ضمن الندوة التي أقامتها جريدة «الجريدة»، والتي حملت عنوان «مستقبل الكويت: أسئلة مشروعة، وأجوبة مستحقة»، وقف الأستاذ الفاضل عبدالله النيباري ليقول بحرقة واضحة: «إن أزمة الكويت هي أزمة فكر». أريد من خلال هذا المقال أن أشير إلى حادثة «التأبين» كمظهر من مظاهر أزمة الفكر التي تعيشها الكويت، وهي أزمة برزت على مستوى الحوار من جانب، وعلى مستوى السلوك من جانب آخر.
لو نظرنا إلى تداعيات حادثة «التأبين» على مستوى الحوار، سنجد أن من بين القضايا التي صاحبت هذه الحادثة قضيتين أساسيتين هما: «الوطنية» و «حرية التعبير»، ورأينا كيف انقسمت الصحافة الكويتية حول هذا الموضوع، فالكتّاب الذين رأوا في حادثة «التأبين» جريمة كبرى لا تغتفر، رفعوا شعار «الوطنية» و سخّروا أقلامهم للسخرية من مفهوم «حرية التعبير» أو للتقليل من أهميته في مثل هذه الظروف، وأما الكتّاب الذين دافعوا عن حرية التعبير، فإنهم اكتفوا بالإشارة إلى الدستور للتأكيد على سلامة موقفهم! الآن، هل يستطيع القارئ أن يدلني على موقف فكري عند كلا الطرفين؟ دعنا نلقي نظرة سريعة على كل رأي على حدة.
أولاً، الرأي الذي حارب «حرية التعبير» استند إلى العاطفة الوطنية، من دون أن يقدم معنى واضحاً لمفهوم الوطنية سوى بعض الشعارات الفضفاضة التي لا تدل على شيء محدد، ولو طلبنا من أصحاب هذا الرأي أن يضعوا لنا تعريفاً للوطنية، لجاء كل منهم بتعريف مغاير عن الآخرين!
ثانياً، الرأي الذي دافع عن «حرية التعبير» استند إلى المادة 36 من الدستور، وكأن مفهوم «حرية التعبير» لا يستمد مشروعيته إلاّ من خلال الدستور! حسناً، ماذا لو افترضنا أن الدستور لم يكفل «حرية التعبير»، فهل ينبغي عندها أن نتخلى عن الدفاع عن حرية التعبير؟!
لست أقلل من قيمة دستور 62، لكن أريد أن أشير فقط إلى أنّ الاكتفاء بالاستناد إلى الدستور للدفاع عن حرية التعبير لا يعطي هذا المفهوم حقه، ولا يبيّن أهميته، ولا يقدّم الأساس المنطقي الذي يرتكز عليه. المادة 36 تكفل حرية التعبير، لكنها لا توضح لنا لماذا تكفل حرية التعبير؟ وليس هذا التوضيح من اختصاصها على أي حال! خلاصة الأمر أن الموقف الأول عاطفي، والموقف الثاني قانوني، وكلاهما يفتقر إلى الإطار الفكري الذي من شأنه توضيح معنى «الوطنية» من جانب، وأهمية «حرية التعبير» من جانب آخر!
لو نظرنا إلى تداعيات حادثة «التأبين» على مستوى السلوك، سنجد أن كلا الطرفين المتنازعين قام بممارسات كشفت عن عدم احترام لمفهوم فكري في غاية الأهمية بالنسبة لاستقرار الدولة، مثل مفهوم «العلمانية، فمن قاموا بالتأبين خلطوا الدين بالسياسة عن طريق اختيار مكان ذي وظيفة دينية للحديث عن موضوع سياسي! هذا الخلط بين الدين والسياسة نجده أيضاً عند بعض مَن أدان حادثة التأبين، فمنهم مَن عقد الندوات السياسية خصوصاً للتعبير عن الشحن الطائفي!
ليست أزمة التأبين وتداعياتها الخطيرة سوى مظهر من مظاهر أزمة الفكر التي نعيشها، وستزول أزمة التأبين هذه إن عاجلاً أو آجلاً، ثم تأتي أزمة أخرى من جنسها لتعصف بنا من جديد، ثم تختفي كسابقتها، وهكذا دواليك! ليس بوسعنا إيقاف عجلة الأزمات، فالصحافة لا تعمل إلاً تحت ظروف «الضغط العالي»، لكن لنحاول على الأقل أن نرتقي مستقبلاً بالمستوى الفكري لأزماتنا السياسية، بدلاً من أن ننهك أنفسنا ونبدد طاقاتنا حول موضوع غبي وسخيف وبدائي مثل موضوع «الطائفية»!
الأربعاء، 29 يوليو 2009
أزمة فكر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق