ببعض الألفاظ، أظنها كانت ألفاظا نابية! أخيراً جاء الفرج: صوت من تحت الأرض يأمرنا أن نقفز بسرعة إلى أسفل! لحظات الصمت في جوف الخندق رهيبة، لكن الرهبة تتضاعف عند سماع الأنفاس المتقطعة لمن هم حولك! سمعت صوتاً يقول: One، ثم صوتا آخر يقول: Two! كلما زادت قيمة العدد الذي أسمعه، اقترب الصوت مني أكثر فأكثر! أخيراً، نطق من كان جالسا على يميني: Eight، فأدركت أني يجب أن أقول: Nine، ثم لكزت صاحبي فنطق: Ten! مرّت بضع دقائق، ثم عادت مكبرات الصوت من جديد:
- All Clear, All Clear
زال الخطر، وقبل أن نخرج من الخندق، عادت لعبة الأرقام من جديد! قال صاحبي معاتباً أحد الجنود: 'هل كان من الضروري أن نخمّن قواعد الاختباء في الخندق من دون مساعدتكم؟' عدنا إلى الخيمة. وقف ضابط برتبة كبيرة، يدخن غليوناً، ومن حوله عدد قليل من الضباط من ذوي الرتب الصغيرة. ألقى الضابط الكبير خطاباً مقتضباً، عبّر من خلاله عن شكره العميق لجميع المترجمين الذين قبلوا التطوّع في هذه 'المهمة الإنسانية'! سمعت كثيراً عن 'البروباغندا' في زمن الحروب، لكن هذا الضابط أتاح لي أن أراها متجسدة أمامي!
أمر الضابط الكبير بتقسيم المترجمين إلى مجموعات صغيرة، ثم وضع ضابطاً على رأس كل مجموعة. ألقيت نظرة على كشف الأسماء، فشاهدت اسمي ضمن المجموعة التي ستنتقل إلى معسكر أسرى الحرب شمال مدينة 'أم قصر'. صاحبي سينتقل إلى 'صفوان'! لمحت 'بو علي' من بعيد، بدا لي في غاية السرور! علمت فيما بعد أنه انضم إلى المجموعة الوحيدة التي لا يتعين عليها دخول العراق!
الباصات تنتظر في الخارج. سارت كل مجموعة خلف الضابط المسؤول عنها. أومأت بيدي من بعيد مودّعا صاحبي! لا أظن أنه رآني، كان يبدو مندمجاً في الحديث مع الضابط الكبير! سِرت خلف مجموعتي إلى أحد الباصات. كثافة عدد المترجمين داخل الباص منخفضة جدا: نحن ثمانية، بينما عدد مقاعد الباص فاق الخمسين مقعداً! سائق الباص عربي الجنسية، اسمه 'بدري'. يبدو وديعاً، لكنه سيفصح لاحقا عن جوانب خفية في شخصيته! دخل إلى الباص ضابط برتبة نقيب: 'أنا الكابتن 'هاوس'، سأكون مسؤولا عنكم طوال فترة إقامتكم في معسكر الأسرى. لن نصل إلى هناك مباشرة، فقد نضطر إلى المبيت في هذا الباص على الحدود'! ألقى نظرة إلى الخارج ثم أضاف: 'عددكم ثمانية، وكشف الأسماء يشير أيضا إلى أن العدد ثمانية، لكن أخبرني أحد الزملاء أنه يتعين علينا انتظار قدوم مترجم تاسع'! ما إن ختم الكابتن حديثه حتى وصل المترجم التاسع. لم أصدق عينيّ، صاحبي يدخل الباص غامزاً بعينه! جلس إلى جانبي ليقول: 'من سيدلك على مواقع الخنادق غيري، يا أعمى؟!'

صفحات من دفتر الذاكرة 5

الإضاءة داخل الخيمة أشد مما ينبغي. انسحبت بهدوء إلى الظلام الدامس. وضعت كيس الملابس العسكرية إلى جانبي، وأخرجت علبة السجائر. لاحظت اقتراب شعلة صغيرة من طرف سيجارتي:
- 'تدخن كثيراً، ليس أكثر مني على أي حال'!
كان هذا الشخص هو الوحيد الذي يرتدي 'دشداشة' من بين جميع المترجمين. جلس صاحب 'الدشداشة' يدخن إلى جانبي. لم تكن لدي أدنى رغبة في الحديث، لكن فكرة أن يأتي شخص غريب ليشعل سيجارتك من دون أن تطلب منه ذلك تتضمن دعوة إلى الحديث! هيأت نفسي لخوض حوار عابر مع شخص لا أعرفه، لكن البداية لم تكن مشجعة:
- متزوج؟!
أمقت الأسئلة الشخصية، لكن لم يدهشني هذا السؤال، ففي الكويت الأسئلة التي هي من نوع 'كم مقدار راتبك الشهري؟' لا تعتبر أسئلة شخصية في نظر العديد من الناس! أجبت على مضض:
- لا، ليس بعد!
- ما أسعدك! أنا لدي أربعة أطفال!
- وتركتهم مع أمهم هناك كي تأتي إلى هذه الحرب الغبية؟!
- نعم! أحمق، أليس كذلك؟!
بدا لي هذا الشخص غريب الأطوار، لكن ما أدهشني هو حرصي على أن يستمر الحديث بيننا. ربما أردت أن أعرف السبب الحقيقي وراء مجيئه إلى هنا رغم ارتباطاته الأسرية. ترددت في البداية، لكني تشجعت وسألته عن السبب. مرّت لحظات من الصمت، ثم أجابني بنبرة متشنجة، لكنها صادقة، أو هكذا بدت لي:
- عندما تعيش حياة غبية وتافهة، تصبح قيمة هذه الحياة في نظرك رخيصة! لدي من العمر سبعة وثلاثون عاماً، لكن عندما ألتفت إلى الوراء، لا أجد شيئاً واحداً يستحق أن يذكر! أعمل في مكان قريب من دوّار 'الشيراتون'، وفي كل صباح أشاهد وسائل الإعلام من شتى بقاع العالم ترصد أنباء الحرب الوشيكة. أمام هذا الحدث الكبير، من الصعب أن تختار العيش على الهامش! تملكتني رغبة عارمة في أن أكون في قلب الحدث، ووجدت أن فكرة العمل كمترجم في الجيش البريطاني تلبي هذه الرغبة! هذا باختصار هو سبب مجيئي إلى هنا، لكن ماذا عنك أنت؟!
السؤال كان مباغتاً، لكني أصبحت الآن مديناً له بإجابة:
- أنا.. لا أدري! هناك سبب بطبيعة الحال، ولكن يبدو أن قوالب الألفاظ لا تسعفني في شرحه! في أواخر الصيف الماضي، عندما ترددت الأنباء عن احتمال اندلاع حرب وشيكة في المنطقة، كنت في رحلة إلى مدينة 'كيوتو' اليابانية. دخلت أحد المعابد، وشاهدت الناس يؤدون أحد الطقوس الدينية. أعجبتني الفكرة فانضممت إليهم! ضممت يديّ وأغمضت عينيّ، ثم تمنيت أمنية واحدة فقط، وبعدها قرعت الأجراس! حسب الطقوس، كان من المفترض أن تظل الأمنية في طي الكتمان، فلا ينبغي أن تبوح بها لأحد! لا أجد الآن ضرورة في الالتزام بهذا الشرط، لأن الأمنية لم تتحقق: كانت أمنيتي الوحيدة هي عدم اندلاع الحرب! خرجت من المعبد، وشاهدت عجوزا تقرأ الكف! لا أؤمن بهذه الخرافات، لكني قدّمت لها كفّي لتقرأه! قالت لي بنبرة واثقة: 'ستموت قبل أن تكمل الثلاثين من عمرك'! عجوز سخيفة! في هذه اللحظة التي أحدثك فيها، أبلغ من العمر 29 عاماً و10 أشهر و5 أيام!
- لا أصدّق أنك جئت إلى هنا كي تختبر صحة ما قالته تلك العجوز المشعوذة!
- إطلاقا، وسبق أن قلت لك إني لا أؤمن بتلك الخرافات، بل جئت لأختبر أشياء أخرى، جئت لأختبر مدى إيماني بالأفكار التي أعتنقها والمبادئ التي أؤمن بها! عندما تكون آمناً مطمئناً، لك أن تتبنى ما يحلو لك من أفكار، لكن الشعور بالخطر يتيح لك القيام بتصفية هذه الأفكار، فلا يبقى منها سوى ما يستحق البقاء! الحرب بالنسبة لي مثل فراش الموت بالنسبة للملحد، ففراش الموت هو المكان المناسب لاختبار مدى تمسّك الملحد بإلحاده!
- هل تؤمن...؟!
قطعت حديثنا صيحات الجنود: Gas… Gas.. Gas! بادر الجميع إلى ارتداء أقنعة الغاز. فتحت الكيس وبحثت عن كمام الغاز. ضربات قلبي تزداد تسارعاً! وقف صاحبي لمساعدتي في ارتداء الكمام، لكنه فاجأني من جديد بسؤال مباغت:
- ربما يسقط الصاروخ في هذا المكان، لذا لن تجد أفضل من هذه اللحظة المرعبة لاختبار مدى إيمانك بأفكارك ومبادئك، أما أنا فلن أجد أفضل من هذه اللحظة كي أطرح عليك السؤال من جديد: هل تؤمن...؟
نظرت إليه ضاحكاً لأجيب:
- اسمع، حسب شهادة ميلادي، الديانة هي 'مسلم'، لكنك تعلم أن شهادات الميلاد قد تكون غير دقيقة!

صفحات من دفتر الذاكرة 4

القافلة تسير ببطء. الصحراء المريضة تئن من زناجير الآليات المدرعة. تتحرك دبابة على يسار الطريق فتثير زوبعة ترابية من خلفها، هناك بعيدا في الأفق، يزحف رتل عسكري فتثور عاصفة: لن تتعافى هذه الصحراء بسهولة! شمس شهر مارس الدافئة تغري بالخروج، لكن لا أثر لأي حيوان، عدا الإنسان!
«بو علي» مازال ناعسا. بماذا يحلم يا ترى؟ أحلم بالنيابة عنه:
نحن في نزهة. الصحراء انقلبت روضة خضراء. الأزهار في كل مكان. الحيوانات كلها تخرج من جحورها... ترقص، تغني! الجنود ليسوا جنودا، بل مجرد ممثلين... ممثلين بأقنعة في حفلة تنكرية! بو علي يحتج، فهو لا يستطيع أن يدخل إلى حفلة تنكرية من دون قناع! الدبابات عربات لتوزيع المرطبات، والصواريخ ألعاب نارية، والطائرات طيور تزيّن صفحة السماء! المطر يتوقف، قوس قزح يمتد طويلا كجسر من الألوان الزاهية... جسر بين الشرق والغرب! الكل هناك، الإنسانية جمعاء، كلنا على الجسر، نضحك، نغني، نتعانق! ما الحياة سوى طاقة ترقص!
«بو علي» يفيق من نومه. يبدو أن الشمس محرقة من خلف الزجاج ، أو أن الحُلم لم يعجبه! انحرفت القافلة عن الشارع الرئيسي و شقّت طريقها في الصحراء. بوابة المعسكر البريطاني عبارة عن برميلين وجنديين يقفان في الواجهة. دخلنا المعسكر. الخيام مرصوصة بطريقة تبعث على الإعجاب: تنظيم لا يليق إلا بعقلية عسكرية! لافتة من خشب رُكزت على يسار الطريق الترابية: Command Centre 450 yd
الآليات العسكرية لا حصر لها، والأكياس المملوءة بالتراب تشير إلى مواقع الخنادق. دورات المياة أشبه بكبائن الهاتف. لا أثر للقاذورات: مخيّم مثالي!
توقفنا أمام خيمة ضخمة، لها باب في كل زاوية، وفوقها علم بألوان فاتحة. حمل كلٌ منا حقيبته وسار في اتجاه الخيمة. أرضية الخيمة مفروشة بالحصير وبعض قطع السجاد. الكراسي مبعثرة، وأما الطاولات فمرصوصة بطريقة منظمة. جلس بعضنا، وظل البعض الآخر واقفا. عدد الجنود في الخيمة يفوق عدد المترجمين. قدموا لنا الفطائر والبسكويت مع المرطبات. تناولت حصتي من الطعام وخرجت.
الشمس الوديعة تتناوش الأفق: يا لجمال اللوحة! الإنسان كائن عجيب، عندما يشعر أن حياته في خطر، يستيقظ فيه فجأة الإحساس بالأشياء الجميلة من حوله! أعترف أني أفضّل الشروق على الغروب ألف مرّة، لكن جمال غروب الشمس في هذا اليوم بالذات لا يقاوم! الحنين لما مضى، هذا سر جمالها... هذا ما توقظه في داخلي هذه الساحرة عندما تطبع قبلة على جبين الأفق! مرآة عملاقة، على سطحها أرى وجوها أعرفها وأماكن زرتها: عائلتي هناك، بيتنا، مسجد الحي، الجيران، مدرستي، صديقي «سعود» بأحاديثه الجادة المملة ونكاته الممتعة، جبال الألب الإيطالية، رحلة الدراجات في «كامبردج»، غفوة الظهيرة في كنيسة «نوتردام»، مقاهي «باريس»، قرع الأجراس والأمنية في معبد «كيوتو»، مدينة «سلمنكا» الرمادية، جامعتي وميدان «أنايا»! لحظة، أرجوكِ، لا تغربي، مازال لدي الكثير من الذكريات! حلّ الظلام.
أضواء المخيم تعاند الطبيعة! عندما رجعت إلى الخيمة، شاهدت جميع المترجمين مصطفّين في طابور طويل. انضممت إليهم. في أول الطابور يقف جنديان، أحدهما يقوم بالقياس، والآخر يدوّن الأرقام على ورقة. يستلم كل مترجم الورقة الخاصة به، ثم يتجه إلى ركن آخر من الخيمة لاستلام الملابس العسكرية: زوج من القمصان والبناطيل، وخوذة، وسترة واقية من الرصاص، و زوج من الأحذية، وآخر من الجوارب، وحقيبة، وأخيرا... كمّام الغاز! بادر أكثر المترجمين حماسا إلى ارتداء الملابس العسكرية على الفور، لكن الأغلبية آثرت التريث قليلا. الاستثناء الوحيد كان «بو علي»، فقد بدا مشغولا بفحص كمّام الغاز!

صفحات من دفتر الذاكرة - 3

'بوعلي'، هكذا سمعتهم ينادونه، له زعيق من نوع خاص، يجلب الصداع! يرتدي نظارات سميكة، وله كرش كبيرة لا تتناسب مع زيه الرياضي! إذا صرفنا النظر عن شاربه المصبوغ بلون أسود داكن، فإن من العدل القول إنه في بداية العقد السادس من عمره. وقف 'بوعلي' يحرِّض الجميع على التراجع:
'هل رأيتموهم كيف ارتدوا أقنعة الغاز من دون أن يلتفتوا إلينا؟ لسوف يرموننا رمي الكلاب فور دخولنا العراق! هؤلاء الإنكليز لا صاحب لهم! نحن مترجمون، نحن مدنيون، تذكروا ذلك!'
سأله أحدهم بخبث:
- 'إذن نرجع إلى بيوتنا، هل هذا ما تريد يا 'بوعلي'؟
- 'لا ... أنا لم أقل ذلك، لكن ليس هناك ضمانات! يقول الميجور: 'انبطحوا'! ما شاء الله، وهل يكترث الغاز بوضعيتي وما إذا كنت مستلقياً على بطني أو جالساً على مؤخرتي؟! ما فائدة الانبطاح من دون كمّام الغاز؟ سنموت، سنتعفن، ولن يدري بنا أحد!'
صاحب الصوت الخبيث يزداد خباثة:
- 'هداك الله يا بو علي، لماذا تطوعت في العمل كمترجم إذن؟!'
- 'قرادة يا أخي'!
إلى جانب هذه الصفة الواضحة فيه، بدا 'بوعلي' عفوياً إلى حد السذاجة. خسارة أن ينقرض هذا النوع من الأشخاص بيننا، والخسارة الكبرى هي أن يتكاثروا!
أدخّن، لا شيء سوى الانتظار! السماء مازالت خالية. سيكون من الممتع مشاهدة 'بوعلي' في داخل إحدى الطائرات المروحية! سأحرص على أن أكون إلى جانبه متى سنحت الفرصة! لن تستغرق الرحلة إلى الحدود أكثر من خمس عشرة دقيقة على الأرجح. لدي رغبة لا تقاوم في معرفة ما سيقوله 'بوعلي' وهو معلّق بين السماء والأرض! السؤال الخبيث لا يخلو من منطق: مالذي يدفع شخصاً مثل 'بوعلي' إلى الذهاب طواعية إلى الحرب؟ ربما بدت إجابته ظريفة، لكنها حتما لم تكن مقنعة! أخيراً، لم تصل الطائرات المروحية، بل ثلاث حافلات: خسارة!
طلب منّا الجنود الاصطفاف لاستلام الهوية. لا أدري ما الحكمة من الاصطفاف بينما وقف أحد الجنود ينادي الجميع بالاسم؟!
- 'Fahad R. Al-Mutairi'
استلمت الهوية. صورتي بشعة، كالعادة! حاجبي الأيسر يرتفع لا إرادياً لحظة التصوير! لا أتذكر صورة واحدة لي لا تبدو فيها عيني اليسرى أوسع من العين اليمنى! الهوية في غاية البساطة، طُبعت على عجل:
British Army
Interpreter: Fahad R. Al-Mutairi
Date of Birth: 15 May 1973
ID Number: 1109
رقم الهوية سهل الحفظ: الحادي عشر من سبتمبر! كنت في إسبانيا يومها، في قاعة الامتحان. دخلت أستاذة الأدب الأندلسي مرعوبة إلى القاعة، وقبل أن تقوم بتوزيع أوراق الامتحان، أخبرتنا بما حدث في نيويورك! شاء سوء الحظ أن أكون العربي الوحيد بين الحضور، وبينما راحت الأستاذة تعبّر عن غضبها وإدانتها لتلك الأعمال الإجرامية، كانت عيناها في عيني طوال الوقت! شعرت بأنها توجّه توبيخها لي أنا شخصياً، لذا قمت في نهاية الاختبار بكتابة سطرين على ورقة الامتحان: 'أستاذتي الفاضلة، ليس بوسع المرء أن يعتذر عن فعل إجرامي لم يقم به'! رسبت في الاختبار!
حان وقت الرحيل. دخلت الحافلة الوسطى، فشاهدت 'بوعلي' جالساً خلف السائق مباشرة! انطلقت الحافلات تتقدمها سيارتان عسكريتان من الجيش البريطاني. خيّم الهدوء على الجميع طوال الرحلة. الوجوه بدت مرهقة، والأنظار مشدودة إلى الخارج: لا شيء يغري في الداخل! دوّار 'العظام' بدا أضخم من قبل، والبيوت السكنية أشد تألقاً، ومدينة الجهراء أكثر قرباً، وتلال المطلاع أكبر ارتفاعاً! إيه أيها الرفاق: لحظة الوداع لها سحر خاص، مهما كانت ثقيلة! المجهول في انتظاركم، ومن دون المجهول لا قيمة للأمل! أمّلوا ما شئتم، إذن، سيبقى المجهول هناك في انتظاركم!

صفحات من دفتر الذاكرة 2

بمجرد دخولي، اكتشفت أننا في صالة مسرح ضخمة. جلس الجميع كيفما اتفق، لا أرقام ولا تذاكر! على خشبة المسرح، وقف خمسة جنود بريطانيين، بينهم ضابط. رحّب الضابط بالجميع، ثم قدّم لنا الميجور 'كلارك' من الجيش البريطاني ليشرح طبيعة المهمة التي تنتظر المترجمين الكويتيين في العراق. بدا واثقاً من نفسه هذا الميجر وهو يقف على خشبة المسرح! كان يتحدث بلهجة إنكليزية يغلب عليها الطابع الأرستقراطي، إذ يبدو أنه ينتمي إلى تلك الطبقة الاجتماعية التي لا فخر لأفرادها سوى أنهم 'تكبدوا مشقة المجيء إلى هذه الحياة'، على حد تعبير شخصية 'فيغارو' في مسرحية 'حلاق اشبيلية'! لمحت في يد الميجور شيئاً ذا بريق: خاتم زواج! تركها هناك مع طفلين على أكثر تقدير، ولعله لم يكن بكل هذه الثقة والهيبة لحظة الوداع! من الجائز أيضا أنه أحس بانقباض في صدره حين رآها تلوّح له بيدها من بعيد! لم يدم حديث الميجور أكثر من بضع دقائق، ثم ختم قائلاً: 'يسرني الإجابة عن أي سؤال قد يتبادر إلى أذهانكم'!
كما توقعت، عكست أسئلة المترجمين في مجملها طبيعة نظامنا التعليمي، فنصف الأسئلة لم يكن له داعٍ على الإطلاق، ذلك أن حديث الميجر تضمن إجابات وافية عنها! النصف الآخر من الأسئلة كان على غرار هذا السؤال 'الذكي': هل يسمح بالتدخين أثناء أعمال الترجمة؟! لكن السؤال الأكثر ذكاء جاء من جهة الصف الأخير: هل تضمنون عودتنا أحياء بعد الحرب؟! تعالت أصوات الضحك في القاعة، ثم تلتها أصوات صفارات الإنذار! صاح الميجور بالجميع: انبطحوا... انبطحوا!
اختفى الجمهور... الكل تحت الكراسي! استلقيت ورأسي ناحية الممر، ولمحت من بين المقاعد انبطاح الجنود على خشبة المسرح، بينما كانوا يرتدون أقنعة واقية من الغاز! علّق أحد المترجمين من بين الكراسي قائلا: 'ماذا عنّا نحن؟ هل نموت كالفئران بينما يرتدون هم أقنعتهم بكل أنانية'؟! ردّ آخر ليقول: 'أوه... لا تخافوا، سيوزعون علينا الأقنعة عن قريب، ما في ذلك شك'! الصوت المرعب يقترب، يبتعد، يقترب، يبتعد... أين يسقط الصاروخ؟! خشبة المسرح أمامي، أراها بوضوح، يقف عليها ممثلون بأقنعة سوداء، كائنات غريبة، غير بشرية، عديمة الإحساس، قبيحة! أخيراً، لم يمت أحد! الجمهور يعود من جديد إلى المقاعد، والوجود تبدو مبتهجة! الإحساس بنشوة النجاة يشوبه أحياناً شعور بالخزي، فلو بقينا في مقاعدنا لكانت النتيجة ذاتها: لم يحدث شيء! لكن ماذا لو حدث شيء فعلاً؟ ماذا لو لم تكن هناك حرب أساساً؟ ماذا لو لم نكن...؟ قائمة 'ماذا لو' طويلة، ومن دون فائدة! عجلة الزمن تسير في اتجاه واحد، وهنا تكمن وحشية الوجود الإنساني!
أخبرنا الميجور أن الطريق غير آمنة، وأن فكرة الانتقال بالحافلات إلى الحدود محفوفة بالمخاطر! سرت إشاعة تفيد بأن الانتقال إلى الحدود سيكون من خلال الطائرات المروحية بدلاً من الحافلات! لجأ أغلب المترجمين إلى هواتفهم النقالة للاطمئنان على الأهل! أبقيت هاتفي مغلقا: لم أسمع صوت انفجار، لِمَ الاتصال إذن؟ الشخصية الكويتية تبالغ كثيراً في التعبير عن مشاعرها! خرجت إلى الساحة. رائحة التبغ زكية! أنفث الدخان، يتطاير ثم يختفي: السماء خالية، لم يصلوا بعد! ما هي إلا لحظات حتى خرج الجميع تقريباً إلى الساحة، ثم توزعوا تلقائيا على شكل مجموعات صغيرة: ينتظرون، يتحدثون، يتجادلون! هؤلاء هم زملاء الحرب، لكن مَن منهم سيكون صديقا في الدرب!
ماذا حدث بعد ذلك؟ سأقلب صفحة الدفتر في الأسبوع القادم!

صفحات من دفتر الذاكرة

صباح العشرين من مارس من عام 2003 لم يكن كأي صباح: بدأت الحرب! لا أدري ما الذي دفعني إلى تقييد اسمي ضمن قائمة المترجمين المتطوعين في الجيش البريطاني، ولكن هذا ما حدث. حملت حقيبتي وخرجت لأجد 'باشا'، سائق المنزل، يسألني: 'طيارة ساعة كم؟!' أكثر من عشر سنوات في الكويت و'طيارة ساعة كم؟'! لا ألومه على الإطلاق، بل كيف لي أن ألومه بينما أجيب عن سؤاله دونما شعور مني على هذا النحو: 'ما يروح مطار'! قانون لغوي: بشكل عام، تميل لهجة الأقلية إلى التأثر بلهجة الأغلبية! نعم، باشا وأقرانه هم الأغلبية، لكنها أغلبية مسحوقة مع ذلك! عندما يقرأ الإنسان الكويتي رواية 'الأنفس الميتة'، فأغلب الظن أنه سيقوم بحصر عدد الخدم في منزله! أخبرت 'باشا' أنني هذه المرة لن أتوجه إلى المطار كما هي العادة، بل إلى مبنى رئاسة الأركان، فهذا هو المكان الذي حدده الجيش البريطاني لتجمّع المترجمين الكويتيين قبل رحيلهم إلى العراق. توقفت السيارة أمام بوابة رئاسة الأركان. القلق واضح في عيني 'باشا'. كان قلقاً على مصيري في ما يبدو! عانقته بحرارة، وكأني بهذا العناق أنتقم من القدر الذي جعل منه خادماً وجعل مني سيداً له! لم نتعود- نحن الكويتيين- معانقة الخدم!
جنديان يقفان على البوابة. اقتربت أسأل: لو سمحتما، أين مكان تجمّع المترجمين؟ طلب مني أحدهما البطاقة الشخصية، فناولته إياها. تفحّص البطاقة وأخذ يدقق بقائمة الأسماء التي لديه، بينما اكتفى الجندي الآخر بالتدقيق فيّ أنا! تخيلت ابتسامته الساخرة من دون أن أنظر إليه. لا تزعجني نظرات التدقيق إطلاقا، فقد تعودت ذلك من موظفي الجوازات في مطارات عديدة، لكن ما يحيرني هو كيفية الرد على تلك النظرات! يدقق المسؤول في صورة الجواز، مثلاً، ثم يلقي عليك نظرة فاحصة، وهنا تحديداً لا أعرف ما هو المطلوب؟ هل أرد على نظراته الصارمة بنظرات أكثر صرامة، أم أتجاهله وأكتفي بالنظر إلى جهة أخرى؟ أو ربما من الأفضل أن أبتسم في وجهه بغباء؟ موقف سخيف حقاً!
مبنى رئاسة الأركان لا يوحي إطلاقا بالرهبة! هكذا أفضل، فالكويت بلد مسالم، ولا حاجة لنا في الرهبة! كل شيء كان يبدو طبيعياً، فلم يكن بوسع المرء أن يشعر بتلك الجلبة التي تصاحب عادة نبأ نشوب الحرب! جندي واحد فقط رأيته يهرول في اتجاه البوابة، بينما وقف زميل له يصيح به من بعيد: 'لا تنس السجائر في درج السيارة'! رأيت من بعيد تجمعاً لبعض المدنيين، فأدركت أني لا ريب وصلت حيث أريد. كانت العيون القلقة في كل مكان، وأصوات الهواتف النقالة ترن هنا وهناك. وجدت مكاناً لي تحت شجرة، فوضعت حقيبتي وجلست. خرج ضابط برتبة نقيب ليدعو الجميع إلى الدخول. لا أحب الازدحام، لذا مكثت في مكاني وشرعت أُحصي عدد المترجمين بينما كانوا يدخلون الصالة الواحد تلو الآخر. كان العدد أقل بكثير مما توقعت: 86 مترجماً فقط! دخل قبل الأخير، ولم يبق سوى الأخير، فدخلت! ماذا حدث بعد ذلك؟ هذا ما سأتطرق إليه في مقال قادم!

عندما تكون القراءة شرطاً للاستمتاع

مشاهدة التلفاز والذهاب إلى السينما و'لعب الورق'، كلها متع مجانية لا تتطلب سوى القدرة على التركيز والانتباه، لكن هناك متعة من نوع آخر، متعة غير مجانية على الإطلاق، فالثمن الذي يجب أن تدفعه قبل التلذذ بهذه المتعة هو القراءة، وسأتناول من خلال هذا المقال بعض الأمثلة حول هذه المتعة غير المجانية.
قد تذهب في نزهة للاستمتاع بجمال الطبيعة، وهو استمتاع مقصور فقط على المشاهدة السطحية لما حولك، لكن عندما تقرأ كتابا حول علاقة الطبيعة بالرياضيات، مثلا، فإن نزهتك في رحاب الطبيعة سيكون لها طعم آخر! ستتيح لك القراءة التعرف على أرقام تعرف باسم 'فيبوناتشي'، وهي عبارة عن مجموعة لا متناهية من الأرقام على النحو التالي: 1، 1، 2، 3، 5، 8، 13، 21، 34، 55، 89، ...
لو دققنا في هذه الأرقام، سنجد أنه ابتداء من العدد الثالث، كل عدد يساوي حاصل جمع العددين الذين يسبقانه في التسلسل، ولو عدت الآن إلى نزهتك في رحاب الطبيعة، فستجد أن هذه الأرقام تملأ المكان من حولك! مثلا، لو فحصت حبّات عبّاد الشمس، ستجد أن 34 حبة تلتف بشكل دائري مع عقارب الساعة، و 55 حبة تلتف عكس عقارب الساعة، وكلا الرقمين ينتمي إلى مجموعة أرقام 'فيبوناتشي'! زهرة الزنبق لها 3 بتلات، ونبات الحوذان (نبات بري أصفر) له 5 بتلات، ونبات العائق له 8 بتلات، ونبات الذريون له 13 بتلة، ونبات النجمية له 21 بتلة، وزهرة الربيع لها 34 بتلة أو 55 بتلة أو 89 بتلة، وكل هذه الأرقام هي أرقام 'فيبوناتشي'! لو نظرت إلى الأشجار من حولك، فستجد أن أوراقها مرتبة بنسب 1 إلى 3، أو 2 إلى 5، أو 3 إلى 8، أو 5 إلى 8، أو 8 إلى 13، وكلها كما نلاحظ أرقام 'فيبوناتشي'، وأما التفسير العلمي لميل الأشجار إلى ترتيب أوراقها بهذا الشكل فيعود إلى حقيقة أنه الترتيب الأمثل الذي تتمكن من خلاله كل أوراق الشجر من استقبال أشعة الشمس بشكل متساو!
عندما تنتهي من نزهتك في رحاب الطبيعة، قد تقرر زيارة دار الأوبرا، وأغلب الظن أنك ستشعر بشيء من استهجان من هذه الأصوات الغريبة والصاخبة وربما المضحكة أيضاً! لكن عندما تقرأ كتاباً حول تاريخ الأوبرا، فإن هذه الأصوات، التي بدت لك في أول الأمر غريبة وصاخبة ومضحكة، سيكون لها طعم آخر! ستتيح لك القراءة التعرف على نشأة الأوبرا وارتباطها بفكرة إحياء التراجيديا الإغريقية إبان عصر النهضة الإيطالية، وستعرف أيضا أن أصوات الأوبرا درجات مختلفة، منها ما هو مقصور على النساء، ومنها ما هو مقصور على الرجال، وستجد أن كل شخصية في الأوبرا لها صوت مرتبط بملامح هذه الشخصية، لكن الأهم من ذلك كله هو أنك ستكتشف أن الأوبرا ليست سوى مزيج مدهش من العواطف الإنسانية التي لا تقتصر على جنس واحد أو شعب واحد أو حضارة واحدة! لكل أوبرا نص مكتوب، ولو قمت بقراءة النص قبل الذهاب إلى دار الأوبرا، فلن تفوتك فرصة الاستمتاع بالعرض. لنفترض، مثلا، أنك قرأت نص أوبرا Rigoletto قبل مشاهدة العرض، ففي هذه الحالة لن تسمع أصواتا غريبة ومضحكة، بل ستتمكن من مشاهدة هذا الدوق الفاسد وحاشيته الوضيعة، وسترى كيف تحل اللعنة على من سوّلت له نفسه العبث بأعراض الناس، وستشاهد كيف يؤدي الحب الأرعن والمجنون إلى درب الهلاك والضياع، وستسمع صيحات الأب المفجوع بموت ابنته!
تنتهي الأوبرا وتقرر بعد ذلك زيارة المتحف، وهنا أيضاً متعة غير مجانية، فقد تقف أمام لوحة ساعات بطولها وعرضها من دون أن تدرك مغزاها، لكن عندما تستعين بالقراءة لفك طلاسم اللوحة، فإن هذا العمل الفني الذي أمامك سيكون له طعم آخر! لنفترض، مثلا، أنك قرأت شيئا حول أعمال الرسام الإيطالي 'برونزينو'، ثم ذهبت بعد ذلك إلى متحف 'ناشونال جاليري' في لندن، ووقفت أمام لوحة 'فينوس، وكوبيدو، والجنون، والزمن'، ففي هذه الحالة لن تشيح بوجهك عن هذه الأجساد العارية كما في اللوحة، بل ستدرك المغزى العميق لهذه التحفة الفنية العظيمة! ستبدأ أولا بحل ألغاز اللوحة الواحد تلو الآخر، فهذا الصبي العاري ذو الجناحين يجسد شخصية 'كوبيدو'، والمرأة التي بجانبه هي أمّه 'فينوس'، والشيخ العجوز الذي يحمل على ظهره ساعة رملية يرمز إلى 'الزمن'، والطفل ذو الوجه البشوش يرمز إلى 'اللذة'، والفتاة التي لها جلد أفعى ترمز إلى 'الخديعة'، والعجوز الساحرة ترمز إلى 'الغيرة'، والمرأة التي تنظر نظرة حزن وحيرة ترمز إلى 'الحقيقة'! كل هذه المشاعر الإنسانية المصاحبة لموضوع 'الحب المحرّم' تجدها أمامك مجسّدة في هذه اللوحة!
القراءة ليست متعة فحسب، بل هي متعة تجلب العديد من المتع!

إرادة الناخب ومعدل التكاثر

ليس لدي أدنى اعتراض على فكرة الوقوف المشروع مع أي شخص يستحق المؤازرة، ولكن اعتراضي هو أن تكون صفة القرابة من بين العوامل التي تقرر مشروعية المؤازرة، لذا فإني سأسأل: لماذا تأتي نتائج الدائرتين الرابعة والخامسة منسجمة إلى حد كبير مع الوزن الديموغرافي للقبائل؟!
يتباهى عدد لا بأس به من أبناء الدائرتين الرابعة والخامسة بالمستوى التعليمي الذي وصلوا إليه، خصوصاً أن منهم مَن درس في جامعات أجنبية مرموقة، ولعل وتيرة هذه المباهاة زادت في السنوات الأخيرة من خلال تزايد عدد اللافتات الكبيرة على قارعة الطريق، والتي تبدأ عادة بعبارة 'بمناسبة تخرج فلان الفلاني من الجامعة الفلانية، ندعوكم...'! لا أريد أن أقحم رأيي الشخصي حول تفاهة الفكرة المتمثلة في استثمار شهادة التخرج لتسويق الذات واستجداء القبول الاجتماعي، ولكن ما يهمني هو أن هذه المباهاة بالعلم والمعرفة لا تدل على شيء ذي قيمة حقيقية على أرض الواقع، ولكي أثبت للقارئ صحة هذا الرأي، يكفي أن أطرح سؤالاً بسيطاً على النحو التالي: ما السبب في سهولة التنبؤ بنتائج الانتخابات في الدائرتين الرابعة والخامسة؟!
العلم ليس شهادة نعلقها على الحائط، بل أداة تسمح للفرد باكتساب رؤية خاصة للعالم من حوله، إنه وسيلة لاختبار كل القيم التي اكتسبها الفرد لمجرد أن اسمه الأخير ينتمي إلى شريحة معينة من البشر! على سبيل المثال، هناك قيمة عشائرية تفيد بوجوب الانتصار لابن العم مهما كانت الأسباب. أستطيع أن أتفهم تمسك كبار السن بهذه القيمة وحرصهم على استمرارها، ولكن كيف لشاب يقضي نصف عمره في الدراسة والتعلم ثم يتخلى عن أبسط بديهيات التفكير الموضوعي لينتصر لابن العم! قد يعترض القارئ ليقول: 'ماذا لو كان ابن العم شخصا يستحق المساعدة والمؤازرة؟' ليس لدي أدنى اعتراض على فكرة الوقوف المشروع مع أي شخص يستحق المؤازرة، ولكن اعتراضي هو أن تكون صفة القرابة من بين العوامل التي تقرر مشروعية المؤازرة، لذا فإني سأطرح السؤال السابق من جديد ولكن بصيغة مغايرة: لماذا تأتي نتائج الدائرتين الرابعة والخامسة منسجمة إلى حد كبير مع الوزن الديموغرافي للقبائل؟!
ربما يعترض القارئ من جديد ليقول: 'مهما كانت نسبة المتعلمين من أبناء هاتين الدائرتين، فإن عددهم لا يبلغ من الضخامة بحيث يستطيع التأثير في نتيجة الانتخابات'! هذا الاعتراض يحتوي على إشارة ضمنية تفيد بأن المتعلمين من أبناء هاتين الدائرتين لم يدلوا بأصواتهم على أساس الانتماء القبلي، وبالرغم من صعوبة تصديق مثل هذا القول، فإني سأفترض جدلاً أنه قول صحيح، لكن في المقابل، إذا كان هؤلاء الأشخاص المتعلمون ضد فكرة التصويت على أساس هوية القبيلة، فلماذا لا نسمع لهم صوت احتجاج على اختطاف القبيلة لإرادة الفرد وحريته في الاختيار؟ لماذا، مثلا، لا نراهم يعيدون صياغة الأسئلة السابقة على النحو التالي: ما السبب في تقاسم قبيلتي 'مطير' و'الرشايدة' لأغلب أصوات الدائرة الرابعة؟ من الواضح أن السبب الجوهري يكمن في الأعداد الكبيرة للناخبين ممن ينتمون لهاتين القبيلتين، مما يعني أن إحدى الطرق في التأثير على نتائج هذه الدائرة وعدم اقتصارها على هاتين القبيلتين مرهون (من بين عوامل أخرى) بمدى قدرة القبائل الأخرى على التناسل لتعويض الفارق في الأصوات الانتخابية! هذه ليست سخرية ولا تهكما، بل نتيجة طبيعية للحالة التي تكون فيها عملية التصويت معتمدة بشكل أساسي على تطابق الاسم الأخير للمرشح مع الاسم الأخير للناخب!
أليس من المخجل أن نقضي نصف حياتنا في الدراسة والتعلم ثم نخضع إرادتنا الانتخابية لمدى قدرتنا على التكاثر؟

ملاحظات شخصية حول العملية الانتخابية

سأتناول من خلال هذا المقال بعض الملاحظات الشخصية حول العملية الانتخابية والنتائج التي أفضت إليها، وهي ملاحظات تتعلق فقط ببعض الخطوط العريضة حول هذا الموضوع.
أولا، هناك سؤال مهم يتعلق بكيفية ضمان استمرار المجلس المقبل وإكمال عمره الدستوري لأربع سنوات قادمة، وبالرغم من عدم تسليط الضوء على هذا السؤال بشكل مباشر خلال الحملات الانتخابية، فإن بإمكاننا أن نستشف إجابة ضمنية عنه من خلال بعض الشعارات الانتخابية الداعية إلى استبعاد ما يسمون بـ'نواب التأزيم'، ومع الاعتراف بغموض هذا المصطلح، فإن من الواضح أن هناك مَن يعتقد أن حماية العمر الافتراضي لمجلس الأمة تعتمد في المقام الأول على إرادة الناخب في تحديد هوية الطاقم النيابي الجديد للمجلس. لكن في تقديري أن القضية تتطلب حلولاً أكثر راديكالية، مثل إعادة صياغة بعض مواد الدستور بطريقة تحفظ للمجلس هيبته وتضمن استمراره. بمعنى آخر أكثر تحديداً، أعتقد أن الوقت قد حان للتفكير الجدي في إعادة رسم خريطة السلطة السياسية وموازين الحكم بطريقة تضمن المزيد من الديمقراطية، وأما الاكتفاء بإلقاء اللوم على 'نواب التأزيم' فإن من شأنه إنتاج مجلس خانع يحرص على عدم الاقتراب من 'الخطوط الحمراء' أكثر من حرصه على الدفاع عن مصالح الشعب. إن مساومة نائب الأمة على الاختيار بين البقاء في كرسي المجلس لأطول فترة ممكنة وبين المغامرة بمصيره السياسي عن طريق التصدي للفساد، أقول إن هذه المساومة هي أقصر الطرق إلى تحوّل مجلس الأمة إلى مجلس شورى صوري!
ثانيا، قد تشير هزيمة الحركة الدستورية الإسلامية 'حدس' في الانتخابات إلى نتيجة إيجابية بالنسبة لخصوم الحركة، ولكن إذا صرفنا النظر عن الخصومة السياسية الضيقة ونظرنا إلى الأمر في سياق أوسع، فإن هذه الهزيمة ستضاف إلى قائمة المؤشرات السلبية لتدهور الحياة السياسية في الكويت، خصوصاً في ما يتعلق بمصير العمل الحزبي وتطويره، فبالأمس فشل 'حزب الأمة' في احتواء بعض مرشحيه وثنيهم عن الدخول في تصفيات فرعية، واليوم أصبح اعتماد مرشحي 'حدس' على الانتماء إلى الحركة في خوض الانتخابات لا يكفي لتحقيق النجاح، بل قد يضاعف من فرص الاخفاق، خصوصاً عندما يتصادم الانتماء الحزبي مع الانتماء القبلي!
ثالثا، هناك أيضا مؤشرات أخرى تدل على تدهور العمل الحزبي المنظم في الحياة السياسية، فالنزعة الفردية في الترشيح، مثلاً، أخذت أبعاداً خطيرة في الانتخابات الحالية، ومن الأمور الدالة على ذلك اختفاء مظلتي 'التحالف الوطني الديمقراطي' و 'المنبر الديمقراطي الكويتي' بشكل رسمي من هذه الانتخابات، وشاهدنا كيف تسابق المرشحون المحسوبون على هذا التيار أو ذاك إلى خوض الانتخابات بطريقة فردية! صحيح أن 'التحالف' أعرب عن دعمه لكل 'المرشحين الوطنيين'، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أن 'التحالف' تخلّى عن أبسط أبجديات الممارسة الحزبية ولم يبادر إلى نظام القائمة كما حدث في الانتخابات الماضية، ثم إن تعبير 'المرشحين الوطنيين' غير دقيق وفي حاجة إلى توضيح، إذ من هو 'المرشح الوطني'؟ هل يكفي الوقوف مع مواد الدستور لنيل لقب 'المرشح الوطني'؟ ماذا عن الوقوف مع مصالح البنوك والشركات الكبرى على حساب المال العام؟ أما المثال الآخر على تدهور العمل الحزبي فمرتبط بالبرنامج الانتخابي الذي أصدره 'المنبر' أثناء فترة الانتخابات، ثم التنصل من هذا البرنامج بحجة أنه لا يمثل سوى 'مشروع برنامج سياسي' وأنه 'غير ملزم لمرشحي المنبر'! لا تعنيني الخلافات بين أعضاء المنبر، فعمر هذه الخلافات يرجع إلى اليوم الأول الذي تم فيه تأسيس المنبر، ولكن ينبغي الإشارة إلى أن تعبير 'مرشحي المنبر' تعبير غير دقيق، فتدهور العمل الحزبي لدى المنبر حال دون الإعلان عن ترشيح رسمي لمن خاضوا الانتخابات البرلمانية من بين أعضاء المنبر!
أخيراً، وصول المرأة إلى البرلمان خطوة مهمة على طريق كسر القيود الاجتماعية ضد المرأة، كما أنه بمنزلة دعوة صادقة إلى التيارات الإسلامية والقبلية لإعادة النظر في تحيّزها ضد المرأة والتكيف مع مناخ سياسي جديد! أما أنصار المرأة فعليهم أن يحذروا من الوقوع في فخ التمييز ضد المرأة ولو بحسن نية، فدعوة المرشحات الأربع اللواتي فزن في الانتخابات إلى تقديم نموذج مشرّف للعمل النيابي تنطوي على تمييز جنسي غير مبرر، ذلك أن الأداء النيابي غير مرتبط بنوع الجنس، أو هكذا يجب أن يكون! ليس من العدل أن يكون هناك ضغط نفسي على النائبات الأربع من خلال دعوتهن إلى 'تمثيل المرأة' في البرلمان على أكمل وجه، لأنهن ببساطة لا يمثلن المرأة فقط، بل الرجل والمرأة معاً! ليس من العدل أيضا أن يتم الربط بين أي إخفاق في أداء المرأة النيابي والجدوى من دخول المرأة إلى البرلمان، إذ ليس من المستبعد أن نسمع في المستقبل القريب أصواتا تردد: 'ألم نقل لكم إن المرأة لا تصلح للعمل البرلماني؟!'، لذا يجب الحذر من هذه الأصوات الكارهة للمرأة لمجرد أنها امراة! نعم، وصول المرأة إلى البرلمان خطوة مهمة على الطريق الصحيح، ولكن الطريق طويل جداً، فمازلنا نحلم بذلك اليوم الذي يقف فيه الناخب أمام ورقة الاقتراع ليختار من يمثله تحت قبة البرلمان من دون أن يكون نوع الجنس ضمن عوامل الاختيار!

