الأربعاء، 29 يوليو 2009

الخوف من الموت 2 - 2

الحياة لا تنتهي عند الموت، هذا هو العزاء الذي قدمته الكنيسة للإنسان المسيحي، ولكنه عزاء بدأ يتحول شيئاً فشيئاً إلى إرهاب منظم! لم يعد الموت في حد ذاته يسبب قلقاً للذهن المسيحي، بل إن القلق الرئيسي ارتبط في تخيل سيناريو ما بعد الموت، ولم يعد الإيمان المسيحي بخلود النفس يمثل حلاً سحرياً للتصالح مع فكرة الموت، بل إن الحل السحري أضحى في تخيل شكل هذا الخلود من خلال ثنائية النعيم والجحيم! لعبت هذه الثنائية دوراً مؤثراً في تشكيل السلوك العام لحياة الناس في عصور الظلام الأوروبية، فالخوف من الجحيم زاد من التصاق الإنسان المسيحي بالكنيسة والامتثال لأوامرها، والرغبة في النعيم قللت من فكرة التشبث بحياة فانية! لم يعد حب الحياة خطيئة فحسب، بل إن المجيء إلى هذه الحياة هو الخطيئة الكبرى! هذا ما عبر عنه الشاعر الإسباني «كالديرون دي لا باركا»، في قصيدته الخالدة «الحياة حلم»، حيث يقول «أكبر خطيئة قام بها الإنسان هي أنه وُلد»!
عن هذا الهوس المسيحي بفكرة الموت خلال فترة القرون الوسطى، كتب المؤرخ الهولندي (هوزينجا) يقول «لم تشدد أي مرحلة تاريخية على فكرة الموت على نحو ما فعلت العصور الوسطى المنصرمة، فقد كانت هناك دعوة دائبة الى تذكر الموت تدوي على امتداد الحياة... وقد شدد الدين كذلك في العصور المبكرة على فكرة الموت الدائمة، غير أن البحوث الورعة لتلك العصور لم تصل إلا إلى أولئك الذين أداروا ظهورهم بالفعل للعالم، ومنذ القرن الثالث عشر جعلت المواعظ الشعبية لأنظمة الرهبان المتسولين من الدعوة الخالدة الى تذكر الموت جوقة كئيبة يتردد إنشادها على امتداد العالم» (انظر «الموت في الفكر الغربي»، ص99، سلسلة عالم المعرفة).
لكن هذه الصورة الكئيبة بدأت تتغير بحلول عصر النهضة الأوروبية، فمع منتصف القرن الخامس عشر تقريباً، وفي مدينة «فلورنسا» الإيطالية تحديداً، ظهرت إلى الوجود نزعة إنسانية أصبحت تعرف في ما بعد باسم Humanism، أي «الأنسنة» حسب تعريب الأستاذ فؤاد طرابلسي، أو «النشورية» حسب تعريب الدكتور إسماعيل مظهر (لمعرفة أشكال تعريب هذا المصطلح وتاريخ دخوله إلى اللغة العربية، انظر كتاب «الإنسان هو الحل»، للدكتور حازم خيري). تميزت هذه النزعة الإنسانية بالاعتماد على المصادر الأولية لطلب المعرفة، بدلا من الاتكال على الكنيسة كمصدر أساسي، وأدى ذلك إلى عملية تنقيب مضنية في الكنوز المعرفية للحضارتين الإغريقية والرومانية، وقد أسهمت هذه العملية في تحقيق آلاف النصوص القديمة على أسس علمية، وتم أيضا تحقيق «الكتاب المقدس» بطريقة خالية من العاطفة الدينية، الأمر الذي أثار حفيظة رجال الكنيسة! لعل أبرز ما ميّز هذه النزعة الإنسانية هو استبدال النموذج الكنسي عن الموت بالنموذج الإغريقي- الروماني عن الحياة، فبدلاً من التركيز على مصير الإنسان بعد الممات، أصبح التفكير منصباً على مصير الإنسان على هذه الأرض، وبدلاً من النزعة المازوخية (التلذذ بتعذيب الذات) في معرفة كيف ينبغي للمؤمن أن يموت، تولدت نزعة عقلية لمعرفة كيف ينبغي للإنسان أن يعيش! عصر النهضة الأوروبية هو بداية استبدال الخوف بالأمل، والجهل بالعلم، والموت بالحياة!
عودة فلاسفة ومفكري عصر النهضة إلى جذور الحضارة الإنسانية ساهمت في دعم حججهم المنطقية تجاه الموقف من الموت، فها هو «مونتاني» يكرر ما تعلمه من المدرسة الرواقية حين كتب يقول «لماذا يتعين أن نمتعض من الحقيقة القائلة انه خلال مئة سنة قادمة لن يكون لنا وجود إذا كانت فكرة أننا لم نكن على قيد الحياة منذ مئة عام لم تسبب لك اضطراباً؟» (انظر «الموت في الفكر الغربي»، الصفحات 107 و 108)، ثم يعلن «مونتاني» تمرده الواضح على تعاليم الكنيسة بقوله «أي إيمان ذلك الذي يغرسه فينا الجبن وخور القلب؟ إنه إيمان مبهج لا يؤمن بما يؤمن به إلا لافتقاره الى شجاعة عدم الإيمان» (المصدر نفسه، ص 105).

ليست هناك تعليقات: