الأربعاء، 28 يناير 2015

مشهد من فساد التعليم

حكى لي أحد الزملاء في مهنة التدريس قصة حقيقية، وهي قصة من قبيل "شرّ البلية ما يُضحك"! يقول الزميل:  بينما كنتُ جالساً في مكتبي، إذا بأحد الأساتذة من قسم آخر يطرق الباب راجيا منّي المساعدة، وعندما سألته عن أمره، تبيّن أنّه في حاجة إلى آلة تصوير، وبينما كنت أهبّ لمساعدته، لاحظت أنّ الورقة التي أراد تصويرها عبارة عن قائمة تحتوي على أسماء اثني عشر طالباً، وأمام كلّ اسم الدرجة النهائية لكلّ طالب، لكنّ ما شدّ انتباهي هو أنّ جميع الطلّاب إلاّ واحداً حصلوا على تقدير "امتياز"، في حين أنّ الطالب المتبقّي حصل على تقدير "جيد جداً مرتفع"، فسألته ممازحاً: إذا كنت بهذا الكرم الطائي في منح الدرجات، فما الذي حملك على منح درجة "جيد جدا مرتفع" لهذا الطالب على وجه الخصوص؟ فنظر إليّ نظرة حائرة وأجابني باللهجة المحلية: "والله ما أدري، يمكن ما حضر اختبار الفاينل"!
لو اكتشف زبائن أحد البنوك أنّ مدير البنك فاسد ومحتال لسارعوا إلى سحب أموالهم، لكنّ الأمر مختلف في قطاع التعليم، فالأستاذ الفاسد من ذوي الكرم الطائي ينعم بسمعة طيبة بين أوساط الطلاّب، فالغالبية العظمى من الطلاب يظنون واهمين أنهم مستفيدون من فساد أساتذتهم، وكلّما زاد فساد الأستاذ زاد عدد الطلّاب الطامعين في كرمه الطائي، والسبب في أنّ الطلاب لا يتصرفون كما يتصرّف زبائن البنك يعود إلى حقيقة أنهم لا يحرصون على تحصليهم العلمي حِرص زبائن البنك على أموالهم، كما أنّ النجاح بالنسبة إليهم لا يُقاس بحجم ما نهلوا من المعرفة، بل بعدد ما نالوا من الدرجات! هذا هو معيار النجاح أيضا عند غالبية الأساتذة من ذوي الكرم الطائي، فمن يفتقر إلى المعرفة لا يملك إلّا الهِبات يستر بها جهله، هبات يُغدقها الأستاذ على طلابه الذين هم ليسوا أقلّ منه استهتارا بتحصيلهم العلمي.
 هناك نطاق أوسع لهذا الفساد القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة بين الأستاذ والطالب، فعندما يحرص مَن في أيديهم شأن التعليم على نسبة النجاح أكثر من حرصهم على مستوى التحصيل العلمي، وعندما يحرص أولياء الأمور على نجاح أبنائهم وبناتهم أكثر من حرصهم على مدى مشروعية هذا النجاح، فإن الاستنتاج الطبيعي يشير إلى وجود مصلحة مشتركة بين مسؤولي التعليم وأولياء الأمور، ولعلّ القارئ يتذكّر تلك العبارة الشهيرة التي تزيّن الشهادة النهائية في مراحل التعليم الابتدائي، تلك التي تشير إلى أنّ حامل الشهادة "ناجح ويُنقل إلى الصفّ الذي يليه"، وهي عبارة أشبه ما تكون بقانون من قوانين الطبيعة، ذلك أنّ جميع الطلّاب وبلا استثناء كانوا ينجحون وينتقلون إلى الصف الذي يليه، ويبدو أنّ مسؤولي وزارة التربية آنذاك كانوا يجيبون بالإيجاب عن السؤال القرآني البلاغي: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟!
فساد التعليم حالة خاصة من فساد الوضع العام، ومن الصعب تقييم حجم الضرر الأخلاقي الناتج عن الفساد بكلّ أشكاله، لكن في كل عملية فساد هناك مستفيد وهناك متضرر، وسمة المستفيد من الفساد الأنانية، في حين أنّ مصير المتضرر من الفساد الإحباط، وبما أن عدد المستفيدين من الفساد أقل دائماً من عدد المتضررين، فإن المجتمع الفاسد ينتج أقلية أنانية وأغلبية محبطة.

الاثنين، 26 يناير 2015

حول مفهوم تجديد الدين

لا يبدو أنّ الأصوليين والحداثيين متفقون حول مفهوم "تجديد الدين"، فبالنسبة إلى الأصوليين بشكل عام تجديد الدين يعني العودة بالدين إلى ما كان عليه في صورته الأولى، في حين أنّ التجديد بالنسبة إلى غالبية الحداثيين يعني إعادة النظر في تفسير النص الديني، ومن الواضح أنّ الفهم الأصولي هو الأقرب إلى الصواب من الناحية اللغوية، وأمّا الفهم الحداثي لمفهوم التجديد فيشير إلى ثورة فكرية داخل أسوار الدين، لا خارجها.
ما أهمية هذا الاختلاف بين كلا الفريقين حول مفهوم تجديد الدين؟ من الناحية المعرفية الصرفة، لا يبدو هذا الاختلاف ذا أهمية، فلو افترضنا نجاح الأصوليين في تجديد الدين على الوجه الذي يريدون، فإنّ المحصّلة هي نجاحهم في إخضاع الحاضر إلى الماضي، لكن ليس من شأن هذا الإخضاع أن يضيف شيئاً إلى رصيد المعرفة البشرية في عصرنا الراهن، وبالمثل، لو نجح الحداثيون في تجديد الدين على النحو الذي يأملون، فقد يساهم هذا التجديد في "عصرنة الدين"، لكنه لن يُحدث ثورة معرفية في أيّ ميدان من ميادين المعرفة العلمية.
لكي ندلّل على حقيقة أنّ تجديد الدين لن يؤديَ إلى زيادة رصيد المعرفة البشرية في عصرنا الراهن، ينبغي أولا أن نلقيَ نظرة سريعة على تاريخ الثورات العلمية التي أضافت إضافة حقيقية إلى رصيد المعرفة البشرية، ففي ميدان علم الهندسة هيمن كتاب "العناصر" لإقليدس لأكثر من عشرين قرنا، وقد بلغت هذه الهيمنة إلى الدرجة التي جعلت فيلسوفا بقامة "كانط" يرتكب خطأ فادحا في بناء نظرية معرفية اعتمادا على مبادئ الهندسة الإقليدية، ثم يأتي القرن التاسع عشر ليُفسح المجال لثورة علمية تمثلت بالهندسة اللا إقليدية، ولولا هذه الثورة لما استطاع آينشتاين أن يقدّم في القرن العشرين تفسيراً هندسياً لمفهوم الجاذبية، وفي ميدان علم المنطق ظلّ المنطق الأرسطي سائدا منذ القرن الرابع قبل الميلاد إلى أواخر القرن التاسع عشر، القرن الذي شهد ولادة "المنطق الجديد" الذي تنعم التكنولوجيا الحديثة بتطبيقاته في عصرنا الحاضر.
تاريخ العلم مليء بأمثلة مشابهة لثورات علمية في ميادين متعدّدة من المعرفة، وبالرغم من كلّ تلك الثورات فلا أحد يتحدّث عن "تجديد العلم"، لأنّ العلم لا يتجدّد، بل يأتي بما هو جديد، والعلم يأتي بجديد لأنه لا يعطي أولوية معرفية لما هو قديم مهما كان هذا القديم قريبا من الحسّ السليم أو حتى من التقديس، فالهندسة اللا إقليدية ثارت على الحس السليم الذي يشير إلى أنّ الخطين المتوازيين لا يلتقيان أبداً، والمنطق الجديد أزال القدسية عن منطق أرسطو، وهنا إنّما يكمن الشرط الأساسي لظهور أيّ معرفة حقيقية، ونعني به إتاحة الحرية المطلقة للعقل البشري في الهدم والبناء المعرفيين من دون قيد أو شرط.
إنّ غياب هذا الشرط المؤدي تحقيقه إلى معرفة حقيقية يجعل الحديث عن إغلاق باب الاجتهاد أو فتحه غير ذي أهمية، ذلك أنّ أيّ نظام فكري لا يفسح المجال لنقد أصوله لن يفسح المجال أيضاً لنظام فكري جديد، وبالتالي فإن الحديث عن "دين جديد" هرطقة واضحة في المفهوم الديني، في حين أنّ الحديث عن "علم جديد" إنجاز عقلي يُضاف إلى إنجازات العقل البشري، وما أكثرها!

الأربعاء، 21 يناير 2015

شارلي إيبدو: تناقضات وتساؤلات

بالنسبة إلى الغرب هناك فرق كبير بين المرء وما يؤمن به، لذا فإنّ قوانينهم تجرّم السخرية من أيّ إنسان من حيث هو إنسان، لكنها لا تجرّم السخرية من أفكار أي إنسان مهما بلغت قدسيتها، في حين أن الوضع في ثقافتنا الإسلامية مختلف تماما، حيث نجد تمازجا كليّا بين الذات والمعتقد.
أيّهما أشدّ إهانة الدين الإسلامي: أن تُقطع الرّقاب وتُزهق الأرواح باسم هذا الدين على مرأى ومسمع من العالم أجمع، أم أن تنشر صحيفة رسماً كاريكاتوريا تسخر من خلاله بمقدسات هذا الدين؟ يبدو أن السنوات الماضية تكفّلت بالإجابة عن هذا السؤال، فعندما نشرت صحيفة "جيلاندس بوستن" الدنماركية رسومها الشهيرة، جاء الرد الإسلامي الغاضب من خلال مقاطعة البضائع وحرق السفارات وسحب السفراء، في حين أنّ هذا الغضب استحال برداً وسلاماً أمام ثقافة قطع الرؤوس التي بدأت مع غزو العراق واستمرت إلى يومنا هذا. هل من حقّ أمّة من الأمم أن تفرض قيمها ومعتقداتها على أمة أخرى؟ هنا أيضا تجيب السنوات القلائل الماضية عن هذا السؤال، فعندما حظرت فرنسا ارتداء النقاب في الأماكن العامة، جاء الرد الإسلامي محتجا على فرض قيم علمانية على أتباع دين سماوي، وفي هذه النقطة تحديدا كان الرد الإسلامي يتسم بالمنطق وقوة الحجة، لكن أحداث باريس الأخيرة كشفت عن حقيقة أنّ فرض القيم الإسلامية على غير المسلمين أمر مشروع.
وماذا عن تناقضات الغرب؟ تناقضات الغرب كثيرة، لكن ليس من بينها ما تتضمنه تلك الحجة التي تتكرر كثيرا هذه الأيام، ومفادها أنّ قوانين الغرب تجرّم السخرية من اليهود ولا تجرّم السخرية من الإسلام، وهذا أمر منافٍ للواقع، فالسخرية الهادفة من كل المعتقدات، دينية كانت أم غير دينية، أمر مباح في الغرب، وأما فيما يتعلق باليهود فالذي تجّرمه القوانين هناك مرتبط بمسألة إنكار المحرقة الشهيرة، ومع ذلك فحتى هذا التجريم لاقى ويلاقي معارضة كبيرة من أشهر المفكرين الغربيين، ومن ضمنهم مفكرون يهود!
لماذا تعتدي حرية التعبير لديهم على معتقداتنا؟ هذا سؤال تكرّر كثيرا أيضا في الأيام الماضية، لكن تنبغي ملاحظة أنّ حرية التعبير لديهم لا تعتدي على معتقداتنا فقط، بل إنها تتعدّى ذلك إلى معتقداتهم هم أنفسهم أيضا، فبالنسبة إليهم هناك فرق كبير بين المرء وما يؤمن به، لذا فإنّ قوانينهم تجرّم السخرية من أيّ إنسان من حيث هو إنسان، لكنها لا تجرّم السخرية من أفكار أي إنسان مهما بلغت قدسيتها، في حين أن الوضع في ثقافتنا الإسلامية مختلف تماما، حيث نجد تمازجا كليّا بين الذات والمعتقد، فمن يعتد على المعتقد فكأنما اعتدى على الذات، ولعل هذا التنافر بين النظرتين الغربية والشرقية يعكس تناقضا في القيم الحضارية لكلّ منهما.
إنّ حرية التعبير ليست ترفاً غربيا، بل قيمة إنسانية مكتسبة جاءت بعد قرون من التضحيات، كما أن فنّ الكاريكاتير لا يهدف إلى السخرية لمجرّد السخرية، بل يتّخذ من السخرية وسيلة لكشف التناقضات وتسليط الضوء على المشكلات الناجمة عنها، فمثلاً عندما نشرت صحيفة "شارلي إيبدو" ذلك الكاركاتير الشهير، كان من الواضح لكلّ من شاهده بموضوعية أنّ الفكرة الكامنة فيه تشير إلى إدانة لوحشية "داعش"، ومن منّا لا يدين "داعش" ويحتفظ بإنسانيته في الوقت نفسه؟!
هل من حقّ الغاضبين أن يغضبوا؟ بكل تأكيد، لكن ليس من حقهم أن يُخرسوا مَن أغضبهم، وقد آن الأوان أن نشبّ عن الطوق ونتعلّم الصبر على سماع ما قد لا يُعجبنا.

الاثنين، 19 يناير 2015

العقل والثالوث المحرّم

ازدراء العقل فعلٌ لا يُجرّمه القانون، فالقانون- كما يقولون- لا يحمي المغفلين، في حين أنّ نقد أيّ من أركان "الثالوث المحرّم" يضمن لك- في أفضل الحالات- مكاناً خلف القضبان، بمعنى آخر أكثر تحديداً، إذا أردت أن ترى القانون مُكشّراً عن أنيابه فجرّب أن تنتقد حاكماً من الحُكّام، أو أصلاً من أصول الدين، أو حتى عادة اجتماعية عزيزة على قلوب أولئك الذين هكذا وجدوا آباءهم يفعلون، لكن في المقابل إذا أردت أن ترى القانون رافعاً كتفيه في إشارة إلى إخلاء مسؤوليته فبوسعك أن تشاهد نشرة الأخبار، أو برنامجا دينيا، أو حتى حلقة من حلقات مسلسل تاريخي.
لو كان الميدان الذي يمارس من خلاله العقل نشاطه مستقلّاً تماماً عن ميادين "الثالوث المحرّم"، لما كانت هناك مشكلة، لكن الحقيقة تشير إلى أنّ النشاط العقلي يكتسب أهمية بالغة عندما يُوظّف في نقد السلطات الثلاث، السياسية والدينية والاجتماعية، وإغفال هذه الحقيقة هو المسؤول عن ازدراء العقل وإهانته، فالعقل يُحجم عن نقد السلطة السياسية في غياب الديمقراطية، وعن نقد السلطة الدينية في غياب العلمانية، وعن نقد السلطة الاجتماعية في غياب التسامح.
عندما تسود اللاعقلانية بهذا الشكل الصارخ، وعندما لا يجد العقل له مكاناً في حياتنا، فإن النتائج- كما يخبرنا التاريخ- ستكون وخيمة، فمن رحِم اللاعقلانية خرجت أبرز أنواع الدكتاتوريات في تاريخ البشرية: دكتاتورية الفرد، ودكتاتورية النص، ودكتاتورية العُرف. إنّ أبشع إهانة في حقّ آدميّتنا هي إجبارنا على ألّا نفكّر، كما أنّ أفدح كارثة في حقّ مستقبلنا هي إرغامنا على عدم إعمال العقل في المشكلات الناتجة عن "الثالوث المحرّم".
"أنا أفكّر، إذاً أنا موجود"، هذه هي العبارة التي سمع بها الكثير منّا، لكن ما يجهله أغلبنا هو المعنى العميق لهذا "الكوجيتو" الديكارتي، فهو يجسّد النقطة الحرجة التي تفصل بين الهدم والبناء؛ هدم الأوهام وبناء معرفة حقيقية على أنقاضها، وأمّا العقل فقد كان مِعول هدم تارة، ولُبنة بناء تارة أخرى، ولولاه لما قامت حضارة علمية تجعل من الشك حقّاً أصيلاً لكلّ ذي عقل!