البديل النمساوي

الفيزيائي الدنماركي الشهير 'نيلز بوهر'، الحاصل على جائزة 'نوبل' لإسهاماته الكبيرة في 'نظرية الكم'، قال مرة ممازحاً أحد أصدقائه: 'التنبؤ صعب جداً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمستقبل'! ربما تعذّر على الفيزيائيين من أمثال 'بوهر' التنبؤ بسرعة الإلكترون ومكانه في الوقت نفسه، لكن مشكلة التبنؤ لدى الاقتصاديين أصعب من ذلك بكثير، فالاقتصاد ينتمي إلى مجموعة من العلوم تعرف باسم 'العلوم الخاصة'، والسبب في خصوصية هذه العلوم يكمن في عدم قدرتها على صياغة قوانين علمية خالية من أي استثناء كما هي الحال عادة في علم الفيزياء، ولعل أبرز مثال على هذه الحقيقة هو استحالة العثور على قانون اقتصادي من دون أن يكون مقروناً بالمصطلح اللاتيني ceteris paribus، والذي يشير إلى صرف النظر عن بقية العوامل التي من شأنها تهديد صحة القانون!
لا أحد بالطبع يلوم الاقتصاديين على عدم مقدرتهم في العثور على قوانين ثابتة، فالمشكلة لا ترتبط بمهارة الاقتصاديين بقدر ارتباطها بطبيعة الميدان الذي اختاروا التخصص فيه، ومثلهم في ذلك مثل العلماء الآخرين في ميادين الطب والأحياء والجيولوجيا وغيرها من العلوم الخاصة، ولكن على الرغم من ذلك، فإن هناك من استطاع من الاقتصاديين وضع نظريات اقتصادية ذات قدرة تنبؤية فائقة، ولعل أبرز مثال في هذا الصدد هي نظرية العالم النمساوي 'لوفينغ فون مسيز' حول ميكانيكية الدورة الاقتصادية، فلقد استطاع هذا العالم الاستفادة من أبحاث الفيلسوف الاقتصادي الإسكتلندي 'ديفيد هيوم' والمفكر الاقتصادي الإنكليزي 'ديفيد ريكاردو'، ليضع بعد ذلك نظريته الخاصة حول الدورة الاقتصادية، ومن الممكن شرح هذه النظرية على النحو التالي:
في حال عدم وجود توسع في الائتمان المصرفي، يميل كلا من العرض والطلب إلى التوازن في ما بينهما من خلال النظام الحر للأسعار، وبالتالي لا يحدث توسع أو انكماش في دورة الاقتصاد، لكن تدّخل الحكومات بواسطة بنوكها المركزية يساهم في تحفيز التوسع الائتماني من خلال زيادة المطلوبات لدى البنوك المركزية، أي من خلال زيادة نسبة أموال احتياطي البنوك، ثم تقوم البنوك بعد ذلك بالتوسع بمنح القروض وزيادة كمية المعروض من النقود، وهذه العملية، كما لاحظ 'ريكاردو'، تؤدي لاحقا إلى زيادة الأسعار والتضخم. لكن 'ميسز' استطاع أن يرى ما لم يره 'ريكاردو' أو أي اقتصادي آخر، فقد لاحظ أن سر الدورة الاقتصادية مرتبط بعملية التوسع في الائتمان، وهو توسع ناتج عن خفض مصطنع لسعر الفائدة إلى ما دون السعر الحقيقي حسب اقتصاد السوق الحرة.
في سوق اقتصادي حر وبعيد عن تدخل البنوك المركزية، تكون قيمة سعر الفائدة مرتبطة بمدى ميل الناس إلى الادخار أو الاستهلاك، فكلما زادت نسبة ادخار الناس لأموالهم، تضاءل سعر الفائدة، والعكس صحيح، لكن عندما تقوم البنوك المركزية بتخفيض سعر الفائدة بشكل مصطنع لا يعكس المستوى الحقيقي لنسبة ادخار الناس لأموالهم، فإن المحصلة هي قيام المستثمرين بالاقتراض والاستثمار في السلع الرأسمالية (مثل المصانع والآلات وغيرها، فجميعها سلع رأسمالية لأنها تستخدم لإنتاج سلع أخرى)، ظناً منهم أن الناس لديها من الأموال المدخرة ما يكفي لشراء كل السلع الجديدة الناتجة عن الاستثمار في السلع الرأسمالية، والنتيجة هي سقوط هؤلاء المستثمرين ضحايا التخفيض المصطنع لسعر الفائدة!
لقد حّذر 'ميسز' وبقية أتباع المدرسة النمساوية من خطورة النظام المصرفي بشكله الحالي، فعلى عاتق هذا النظام تقع مسؤولية هذه الدورة الكارثية للاقتصاد! لكن أتباع هذه المدرسة لم يكتفوا بالتحذير، بل قاموا بتقديم البديل، ومن الممكن تلخيص أهم النقاط في هذا المشروع البديل على النحو التالي:
أولاً، العودة إلى قاعدة الذهب التي تسمح بتحويل العملات الورقية إلى ذهب عند سعر ثابت، إذ إن من أهم مزايا ربط العملات الورقية بالذهب هي استحالة تناقص كمية المعروض من النقود، وبالتالي القضاء على الدورة الاقتصادية التي تنتهي عادة بانكماش الاقتصاد وانخفاض حاد في المستوى العام للأسعار.
ثانياً، إلغاء البنوك المركزية وتأسيس نظام مصرفي قائم على المنافسة الحرة بين البنوك، ذلك أن وجود بنك مركزي بصفته الملاذ الأخير لإقراض البنوك المعرضة للإفلاس يشجع هذه البنوك على الاستهتار والمغامرة، كما أن وجود بنك مركزي يتيح للبنوك حرية التضخم بشكل متناغم (كما رأينا في مقال سابق)، لكن عندما يتم إلغاء البنوك المركزية، فإن قدرة كل بنك على التضخم ستكون محدودة بعدد عملاء البنك، فكلما زاد عدد البنوك في أي دولة، تضاءل عدد العملاء لدى كل بنك، وفي هذه الحالة سيتعين على كل بنك الاحتفاظ بجزء كبير من أموال الإيداع تحسّباً لمطالبة البنوك الأخرى بهذه الأموال، والمحصلة النهائية هي عدم قدرة أي بنك على التضخم من دون التعرض إلى الإفلاس!
ثالثاً، إجبار البنوك على الاحتفاظ بأموال الإيداع بنسبة مئة في المئة، أي عدم السماح للبنوك في تقديم القروض من أموال المودعين، لكن ينبغي الاعتراف بصعوبة إجبار البنوك على هذا الأمر نظراً لقدرتها الفائقة على تجديد أشكال الائتمان والسيولة، وعلى الرغم من ذلك، فإن إتاحة الفرصة للبنوك في التنافس من دون وجود بنك مركزي سيساهم حتما في ارتفاع نسبة الاحتفاظ بأموال الإيداع لدى كل بنك كما ذكرنا سابقا.
مراجع:
استعنت بقائمة من المراجع الأجنبية في كتابة هذه السلسلة من المقالات حول قصة المال والنظام المصرفي، ونظراً لطول القائمة، سأكتفي بتقييد أهم المراجع، ولمن أراد الحصول على قائمة المراجع كاملة، فبوسعه أن يبعث لي برسالة على بريدي الالكتروني، وسأقوم بإرسالها إليه.
1 - كتاب The Mystery of Banking، للمؤرخ الاقتصادي الأميركي 'موري روثبارد'، 1983.
2 - كتاب What Has Government Done To Our Money?، للكاتب نفسه في (1)، 1963.
3 - كتاب Human Action، للمفكر الاقتصادي النمساوي 'لودفينغ فون ميسز'، 1949.
4 - كتاب Principles of Macroeconomics، للاقتصادي الأميركي 'نيكولاس غريغوري مانكيو'، 1999.

النظام المصرفي والدورة الاقتصادية

أشرنا في المقال السابق إلى سياسة التضخم الناتجة عن نظامنا المصرفي، وينبغي الاعتراف أيضا أن نظامنا المصرفي جزء من النظام المصرفي العالمي، لذا فإن التضخم مشكلة عالمية ولا تقتصر على دولة صغيرة بحجم الكويت، لكن النقطة التي ينبغي التأكيد عليها هنا هي أن التضخم ظاهرة مصرفية في المقام الأول، أي أنها نتيجة حتمية لنظام مصرفي يخلق المال من لا شيء كما أوضحنا في المقالات السابقة. بإمكاننا أيضا أن نذهب إلى أبعد من ذلك لنؤكد أن النظام المصرفي العالمي بشكله الحالي هو المسؤول الأول عن الأزمات المالية العالمية منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى زمننا الحاضر! هذا هو رأي الاقتصاديين من أتباع المدرسة النمساوية، وهو رأي يتعارض مع بقية المدارس الاقتصادية الأخرى، مثل المدرسة الماركسية أو المدرسة الكينزية.
لنأخذ على سبيل المثال الدورة الاقتصادية التي تتراوح بين التوسع والركود، أو بين الانتعاش والانكماش، والتي يعانيها الاقتصاد العالمي بين الحين والآخر، فعلى الرغم من الاختلاف الجذري بين المدرستين الماركسية والكينزية، فإنهما متفقتان على تشخيص المشكلة، فكلتاهما يرى أن السبب الأساسي لهذه الدورة الاقتصادية يكمن في طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، لكنهما يختلفان من حيث طبيعة الحل الذي تقدمه كل مدرسة على حدة، فبينما يرى ماركس أن الحل يكمن في التخلص من الرأسمالية واستبدالها بنظام اقتصادي اشتراكي، يرى 'كينز' أن الحل يتمثل في تدخل الحكومات لتنظيم اقتصاد السوق كلما دعت الحاجة إلى ذلك. انهيار الاتحاد السوفييتي والتحولات الكبرى التي شهدتها بعض الدول الاشتراكية مثل الصين وضعت النظرية الماركسية على المحك، بينما شكّل الفشل الذي مني به نظام 'بريتون وودز' في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، تحدياً كبيراً للنظرية الكينزية، وعلى الرغم من تراجع هذه النظرية لمصلحة الليبرالية الجديدة في العقود الثلاثة الأخيرة، فإنها بدأت من جديد تحتل شعبية كبيرة مع بداية الأزمة المالية الراهنة. لكن أين تقف المدرسة النمساوية بالنسبة لكل هذه المدارس الاقتصادية؟
المنظّرون المنتمون إلى المدرسة النمساوية من أمثال 'ميسز' و 'روثبارد' لهم رأي مغاير، فهم يرون أن السبب الرئيسي للدورة الاقتصادية يكمن في تحكم السلطة السياسية والقطاع المصرفي بكمية النقود المتاحة في الاقتصاد بشكل عام، و اتخذ هذا التحكم أشكالاً متعددة على مر التاريخ، منها ما هو بدائي مثل سيطرة الملوك بشكل مباشر على مناجم الذهب واحتكار سك العملة، ومنها ما هو أكثر تطوراً مثل إنشاء بنوك مركزية تتمتع بصلاحية طباعة النقود وتحديد سعر الفائدة وشراء السندات الحكومية أو بيعها، وكلها أدوات تتيح للبنوك المركزية التحكم بكمية المعروض من النقود، فعندما تقوم البنوك المركزية بخفض سعر الفائدة أو شراء السندات الحكومية، فإنها في حقيقة الأمر تضخ أموالاً إضافية في المؤسسات المالية التي تتوسع بدورها عن طريق الإفراط في منح القروض، وتوافر السيولة بهذا الشكل يبعث برسالة خاطئة إلى المستثمرين مفادها أن الاقتصاد يشهد انتعاشاً، لكن بمجرد أن تتخذ البنوك المركزية سياسة مضادة من خلال رفع سعر الفائدة أو بيع السندات الحكومية، فإن المستثمرين يقعون فريسة للإفلاس وعدم التمكن من سداد قيمة القروض! لقد اكتسب السيد 'بيرنانكي'، رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، لقب 'بيرنانكي الهليوكبتر' بفعل قدرته على ضخ الدولارات في النظام المصرفي كما لو أنه يقذف بالمال من فوق متن طائرة مروحية، ولكن 'بيرنانكي' يستحق أيضا لقباً آخر، مثل 'المكنسة الكهربائية'، فهو قادر أيضا على امتصاص الدولارات من النظام المالي متى دعت الحاجة إلى ذلك!
كانت أبرز العوائل الغنية في مدينة 'نيوريورك' وراء فكرة إنشاء بنك مركزي، فبفضل المصالح المشتركة بين المصرفي الشهير 'مورغان' وتاجر النفط 'روكفيللر'، تم استصدار قانون إنشاء 'البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي' في عام 1913 بذريعة المحافظة على الاقتصاد وتنظيم الجهاز المصرفي، وسرعان ما اكتسبت هذه الحجة الواهية شهرة عالمية، فوجود بنك مركزي في أي دولة أصبح ينظر إليه على أنه دلالة على تطور النظام الاقتصادي واستقراره! لكن من السهل الوقوف على الأهداف الحقيقية وراء إنشاء بنك مركزي، فوجود مثل هذا البنك من شأنه إزالة كل المعوقات التي تقف في طريق البنوك لزيادة ثرواتها عن طريق خلق المال من لا شيء وزيادة التضخم، كما أن وجود البنك الاحتياطي الفيدرالي يعني قدرة الحكومة الأميركية على تمويل حروبها وبسط هيمنتها العسكرية والاقتصادية على العالم أجمع، إذ لا ننسى أن الدولار هو العملة العالمية الأساسية المسيطرة على أغلب التداولات التجارية العالمية، كما أن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يتمتع بحق طباعة الدولارات من دون حدود كما عبر عن ذلك السيد 'بيرنانكي' في أكثر من مناسبة، لذا من السهل أن نفهم تخوف الحكومة الأميركية من تصريحات الحكومة الصينية في الفترة الأخيرة حول ضرورة إعادة النظر في اعتبار الدولار عملة عالمية!
ملاحظة: مقال يوم الاثنين القادم سيكون آخر مقال في هذه السلسلة من المقالات حول قصة المال والنظام المصرفي.

المركزي والبنوك

تضمّن مقالنا السابق إدانة صريحة للطريقة التي تنتهجها البنوك في تحريك عجلة الاقتصاد، وينبغي التأكيد هنا على أن هذه الإدانة مرتبطة فقط بحقيقة أن القروض التي تمنحها البنوك تؤدي إلى زيادة كمية النقود المتاحة في الاقتصاد الوطني، وبالتالي إلى التضخم وفقدان العملة المحلية لقوتها الشرائية، لكن من المهم التذكير أيضا بأننا لا نقف ضد حق البنوك في تقديم القروض على الإطلاق، بل ضد الطريقة التي تنتهجها البنوك في تقديم هذه القروض، ولتوضيح هذه النقطة، سنضرب المثال الافتراضي التالي: تخيّل أني ادخرت مبلغا وقدره 10 آلاف دينار كويتي، ثم أردت استثمار هذا المبلغ عن طريق إقامة بنك لمنح القروض وجني فوائدها، ولنفترض أنك أنت، عزيزي القارئ، هو أول زبون لديّ، حيث جئتني بغرض اقتراض مبلغ وقدره 9 آلاف دينار مع فائدة بنسبة 10 في المئة، في هذه الحالة يكون حجم أصول البنك 10900 دينارا، منها 1000 دينار من حجم المال المتبقي بعد تقديم القرض، و9900 دينار من حجم المال الذي أنت مدين لي به، ولكن السؤال الجوهري هنا هو هل ساهم البنك في زيادة كمية المال في المجتمع ككل؟ إطلاقا، ذلك أن حجم الموجودات يساوي حجم المطلوبات، فأنا ادخرت مبلغا من المال بغرض الاستثمار عن طريق منح قروض، وأنت اقترضت إما بهدف الاستثمار، وإما بهدف الاستهلاك، لكن في كلتا الحالتين كنت ملزماً بادخار قيمة القرض المستحق عندما يحين وقت السداد.
هل يعني ذلك أنه من المستحيل أن يقوم أصحاب البنوك بمنح قروض إلا بعد أن يوفروا من جيوبهم الخاصة؟ ليس بالضرروة، فبإمكاني أيضا أن أستدين مبلغا من المال لإنشاء بنك بهدف منح القروض، بحيث يكون مصدر ربح البنك مرتبطا بفارق سعر الفائدة بين الأموال التي اقترضتها والأموال التي أقرضها! لكن حتى في هذه الحالة ليس هناك تضخم، فالفائدة التي دفعتها جاءت من عوائد القروض التي منحتها، والفائدة التي جنيتها جاءت من جيب أحد المستثمرين أو أحد المستهلكين، لكن في كلتا الحالتين ليس هناك زيادة في كمية النقود في المجتمع ككل! لكن ماذا يحدث تحديداً عندما تقوم البنوك بالخلط بين الإيداع والإقراض؟ دعنا نرى كيف تساهم بنوكنا المحلية في زيادة التضخم بفضل توجيهات البنك المركزي!
كل بنك مركزي لديه أدوات يستطيع من خلالها التحكم بكمية النقود المتاحة في الاقتصاد الوطني، من هذه الأدوات هناك ما يعرف باسم Reserve Requirements أو متطلبات الاحتياطي، وهي عبارة عن نسبة أموال الإيداع التي يحددها البنك المركزي والتي تلزم البنوك بالتقيد بها، ولمعرفة كيف يساهم البنك المركزي مع بقية البنوك في زيادة التضخم والإضرار بمعيشة المواطن البسيط، دعنا ننظر إلى المثال التالي:
لنفترض أن كمية النقود المتاحة في الاقتصاد الوطني تبلغ 1000 دينار، ولنفترض أنه تم إيداع هذا المبلغ في أحد بنوك الكويت، مثلاً، ففي هذه الحالة سيقوم البنك بالتقيد بتعليمات البنك المركزي ليحتفظ بنسبة 10 في المئة فقط من هذا المبلغ، أي 100 دينار، ثم يقدم الـ 900 دينار المتبقية على شكل قروض. هذا يعني أن أصول البنك ارتفعت من 1000 دينار إلى 1900 دينار، أي أن البنك ساهم في زيادة كمية النقود المتاحة بنسبة 90 في المئة (سنهمل حجم الفوائد التي سيجنيها البنك من القرض وذلك لتبسيط المثال). دعنا نفترض أنني أنا المستفيد من هذا القرض، ثم قمت باستخدام المبلغ في شراء قطع من الأثاث، لكن تاجر الأثاث عميل لدى بنك آخر، لذا فإنه سيودع مبلغ الـ 900 دينار في هذا البنك، وهذا البنك بدوره سينفذ من جديد تعليمات البنك المركزي ليحتفظ بمبلغ 90 ديناراً ويقرض الـ810 دنانير المتبقية، وقد ينتقل هذا القرض من جديد إلى بنك ثالث لتستمر العملية التضخمية من خلال تناقص قيمة القروض الممنوحة وتزايد كمية النقود المتاحة، ولتوضيح هذه العملية رياضيا، سنجد أن كمية النقود المتاحة في الاقتصاد الوطني تزايدت من بنك إلى آخر على النحو التالي:
مبلغ الإيداع الأصلي: 1000 دينار
القرض الممنوح من البنك الأول: 900 دينار (1000 X 0.9)
القرض الممنوح من البنك الثاني: 810 دنانير (900 X 0.9)
القرض الممنوح من البنك الثالث: 729 ديناراً (810 X 0.9)
ثم تستمر هذه العملية التضخمية إلى آخر بنك، حيث تصل كمية النقود المتاحة في الاقتصاد الوطني إلى 10000 دينار، أي أن هذه الكمية تزايدت عن الأصل بمقدار عشرة أضعاف، ولكن في المقابل تضاءلت القوة الشرائية للدينار إلى العُشر! لو تأملنا الصفحات الاقتصادية في أغلب صحفنا المحلية، فسنجد أن 'البروباغندا' توحي بأن البنوك متضررة من تدخل البنك المركزي في شؤونها، ولكن الحقيقة تفيد بأنه لولا وجود البنك المركزي لما استطاعت هذه البنوك المحافظة على هذا التناغم التضخمي في ما بينها بهذه الصورة! المؤسف هو أن وتيرة هذا التناغم التضخمي ستزداد بشكل مخيف في السنوات القادمة، فبعد أن تم إقرار قانون ما يسمى بالاستقرار المالي، فإن وتيرة التضخم ستتصاعد من جديد لتستفيد منها الحكومة والبنوك وكبار المستثمرين، أما أنا وأنت ممن يعتمدون على راتبهم الشهري الثابت، فسنردد قول إحدى العجائز الكويتيات التي تساءلت مرة بكل براءة: 'يا وليدي ليش قطع الله البركة بفلوسنا'؟ من الصعب أن نشرح لهذه العجوز الطيبة آلية التضخم، لكن ماذا عن المتعلمين من أبناء وبنات هذا الوطن، وما هو عذرهم عندما يعرفون ما يجري من دون أن يحرّكوا ساكنا؟!

البنوك بين الإيداع والإقراض

رأينا في المقال السابق كيف أدى الخلط غير المشروع بين الإيداع والإقراض إلى تمكين صائغي الذهب من خلق المال من لا شيء، ونريد من خلال هذا المقال أن ندلل على أن نشأة البنوك لم تكن سوى امتداد للممارسات غير المشروعة لصائغي الذهب، لكن قبل أن نتناول هذا الموضوع، أريد أن أوضح نقطة مهمة تفاديا لأي التباس: إن الهدف الأساسي وراء هذه السلسلة من المقالات ليس له علاقة بتشويه صورة البنوك أو الانتقاص من أهمية وجودها، إذ لا أحد ينكر الدور الحيوي الذي تقوم به البنوك في تحريك عجلة الاقتصاد بشكل عام، ولكن ما يعنينا في هذا المقام هو تسليط الضوء على السؤال التالي: ما مدى مشروعية الطريقة التي تنتهجها البنوك في تحريك عجلة الاقتصاد؟ هذا سؤال عام، لكن بإمكاننا أن نجعله أكثر تحديداً من خلال طرح مجموعة من الأسئلة المحددة على النحو التالي: 1 - هل يحق للبنك التصرف في ودائع العملاء لمصلحته الخاصة؟ 2 - هل يحق للبنك الاحتفاظ بجزيء بسيط من حجم أموال الإيداع التي تقع تحت مسؤوليته؟ 3 - هل تساهم سياسة التضخم التي تنتهجها البنوك في مكافأة شريحة العملاء التي تعتمد على الاقتراض ومعاقبة شريحة العملاء التي تعتمد على التوفير؟ دعنا نتناول كل سؤال على حدة.
ليس من المستغرب أن يقف السياسيون إلى جانب أرباب المال، ففي عام 1848، ناقش مجلس الشيوخ البريطاني مسألة ودائع العملاء وما إذا كان للبنوك الحق في التصرف بها، ولقد جاء رأي اللورد 'كوتنهام' متماشياً مع مصلحة أصحاب البنوك، حيث أكد أنه بمجرد أن يودع الناس أموالهم لدى أحد البنوك، فإن ملكية هذه الودائع تنتقل مباشرة إلى البنك، 'يتصرف بها كيفما شاء'، لكن اللورد تدارك قائلاً:'هذا لا ينفي مسؤولية البنك في إعادة الودائع إلى أصحابها متى ما جاؤوا لاسترجاعها!'... اللورد 'كوتنهام' تناسى حقيقة أن البنوك لا تستطيع الالتزام بهذه المسؤولية لسبب بسيط، وهو أن البنوك لا تحتفظ سوى بجزيء بسيط من هذه الودائع! هذه الحقيقة تقودنا إلى السؤال الثاني المتعلق بمدى مشروعية احتفاظ البنوك بجزيء بسيط من ودائع العملاء.
إلى جانب السياسيين، هناك أيضاً أساتذة الاقتصاد ممن يدافعون عن مصالح أرباب المال، فنحن نجد، مثلاً، أستاد الاقتصاد الأميركي 'والتر سباهر'، الذي حاول تبرير احتفاظ البنوك بجزيء من الودائع عن طريق الاستناد إلى حجة متهافتة، فهو يرى أن وظيفة البنك شبيهة بوظيفة المهندس المسؤول عن بناء جسر، فالمهندس لا يبني جسراً يستطيع أن يحمل كل سكان المدينة، إنما يضع في اعتباره فقط أقصى عدد من المارة الذين من المحتمل أن يعبروا الجسر في نفس اللحظة! بالمثل، فإن البنك لا يحتفظ بكل أموال العملاء لديه، إنما يضع في اعتباره فقط أقصى عدد من العملاء الذين من المحتمل أن يسحبوا أموالهم من البنك في اللحظة نفسها! البروفيسور'موري روثبارت' تصدى لهذه الحجة الواهية، حيث أكد أن هناك فرقاً كبيراً بين البنك ومهندس الجسر، ذلك أن المارة لا يملكون سنداً قانونياً لعبور الجسر في أي وقت شاؤوا، بينما المودعون لأموالهم في البنوك يملكون سنداً قانونياً لاسترجاع أموالهم متى أرادوا.
عندما يزداد حجم القروض التي تقدمها البنوك لعملائها، تزداد كمية الأموال الجديدة التي يتم تداولها بين الناس، وبعد مرور فترة من الزمن، تبدأ أسعار السلع تدريجيا في الارتفاع نظراً لتضاؤل القوة الشرائية للعملة المحلية، إذ ينبغي ألا ننسى أن المال مجرد سلعة تخضع لقانون العرض والطلب كبقية السلع، فعندما تزداد كمية الأموال المتداولة، تقل القوة الشرائية لهذه الأموال! لكن لاحظ أن هذه السياسة التضخمية تكافئ شريحة من المواطنين على حساب شريحة أخرى، ذلك أن المستفيد الأكبر من التضخم هم أولئك الذين يحصلون على الأموال الجديدة قبل أن تبدأ أسعار السلع في الارتفاع، وهؤلاء هم البنوك والعملاء المقترضون، أما بقية المواطنين ممن يعتمدون على التوفير من دخلهم الشهري الثابت فيشكلون الخاسر الأكبر، لأن الأموال التي في أيديهم لم تعد تحتفظ بقوتها الشرائية قبل بداية التضخم! من هنا نستنتج أن النظام المصرفي الحالي يكافئ المقترضين ويعاقب غيرهم من المواطنين الذين لا تعتمد حياتهم على الاقتراض من البنوك.

خلق المال من لا شيء

استصدار أعداد إضافية من ايصالات الإيداع يشير إلى قدرة صائغي الذهب على «خلق المال من لا شيء»، وخلق المال يتجلى بوضوح في وقتنا الحاضر من خلال قدرة البنوك على منح قروض تتجاوز في حجمها كل أموال الإيداع الموجودة في حسابات هذه البنوك!


في المقال السابق، تناولنا ظروف نشأة فكرة «المال» كسلعة تسمح لمن يقتنيها الحصول على أي سلعة أخرى، و تحدثنا عن بروز «الذهب» بوصفه الوسيلة المعتمدة من قبل أغلب شعوب الأرض للقيام بكل أنواع التبادل التجاري، ثم انتهينا إلى الحديث عن دور صائغي الذهب في وضع الحجر الأساس للنظام المصرفي بشكله الحالي، ونريد من خلال هذا المقال أن نتحدث بشيء من التفصيل حول النقطة التي انتهينا عندها، لكن سأحاول في البداية تذكير القارئ بأهم النقاط التي وردت في مقالنا السابق حول عملية الأيداع:
1 - يودع الأفراد أموالهم من الذهب عند صائغ الذهب، ثم يستلمون «إيصال إيداع» بقيمة الذهب الذي تم إيداعه، ويحق لكل فرد استرجاع ممتلكاته في أي وقت يشاء، بينما يتلقى صائغ الذهب أجرة بسيطة نظير توفير هذه الخدمة.
2 - مع مرور الوقت، بدأ الناس في استخدام إيصالات الإيداع مباشرة في تعاملاتهم التجارية، فبدلا من الذهاب إلى صائغ الذهب لاستعادة أموالهم قبل كل عملية شراء، كان من الأسهل استخدام إيصال الإيداع مباشرة لتلبية حاجاتهم اليومية.
3 - بعد أن اعتاد الناس على استخدام ايصال الإيداع في تعاملاتهم التجارية، لاحظ صائغ الذهب أن أغلب الناس لا يأتي إلى المستودع لاسترجاع الذهب إلا بعد مرور مدة طويلة، مما يعني أن الفرصة متاحة أمام الصائغ لاستثمار أموال الناس من الذهب لمصلحته الخاصة!
لكن كيف يستثمر صائغ الذهب ودائع الناس لمصلحته الخاصة؟ بإمكانه أن يقوم بإقراض الذهب مباشرة، وبعد مرور مدة من الوقت، يستعيد الذهب مع قيمة الفوائد، ولكن هناك طريقة أكثر ذكاء ولا تحتاج إلى انتقال الذهب خارج المستودع، وهي أن يقوم الصائغ باستصدار أعداد إضافية من إيصالات الإيداع وتقديمها على شكل قروض، وهذا بالضبط ما فعله صائغو الذهب، ولم تكن هذه الطريقة لتنجح لولا استخدام الناس إيصالات الإيداع بشكل مباشر في تعاملاتهم التجارية! لكن ما هي الأمور التي تترتب على قيام صائغ الذهب باستصدار أعداد إضافية من إيصالات الإيداع؟
أولاً، لم يعد الصائغ مقتصراً على تقديم خدمة الإيداع، بل تجاوز ذلك إلى توفير خدمة الإقراض، ومن جرّاء هذا التمازج غير المشروع بين الإيداع والإقراض نشأت فكرة «البنك»، لكن من المهم هنا الانتباه إلى الحقيقة التالية، وهي أن الإيداع والإقراض عمليتان مختلفتان تماماً، لكل منهما تاريخ منفصل عن الآخر، ولكن صائغي الذهب كانوا أول من ساهم في الخلط غير المشروع بين هاتين العمليتين، لذا فإننا لا نبالغ لو قلنا إن فكرة «البنك» كانت ثمرة عملية احتيال، ذلك أن الأمر الجوهري هنا هو أن الصائغ لا يقدم قروضا من ماله الخاص!
ثانياً، استصدار أعداد إضافية من ايصالات الإيداع يشير إلى قدرة صائغي الذهب على «خلق المال من لا شيء»، وخلق المال يتجلى بوضوح في وقتنا الحاضر من خلال قدرة البنوك على منح قروض تتجاوز في حجمها كل أموال الإيداع الموجودة في حسابات هذه البنوك! لكن الأمر الخطير هنا هو أن مَن يملك التحكم في تحديد كمية المال في أي مجتمع، فإنه سيملك أيضا القدرة على التحكم في توجيه القرار السياسي.
ثالثاً، عندما يكون عدد الإيصالات أكبر من حجم المال الحقيقي من الذهب في المستودع، فإن القوة الشرائية لكل إيصال تتناقص بالقدر الذي يتزايد فيه جشع الصائغ في استصدار إيصالات جديدة واستثمارها على شكل قروض! هذا أيضاً ما يحدث عندما تتمادى البنوك في رفع نسبة حجم القروض الممنوحة، وكلما زاد معدل القروض زادت نسبة التضخم، والتضخم يشجع على الاستهلاك والتبذير والاقتراض، كما أنه يساهم في فقدان مدخرات الناس لقيمتها الحقيقية، أي أن التضخم يشجع على التبذير و يقضي على التوفير، ومن هنا فإن النظام المصرفي بشكله الحالي يساهم في انتقال غير مشروع للثروة من طبقة اجتماعية إلى أخرى!

قصة المال

ما هو «المال»؟ قد يبدو السؤال سهلاً للغاية، إذ يكفي أن أشير إلى ما في محفظتي من دنانير كي أجيب عن هذا السؤال، لكن ماذا عن رصيدي البنكي الذي أشاهده الآن أمامي على شاشة الكمبيوتر، هل أعتبر هذا الرقم الإلكتروني مالاً أيضا؟ ماذا عن بطاقة الائتمان؟ ماذا عن الشيكات المصرفية؟ ماذا عن الأسهم في البورصة؟ بمعنى آخر، ما هو المعيار الذي نحدد من خلاله قائمة الأشياء التي من الممكن إدراجها ضمن تعريف «المال»؟ أي محاولة جادة لفهم النظام المصرفي لابد أن تبدأ من خلال التعرف على ظروف اكتشاف إحدى أهم الأفكار في تاريخ البشرية، وهي فكرة «المال».
كان نظام المقايضة هو السائد قبل أن يكتشف الإنسان فكرة «المال»، أي أن عملية الشراء أو البيع كانت تتم عن طريق استبدال سلعة بسلعة أخرى، وللقارئ أن يتخيل مدى قصور هذا النظام البدائي في تلبية رغبات الناس، ذلك أنه نظام يشترط أن تكون رغبات الناس منسجمة مع نوعية الإنتاج. لتوضيح هذه النقطة، دعنا ننظر إلى المثال التالي: لنفترض وجود فلاّح يستمد مصدر رزقه من إنتاج القمح، ولنفترض أن هذا الفلّاح يرغب في الحصول على السمك، في هذه الحالة كان لابد له من أن يبحث عن صياد سمك لاستبدال القمح بالسمك، لكن ماذا لو كان صياد السمك لا يرغب في الحصول على القمح، بل يريد بدلاً من ذلك جرّة من العسل؟ في هذه الحالة، كان لابد للفلاح من أن يبحث عن شخص ينتج العسل كي يستبدل القمح بالعسل أولا، ثم يرجع من جديد إلى صياد السمك كي يستبدل العسل بالسمك! لكن لاحظ أن الفلّاح لم يقم باقتناء العسل إلا كي يحصل بواسطته على شيء آخر، وهنا تحديدا تكمن البذرة الأولى لمفهوم «المال»، فالمال هو عبارة عن سلعة تسمح لمن يقتنيها بالحصول على أي سلعة أخرى! من هنا نستنتج أن فكرة «المال» كانت وليدة قصور واضح في نظام المقايضة.
مع مرور الزمن، اكتسبت بعض السلع قيمة خاصة بالقياس إلى بقية السلع، ولهذا السبب تم اختيارها لتقوم بوظيفة المال، أي بوصفها سلعة تعارف الناس على استخدامها كوسيلة للتبادل التجاري، ففي إفريقيا، مثلاً، كان الحديد هو السلعة التي تتم بواسطتها كل التبادلات التجارية، وفي قارة أميركا كانت قبائل الهنود الحمر تستخدم بعض أنواع الجلود الفاخرة، وفي بعض أقاليم آسيا كان النحاس هو السلعة التي تقوم بوظيفة المال، لكن سرعان ما اكتسب الذهب قيمة خاصة بوصفه الوسيلة المعتمدة من قبل أغلب شعوب الأرض للقيام بكل أنواع التبادل التجاري، وهناك أسباب منطقية لاختيار الذهب، منها أن الذهب مرغوب لذاته، ونادر، وقابل للنقل بسهولة، وقابل للتجزئة أيضا.
مع بدايات القرن السادس عشر، اعتاد الناس في أوروبا على حفظ أموالهم من الذهب في مستودعات يقوم بإدارتها مجموعة من صائغي الذهب، وأما عملية الإيداع فكانت تتم على النحو التالي: يأتي الشخص بأمواله من الذهب ليودعها عند صائغ الذهب، ثم يقدم له هذا الأخير ورقة على شكل «إيصال إيداع» بقيمة الذهب الذي تم إيداعه، وللشخص الحق في استرجاع الذهب في أي وقت يشاء، وأما صائغ الذهب فيتلقى أجرة بسيطة نظير محافظته على أموال الناس.
مع مرور الوقت، بدأ الناس في استخدام إيصالات الإيداع مباشرة في تعاملاتهم التجارية، فبدلا من الذهاب إلى صائغي الذهب لاستعادة أموالهم قبل كل عملية شراء، كان من الأسهل استخدام إيصال الإيداع مباشرة لقضاء حاجاتهم اليومية، ومن هنا تحديداً ولدت فكرة استخدام «الورقة النقدية»، فهي ليست سوى إيصال إيداع يسمح لحامله أن يسترجع أمواله من الذهب عند صائغي الذهب.
بعد أن اعتاد الناس على استخدام ايصال الإيداع في تعاملاتهم التجارية، لاحظ صائغو الذهب أن أغلب الناس لا يأتون إلى المستودع لاسترجاع الذهب إلا بعد مرور مدة طويلة، لذا فقد بادر صائغو الذهب في استصدار أعداد إضافية من إيصالات الإيداع وتقديمها على شكل قروض، وهذه بلا شك عملية احتيال صريحة، فهي تعني أن عدد إيصالات الإيداع في أيدي الناس أكبر من حجم أموالهم من الذهب في مستودعات صائغي الذهب! لكن أليست هذه هي وظيفة البنوك في ظل النظام المصرفي الحالي؟ أليس صحيحا أن حجم القروض التي تقدمها كل البنوك أكبر بكثير من حجم الأموال الحقيقية التي يقوم الناس بإيداعها في هذه البنوك؟ ما الفرق بين صائغ ذهب يقوم باستصدار عدد من إيصالات الإيداع يفوق بكثير ما في عهدته من ذهب، وبين بنك يقوم بتقديم قروض تفوق بكثير ما في عهدته من أموال الناس؟ القصة طويلة، لكننا سنكمل في المقال القادم!

مادوف والبنوك


منذ أن انكشف النقاب عن فضيحة المحتال الكبير «مادوف» في شهر ديسمبر الماضي، وهي فضيحة انتهت به إلى السجن لمدة 150 عاما، كما تسببت أيضا في خسارة بعض الضحايا لأرواحهم فضلا عن أموالهم، أقول منذ تلك الفضيحة وأنا أقلّب في رأسي سؤالا لا يمكن وصفه بأنه سؤال بريء: مالفرق بين ما قام به «مادوف» وما تقوم به البنوك؟ دعنا نستعرض أولاً أوجه الشبه بين الحالتين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى أوجه الاختلاف.
أولاً، هناك عامل الثقة، فمن المعروف أن «مادوف» استطاع أن يبني سمعة جيدة طوال عقود من الزمن، وأتاحت له هذه السمعة أن ينال ثقة بعض المستثمرين الذين لم يترددوا في إيداع أموالهم لديه. بالمثل، لايستطيع أي بنك أن يعمل من دون ثقة العملاء، وتاريخ النظام المصرفي يشير إلى أن فكرة نشوء البنوك لم تكن لتنجح لولا ثقة الناس بصائغي الذهب أو goldsmiths (وهي ثقة لم تكن في محلها كما سنرى في مقالات لاحقة!). ثانيا، هناك تشابه من حيث طريقة التصرف بأموال الإيداع، فمثلما كان «مادوف» يستخدم أموال المستثمرين الجدد لتسديد عوائد المستثمرين القدامى ومستحقاتهم، تستخدم البنوك أيضا ودائع العملاء لتوفير السيولة لأي عميل آخر يرغب في الاقتراض! النقطة الثالثة هي نتيجة منطقية للنقطة السابقة، وهي أن «مادوف» سيكون معرّضا للإفلاس الفوري في حال طالب كل المستثمرين باسترجاع أموالهم في نفس اللحظة، وهذا ما يحدث عادة في زمن الأزمات الاقتصادية، حيث يخشى الناس على أموالهم من الضياع فيسارعون إلى المطالبة بودائعهم، وهي الحالة التي يسميها أهل الاقتصاد بـ bank run. بالمثل، البنوك تعمل بنطام Fractional Reserve Banking، أي أن حجم المال الحقيقي في عهدة البنوك أقل بكثير من حجم القروض الممنوحة، مما يعني أن شبح الإفلاس ملازم لأي بنك مالي في العالم!
ماذا عن أوجه الاختلاف بين «مادوف» والبنوك؟ الاختلاف الأول هو أن القانون لا يحمي «مادوف»، بينما تحظى البنوك بمباركة كل التشريعات العالمية! الاختلاف الآخر هو أن إفلاس «مادوف» يؤدي به إلى السجن مدى الحياة، بينما إفلاس البنوك يستدعي تدّخل الدولة والبنك المركزي تحت ذريعة «ضمان الودائع»، مع أن ضمان الودائع هو مسؤولية البنوك في المقام الأول، وهي مسؤولية لا يمكن لأي بنك أن يلتزم بها في ظل النظام المصرفي الحالي!
الاقتصاديون المنتمون لما يعرف باسم «المدرسة النمساوية» كانوا أوّل من حذّر من خطورة النظام المصرفي الذي يستبيح ودائع العملاء، ويخلق المال من لاشيء، ويزيد التضخم وزيادة الأسعار، ويسمح للبنك المركزي في لعب دور «المايسترو» عن طريق التحكم في سعر الفائدة والسماح للبنوك بالتضخم بشكل متناغم مع بعضها البعض! من المضحك أن يتفاخر بعض المواطنين البسطاء بحقيقة أن حكومة دولة الكويت لا تفرض الضرائب، ولكن ما فات على هؤلاء المواطنين هو أن التضخم ضريبة غير مباشرة، فعندما تمارس البنوك هواية التوسع في حجم القروض تحت إشراف البنك المركزي، يزداد المعروض من حجم الأموال المتداولة، وبالتالي تقل القوة الشرائية للدينار (أي تزداد الأسعار)، لذا فإن المواطن البسيط ذي الدخل الثابت يشعر أكثر من غيره بأن راتبه الشهري سريع التبخر! هذا بالضبط ما حدث في السنوات الماضية، خصوصا عندما قام البنك المركزي بربط الدينار بالدولار لمدة أربع سنوات كاملة، ثم عاد البنك المركزي من جديد ليصحح الخطأ على استحياء وبطريقة جزئية، فالكل حريص على عدم إثارة غضب العم «سام»!
قصة النظام المصرفي طويلة، لكن من واجبنا جميعا أن نسمعها، فمن خلالها سنتعرف على حقائق كثيرة، وسأحاول قدر استطاعتي أن أحكي هذه القصة في المقالات القادمة مستعينا بما لدي من مراجع.
عندما أقرأ، أكافح جهلي، وعندما أكتب، أكافح جهل الآخرين!

الشقاء في السرّاء والضرّاء

«إما أن ننجو جميعا، أو نغرق جميعا»، هكذا يردد الرئيس الأميركي الجديد «أوباما» في محاولة من جانبه لإقناع الرأي العام الأميركي في ضرورة مواصلة إنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة (وما أكثرها!)، وفي بريطانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي يردد الزعماء الحجة نفسها! الصورة في الكويت لا تبدو مختلفة، بل إن الخطوات التي اتخذتها الدول الكبرى أصبحت تشكل إحدى الحجج الرئيسية التي يلجأ إليها مؤيدو ما يسمى بمشروع قانون «الاستقرار المالي» للتأكيد على أهمية هذا القانون، والحق أني لم أعثر حتى هذه اللحظة على خبير اقتصادي كويتي واحد يقف ضد هذا المشروع المشبوه، مما يعني أننا أمام احتمالين: إما أن المشروع مهم فعلا، وإما أن الأقدار شاءت أن ينتمي كل خبرائنا الاقتصاديين إلى اليمين!
إحدى أهم الحجج التي يلجأ إليها المؤيدون لتدخل الحكومات في إنقاذ الاقتصاد، سواء على الصعيدين المحلي أو العالمي، تشير إلى أن أي تأخير في إنقاذ الاقتصاد سيدفع ثمنه الصغير قبل الكبير، ولعل المثال الأوضح في هذه النقطة تحديدا هو ارتفاع نسبة البطالة. هذه الحجة، بطبيعة الحال، تهدف إلى إقناع المواطن البسيط في أن استخدام الدولة للأموال العامة يصب في مصلحته الخاصة، لكن ما مدى قوة هذه الحجة؟ كي تبدو الحجة منطقية، لا بد من إثبات أن انتعاش الاقتصاد كفيل بانتشال المواطن البسيط من الشقاء الذي يعيش فيه، وهو أمر ينافي الواقع، وسأحاول من خلال هذا المقال أن أدلل على الحقيقة التالية: في ظل النظام الاقتصادي العالمي الحالي، يعيش المواطن البسيط في شقاء دائم، سواء كانت الدورة الاقتصادية تشير إلى الركود أو الانتعاش!
لنأخذ على سبيل المثال الحالة الصينية، فمن المعروف أن الصين دأبت على اتخاذ سياسة تقشفية حادة، فمعدل الانتاج أكبر بكثير من معدل الاستهلاك، وكي أوضح للقارئ مدى الأثر المأساوي لهذه السياسة على حياة الإنسان الصيني البسيط، ينبغي أن أشرح مسار رحلة البضائع الصينية إلى الأسواق العالمية، خصوصا إلى الأسواق الأميركية، فالعامل الصيني يستهلك أكثر من نصف يومه في إنتاج البضائع الصينية، ويتلقى أجرا زهيدا يبلغ 1200 رينمينبي في الشهر (أي ما يقارب 50 دينارا كويتياً)، وبمجرد وصول البضائع إلى الأسواق الأميركية، مثلا، يتم بيعها بالدولار الأميركي ثم تنتقل الدولارات إلى جيب صاحب المصنع في الصين، الذي يتوجه بدوره إلى المصارف الصينية لاستبدال الدولارات بالعملة الصينية، ولكن القانون الصيني يجبر المصارف أيضا على استبدال الدولارات بالعملة الصينية عن طريق البنك المركزي الصيني أو ما يسمى بـ «بنك الشعب الصيني»، ثم تقوم الحكومة الصينية باستبدال هذه الدولارات بسندات الخزانة الأميركية، أي أن ملايين الدولارات تنتقل بشكل يومي من أميركا إلى الصين ثم إلى أميركا من جديد لتستقر في «الصندوق السيادي الصيني» الموجود في عهدة الخزانة الأميركية! هذه الأموال الضخمة تشكّل مدخرات الشعب الصيني، لكن الخزانة الأميركية تستعير هذه الأموال لضخ السيولة في مؤسساتها المالية ورفع معدل القروض المتاحة للمواطن الأميركي، والمفارقة هنا هي أن المواطن الأميركي الميسور يستدين من المواطن الصيني المقهور، والمحصلة النهائية هي أن الحكومة الصينية تجبر مواطنيها على المزيد من التقشف، بينما تستدرج الحكومة الأميركية مواطنيها إلى المزيد من البذخ والاستهلاك!
في ظل الأزمة المالية الحالية، تم صرف جزء كبير من مدخرات الشعب الصيني في أميركا لإنقاذ المؤسسات المالية الأميركية الكبرى، أي أن مصير المواطن الصيني هو الشقاء في السراء والضراء، سواء كان الاقتصاد العالمي منتعشا أو منكمشا! ربما يتساءل القارئ عن مصلحة الصين في اتباع هذه السياسة الظالمة بحق شعبها، وهو سؤال مشروع، لكن الإجابة عنه تحتاج إلى التطرق إلى أمور أخرى مثل ارتباط العملة الصينية بالدولار، والدور التاريخي للعملة الأميركية منذ نظام «بريتون وودز» إلى يومنا هذا، وهذه أمور سنتطرق إليها في مقال لاحق، لكن ما يهمني هنا هو التأكيد على النقطة التالية، وهي أن مصير المواطن الصيني لا يختلف كثيرا عن مصير المواطن الخليجي، فالدول الخليجية تحتفظ أيضا بصناديق سيادية ضخمة في الولايات المتحدة الأميركية، فنحن نبيع النفط بالدولارات الأميركية ثم نعيد قسما كبيرا منها إلى موطنها الأصلي (أميركا) على شكل «صناديق سيادية»، وأما وظيفة هذه الصناديق فتختلف باختلاف الحالة الصحية للاقتصاد العالمي، فعندما يكون الوقت وقت رخاء وازدهار، تساهم أموالنا في «تحريك عجلة الاقتصاد الأميركي»، أي إلى المزيد من التضخم والمضاربات والتساهل في منح القروض للمواطن الأميركي، وعندما يكون الوقت وقت انكماش وتدهور، تساهم الأموال الخليجية في إنقاذ المؤسسات الأميركية المعرّضة للإفلاس مثل «سيتي غروب» و «ميريل لينش»! المحصلة النهائية هي أن المواطن الخليجي البسيط يعاني البؤس في كلتا الحالتين، فهو من جهة يدفع قيمة التضخم المستورد من الأسواق الأميركية في أيام الرخاء، ويدفع فاتورة إنقاذ البنوك المحلية والأجنبية في أيام الكساد!
أمام هذه الصورة المقززة لهذا العالم المتوحش الذي نعيش فيه، لا يملك المرء سوى أن «يغلق الكتاب باصقا»، كما يقول «دوستويفسكي» في إحدى رواياته الخالدة!

منشار البنوك


سواء تم إسقاط مديونيات المواطنين أو لم يتم، فإن المحصلة النهائية هي أن البنوك ستجني الأموال مع فوائدها، سواء تم ذلك على حساب أموال الدولة أو عن طريق جيوب المواطنين! لكن عندما نجبر البنوك على تحمّل مسؤولياتها تجاه أزمة مديونيات الأفراد، فإن المحصلة هي التخفيف من هذه الهجمة الشرسة على المال العام.
مازال البعض يحرص على الربط بين إسقاط مديونيات المواطنين وما يسمى بمشروع «الإنقاذ»، ولكني لم أسمع أن أحداً قد قام بتقديم اقتراح بسيط وعادل أيضا، وهو أن تقوم البنوك ذاتها بإسقاط قروض المواطنين من الأفراد (وليس الشركات)! لماذا ينبغي أن نحمّل المال العام كل أخطائنا؟ ألم يتم استخدام المال العام لإنقاذ البنوك، فلماذا لا تتحمل البنوك على الأقل جزءاً من مسؤوليتها تجاه المجتمع، خصوصاً أنها مسؤولة، جزئيا على الأقل، عن التساهل بسياسة الإقراض وعن الجشع في رفع قيمة الفائدة لسنوات طويلة؟
لاحظ، عزيزي القارئ، أنه في ظل الحلول المطروحة حاليا، فإن البنوك مستفيدة من الجانبين، فسواء تم إسقاط مديونيات المواطنين أو لم يتم، فإن المحصلة النهائية هي أن البنوك ستجني الأموال مع فوائدها، سواء تم ذلك على حساب أموال الدولة أو عن طريق جيوب المواطنين! لكن عندما نجبر البنوك على تحمّل مسؤولياتها تجاه أزمة مديونيات الأفراد، فإن المحصلة هي التخفيف من هذه الهجمة الشرسة على المال العام من جانب، والتقليل من ثقل الديون على بعض المواطنين من جانب آخر. قد لا يلقى هذا الاقتراح تأييداً، لذا دعنا نناقش بعض الحجج التي قد تقف في طريقه:
الحجة الأولى هي أن كل مواطن مسؤول قانونيا وأخلاقيا عن سداد المال الذي قام باقتراضه من أحد البنوك، وهذه بلا شك حجة منطقية لو جاءت في سياقها العام، ولكن في ظل النظام المصرفي الحالي، فإن البنوك أيضا مسؤولة عن كل الودائع في حساباتها، ولو قرر جميع المودعين، مثلا، سحب أموالهم من أحد البنوك في نفس اللحظة، لأعلن البنك إفلاسه في ظرف ساعات معدودة، لأنه ببساطه لا يستطيع إعادة جميع الودائع إلى أصحابها، مما يعني أن البنك يستثمر في ودائع المواطنين لمصلحته الخاصة، ومن هنا فإن إخفاق البنك في تحمّل مسؤولياته القانونية والأخلاقية تجاه ودائع المواطنين لا يقل أهمية عن تعثّر بعض المواطنين في تسديد قروضهم! البنوك لا تعتمد فقط على رأسمالها الحقيقي في تقديم القروض، فكل مبلغ من المال يدخل إلى البنوك على شكل إيداع يخرج من جهة أخرى ليتضاعف على شكل قروض! أي أن النظام المصرفي بشكله الحالي هو المسؤول الأول عن التضخم وزيادة الأسعار التي يعانيها المواطن البسيط من وقت لآخر!
الحجة الثانية هي أن الاقتراح لا يعدل بين المواطنين كافة، فهناك شريحة كبيرة لم تقترض، ولكن لاحظ أن الاقتراح يدعو البنوك نفسها إلى إسقاط قروض المواطنين، أي أن المال العام لا شأن له في هذه العملية، وبالتالي فإن شبهة عدم العدل بين المواطنين تصبح غير قائمة! ثم لننظر كيف عالج البنك المركزي الأزمة المالية العنيفة التي تعرّض لها بنك الخليج، فالحل جاء عن طريق ضمان جميع ودائع البنوك، أي أن الحكومة لم تفرّق بين بنك مفلس وبنك ممتلئ، ولكن الفرق الجوهري هنا هو أن العدل بين جميع البنوك جاء على حساب المال العام!
الحجة الثالثة هي أن النظام المصرفي يعاني حاليا أزمة سيولة، وبالتالي فإن دعوة البنوك إلى إسقاط قروض المواطنين ستضاعف حتما من حدة هذه الأزمة، وهي حجة تبدو معقولة لو لم يتم الإعلان عن مشروع «الإنقاذ»، فحجم قروض المواطنين لن تساوي شيئا في مقابل حجم الأموال التي ستستفيد منها البنوك في حال تم إقرار هذا المشروع المشبوه!
لا أدري لماذا هذا الإصرار على تصوير البنوك وكأنها حمل وديع، فحتى راتب المواطن البسيط ومصدر رزقه الوحيد لم يسلم من العبث قبل أن يصل إلى حسابه الشخصي!

حول مشروع الإنقاذ

في الأسبوع الماضي، تطرقنا إلى المؤتمر الصحافي الذي عقده محافظ البنك المركزي حول ما يسمى بمشروع قانون تعزيز الاستقرار المالي في الدولة، وأشرنا إلى هوية المستفيدين الحقيقيين من هذا المشروع، وسنتوقف من خلال هذا المقال عند بعض المغالطات والتناقضات التي تخللت حديث محافظ البنك المركزي.
شدد المحافظ في حديثه على حقيقة أن المشروع يهدف إلى مساعدة الشركات الاستثمارية «المليئة»، وأما الشركات التي لا أمل في إنقاذها فلن تستفيد من مشروع «الإنقاذ». هذا يعني أن بإمكان البنك المركزي تحديد الخط الفاصل بين الشركات المليئة وغير المليئة، وهذا ما يؤكده رد المحافظ على سؤال يتعلق بشكوى بعض الشركات التي ترى في نفسها الملاءة على عكس ما يراه البنك المركزي، حيث أجاب المحافظ قائلا: «إذا كانت بعض الشركات ترى في نفسها الملاءة والقوة فلماذا يطلب أصحابها المساعدة؟ أليس من الأولى أن يدعم هؤلاء الملاك وبقية المساهمين شركتهم عبر زيادة رأس المال إذا كانت فعلا جيدة وغير متعثرة؟».
هذا تساؤل منطقي، لكنه مع ذلك يتناقض مع حديث المحافظ حول الهدف مما يسمى بمشروع قانون تعزيز الاستقرار المالي في الدولة، فهو من جهة يقول إن المشروع أتى ليساعد فقط الشركات المليئة، ثم يشير من جهة أخرى أن الأولى بالشركات المليئة أن تساعد نفسها وألا تطلب العون من البنك المركزي! كي نخرج من هذا التناقض، دعنا نفرض أن المحافظ يقصد أن المشروع يستهدف شركات مليئة لكنها متعثرة، ولكن كلا المفهومين، «الملاءة» و «التعثر»، مرتبطان بجودة الأصول التي تملكها الشركة وما إذا كانت هذه الأصول قادرة على سداد الديون المتراكمة، مما يعني استحالة وجود شركة مليئة ومتعثرة في الوقت نفسه، فإما أن تمتلك الشركة أصولا جيدة تغطي ديونها وبالتالي لا تحتاج إلى الاستفادة من المشروع، وإما أنها لا تملك أصولا تغطي ديونها وبالتالي لا تستحق أن يشملها مشروع «الانقاذ»!
أشار أحد الصحافيين إلى أن تدخّل المركزي يذكّر بعمليات مشابهة حدثت في بلدان عربية أخرى إبّان فترة التأميم، وأجاب المحافظ على هذه النقطة بالقول: «نحن أمام وضع استثنائي، من حقنا أن نضمن الودائع ونمارس على البنوك صلاحيات تضمن سير العمل بما نراه مناسبا لضمان الودائع وعدم الدخول في آتون مفاجآت تهدد النظام المصرفي». إجابة المحافظ توحي بأن تدّخل البنك المركزي في إنقاذ البنوك المحلية شبيه فعلاً بعملية تأميم هذه البنوك، ولكن هذا ينافي الواقع، فقانون ضمان الودائع ترك للبنوك هامشاً كبيراً من الحرية في إدارة الأموال التي هي في الأصل حق للشعب وليس لفئة محددة منه. أما بخصوص الشركات المتعثرة، فإن المحافظ لم يبادر حتى في منع توزيع الأرباح على المساهمين في الشركات المستفيدة من المشروع، وإنما اكتفى بالقول «إن الأعراف العالمية تقول إن الشركات التي تواجه تعثرا ماليا يجب ألا توزع أرباحا وهي تعاني الديون لمصلحة المؤسسات المالية الأخرى»! أي أن المسألة في نظر المحافظ متروكة للعرف فقط، فالمشروع كما يقول المحافظ لم يمنع «أي شركة خاضعة لبرنامج التمويل خصوصاً الاستثمارية منها من توزيع أرباح على مساهميها»!
رفض محافظ المركزي الإجابة عن سؤال يتعلق بوضع شركتي «دار الاستثمار» و«بيت الاستثمار العالمي» (غلوبل) وكيفية استفادتهما من مشروع «الإنقاذ»، معلّلا ذلك بأهمية المحافظة على سرية المعلومات حول هذا الشأن! أمر غريب فعلاً أن يرفض المحافظ الإجابة عن هذا السؤال، ذلك أن من حقنا كشعب أن نعرف هوية كل مستفيد من المال العام، وعندما يزور أحدهم الحكومة لينام في سريرها، فمن حقنا كشعب أن نعرف هوية الزائر!
عندما كانت البنوك والشركات الاستثمارية تنعم بجني الأرباح الضخمة لسنوات طويلة، كانت الأصوات ترتفع مطالبة برفع يد الدولة عن شؤون الاقتصاد، ولكن عندما انقلب سحر المضاربات على المضاربين، ارتفعت الأصوات نفسها مطالبة بتدخل الدولة وفتح خزائن المال العام! لكن يبدو أن المشروع سيمر مثلما مرّ من قبل قانون ضمان الودائع، فعندما يجمع نواب الأمة بين التجارة والسياسة، فإن المشاريع من هذا النوع تصبح بمنزلة «ضرورة حتمية»! إن إنقاذ المستهترين والمغامرين يعني ببساطة تشجيعا سافرا على التمادي في الاستهتار والمغامرة، ولسوف تثبت الأيام صحة هذا الكلام!
من المؤسف حقا أن يربط البعض بين مشروع «الإنقاذ» وإسقاط قروض المواطنين، فبدلا من أن يكون المبدأ هو المحافظة الصارمة على المال العام، أصبح الأمر أشبه بدعوة إلى الهجوم الجماعي على أموال الأجيال القادمة! كان الأجدر أن تكون الدعوة إلى تأميم البنوك المتضررة، فهذه فرصة ذهبية إلى شراء مؤسسات مالية «برخص التراب»! من يدري؟ لعلنا نفلح أخيراً في جعل مؤسساتنا المالية أكثر ديمقراطية من خلال تغيير مجالس إداراتها، فبدلا من أن تكون محصورة بعوائل محدودة، تصبح إدارة هذه المؤسسات من نصيب المواطنين من كل الطبقات الاجتماعية!

محافظ المركزي والنصيحة الثمينة

في مؤتمره الصحافي حول ما يسمى بمشروع «الإنقاذ»، نصح محافظ البنك المركزي الحضور قائلا: «إياكم والنظر إلى نصف الحقيقة على أنها الحقيقة كاملة»! هذه بلا شك نصحية ثمينة، لذا سأحاول من خلال هذا المقال تطبيقها على محافظ البنك المركزي نفسه، فالمحافظ لم يتطرق في مؤتمره الصحافي سوى إلى نصف الحقيقة، وأما النصف الآخر فهو كالتالي:
في أواخر شهر مارس من العام الماضي، نشرت بعض الصحف المحلية خبرا مفاده أن محافظ البنك المركزي عقد اجتماعا مع رؤساء مجالس إدارات البنوك لبحث مشكلة تساهل البنوك المحلية في سياسة تقديم القروض لبعض العملاء من دون الالتفات إلى جودة الضمانات المقابلة لها، وأبدى المحافظ قلقه من النمو المفرط في محفظة التسهيلات الائتمانية لدى البنوك المحلية، حيث بلغ «انتفاخ» هذه المحافظ حوالي 16 مليار دينار كويتي خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط! سأتطرق الآن إلى أبرز النقاط التي جاءت في ذلك الاجتماع:
1- أشار المحافظ إلى أن «صورة البنوك أصبحت غير جيدة في المجتمع»!
2- أكد المحافظ أن التنامي السريع لمحفظة التسهيلات الائتمانية قد يؤدي إلى كارثة تهدد اقتصاد الدولة برمتها!
3- شدد المحافظ على حقيقة أن البنك المركزي سبق أن حذر البنوك المحلية من الأسلوب الخطير الذي تتبعه بعض البنوك في إدارة المحافظ الائتمانية، لكنه أعرب عن خيبة أمله في عدم تجاوب البنوك مع تحذيراته!
4- طلب مديرو البنوك من المحافظ تحديد نسبة النمو المقبولة لمحفظة التسهيلات الائتمانية لعام 2008، لكن المحافظ لم يحدد نسبة معينة، مكتفيا بالقول إن النسبة يجب أن تكون منخفضة بكثير عن المعدل الراهن (أي في مارس من عام 2008).
أرجو من القارئ أن يضع الأحداث في تسلسلها المنطقي، ففي البداية كان هناك استهتار من بعض البنوك في إدارة المحافظ الائتمانية عن طريق تمويل عمليات مضاربة بأرقام فلكية، ثم يأتي تحذير البنك المركزي على استحياء لردع هذه الممارسات اللامسؤولة من دون أي تجاوب حقيقي من إدارات البنوك المحلية، لكن نظرا لاستمرار تدفق الأموال لم تكترث البنوك بتحذيرات محافظ المركزي، كما أن المحافظ نفسه لم يجد ضرورة لاتخاذ موقف أكثر صرامة ، ثم تأتي هزة أرضية عنيفة تعصف بأحد البنوك المحلية للأسباب ذاتها التي حذّر منها محافظ المركزي في اجتماع شهر مارس الماضي! رغم كل هذه الحقائق، ورغم وضوح القضية ومعرفة هوية الجاني، يصادق مجلس الأمة على قانون ضمان الودائع سييء الذكر في يوم واحد! لكن هل تعاظمت سلطة البنك المركزي على البنوك إزاء ضمان الودائع؟ لننظر إلى ما يقوله المحافظ حول هذا الشأن:
«البنك المركزي ضمن ودائع البنوك ويشجعها على عملية التمويل ومنح الائتمان على المشاريع التنموية والإنشائية، لهذا تعززت صلاحياته أمام البنوك ويقوم بدور رقابي عليها لكن للبنوك الحرية في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة وأن تتحمل نتيجة تلك القرارات سواء بربح أو خسارة».
لا أدري أين الجديد في كلام المحافظ، فالدور الرقابي على البنوك يدخل ضمن صميم واجبات «المركزي» من دون الحاجة إلى ضمان الودائع، بل حتى الدور الرقابي لم يعد مجديا بعد اكتساح عقيدة «النيوليبرالية» لاقتصاد العالم في العقود الأخيرة، لكن الأمر الغريب فعلا هو أن يتم ضمان ودائع البنوك من المال العام ثم يترك المحافظ الحرية للبنوك في اتخاذ القرارات التي تراها مناسبة! عندما تعرضت «السويد» في أوائل التسعينيات إلى مشاكل اقتصادية شبيهة بالتي يعانيها العالم الآن، صرح رئيس الحكومة السويدية قائلا: «سلطة الحكومة على المؤسسات المالية التي يجب إنقاذها ستقاس من خلال كل كرونة (اسم العملة السويدية) ندفعها من المال العام»! إزاء هذه السياسة الصارمة، نجحت الحكومة السويدية آنذاك في إصلاح اقتصادها الوطني، وحافظت أيضا على حرمة المال العام عن طريق استرجاع كل «كرونة» تم صرفها على عملية إنقاذ المؤسسات المالية. لكن يبدو أن النموذج السويدي لا يعجب الحكومة لدينا، فهي تفضل بدلا منه النموذج الأميركي الذي يقوم على الاستهتار السافر بالأموال العامة!
هل انتهت القصة عند هذا الحد؟ إطلاقا، فاليوم يأتي محافظ البنك المركزي بمشروع «الإنقاذ»، ومن السهل معرفة هوية من يجب إنقاذهم من خلال النظر إلى تسلسل الأحداث أعلاه، لكن القائمين على هذا المشروع مازالوا يصرون على تسويق فكرة «إنقاذ اقتصاد الدولة»! في المقال القادم، سنتوقف عند تفاصيل المؤتمر الصحافي الذي عقده محافظ البنك المركزي، فنحن كما ذكرنا سابقا حريصون على اتباع نصيحة المحافظ الثمينة: «إياكم والنظر إلى نصف الحقيقة على أنها الحقيقة كاملة»!
ملاحظة هامشية:
قبل أيام، تم عقد مؤتمر حول دور القطاع الخاص في التنمية، وتم التأكيد من خلال المؤتمر على ضرورة تفعيل قانون الـB.O.T «بأقصى سرعة»! يبدو أن هناك من لا يكفيه الاستيلاء على أراضي الدولة، بل هو يرغب أيضا في الاستفادة من مشروع «الإنقاذ» للاستيلاء على أموال الشعب! بمعنى آخر أكثر تحديدا: قانون الـ B.O.T سيتكفل بتوفير الأرض التي سيقوم عليها المشروع، وقانون «الإنقاذ» سيتكفل بتمويل الشركة التي ترغب في إنشاء المشروع، وأما أرباح المشروع فستذهب إلى جيب صاحب المشروع! هل يتذكر القارئ وظيفة «الطفيليات الضارة» في منهج علم الأحياء؟!

آفة الاستقطاب في الموقف من حماس

أدرك أهمية تعاطف الإنسان مع شعبه، لكني أدرك أيضا أن الحقيقة أسمى من كل العواطف مجتمعة، ومن يسلك طريق الإيديولوجية لا يرى سوى ملائكة أو شياطين، ومن يسلك طريق القومية لا يرى سوى وطنيين أو خونة، لكن العقل هو الطريق الوحيد الذي من الممكن أن نصل من خلاله إلى حقيقة خالية من أي ثنائية مزيفة.
هل من المستحيل البحث عن الحقيقة بصرف النظر عن هوية من يمتلكها؟ لماذا تعاني صحافتنا المحلية حالة استقطاب شديد عندما يدور الحديث عن حركة «حماس»؟ لماذا ينبغي الاختيار بين «مع» أو «ضد» قبل محاولة الكشف عن حقيقة هذه الحركة؟ لماذا نجعل الإيديولوجية تتحكم بموقفنا من الحقيقة؟ طرحت على نفسي هذه الأسئلة بينما كنت أقرأ الرسائل التي وردتني من بعض القراء حول مقالاتي السابقة عن هذا الموضوع، ومن الممكن تقسيم معظم هذه الرسائل إلى نوعين: النوع الأول أعرب عن امتنانه لهذه «الغيرة على الإسلام»، والنوع الثاني عبّر عن امتعاضه من هذه «الردّة الفكرية»! نعم، الرسائل وصلت، لكنها وصلت إلى العنوان الخاطئ، فما علاقة «الغيرة على الإسلام» بما كتبت حول موضوع «حماس»، وأين «الردّة الفكرية» في محاولة كشف الحقائق وتعرية الأكاذيب؟
مقالي السابق حمل عنوان «لمصلحة من تشويه صورة حماس؟»، ولولا حرصي على سلامة عقول بعض القرّاء، لكتبت مقالاً ثانيا تحت عنوان «لمصلحة من تجميل صورة حماس؟»، وفي كلتا الحالتين لن أشعر بأدنى تناقض في موقفي من «حماس»، ذلك أن امتلاك الحقيقة لا يعبّر عن قيمة مطلقة، وإذا كنت أرى أن «حماس» على صواب في موقفها السياسي من الاحتلال، فإني أراها أيضا على خطأ في موقفها الفكري من التراث.
من يشاهد صورة أعضاء حركة «حماس» في قناة «الجزيرة» يخيّل إليه أنه أمام مجموعة من الملائكة، ومن يشاهد صورة أعضاء هذه الحركة في قناة «فوكس نيوز» يخيّل إليه أنه أمام مجموعة من الشياطين، لكن السؤال المهم هو التالي: ما مصدر هذا التناقض بين الصورتين؟ إنها الإيديولوجية، ومادمنا نبحث عن الحقيقة من خلال الإيديولوجية التي نتبناها، فلن نصل إليها أبداً. أثناء الحكم النازي في ألمانيا، ساهم «هيدجر» في إخضاع مفهوم «الحقيقة» للإيديولوجية النازية، فالحقيقة بالنسبة له هي ذلك «الوحي الذي يجعل الشعب واثقا من كل تصرفاته»، والنتيجة هي إحراق كل الكتب العلمية التي وضعها علماء يهود.
هناك أيضاً من يتهم أعضاء حركة «حماس» في الوقوف مع الغزو الصدّامي لشعبنا وأرضنا، لكن هل يعني ذلك استحالة أن تكون «حماس» على صواب في أي لحظة أخرى من تاريخها؟ لو قال الشيطان، مثلا، إن 1 + 1 = 2، فهل يعني ذلك أن هذه المعادلة خاطئة لمجرد أن الشيطان هو من قالها؟ لنفرض أن الاتهام صحيح وأن «حماس» وقفت فعلا مع الغزو البربري ضد أرضنا، لكن هل نستنتج من ذلك أننا في حِلّ من أي مسؤولية أخلاقية تجاه هذه الحركة ومقاومتها للاحتلال؟ هل يعني ذلك أننا ملزمون في الوقوف ضد هذه الحركة حتى لو كانت على صواب؟ إذا اتبعنا هذا المنطق، فسنكون عندها مجبرين على الاعتراف بأننا لا نستحق مواساة الشعب الإيراني لنا أثناء الاحتلال بالرغم من وقوفنا شعبا وحكومة مع النظام العراقي السابق في حربه مع إيران! أدرك أهمية تعاطف الإنسان مع شعبه، لكني أدرك أيضا أن الحقيقة أسمى من كل العواطف مجتمعة.
من يسلك طريق الإيديولوجية لا يرى سوى ملائكة أو شياطين، ومن يسلك طريق القومية لا يرى سوى وطنيين أو خونة، لكن العقل هو الطريق الوحيد الذي من الممكن أن نصل من خلاله إلى حقيقة خالية من أي ثنائية مزيفة.