الثلاثاء، 26 يوليو 2016

حول رومانسية «الإسلام السياسي»

ما زال تيار "الإسلام السياسي" يجيد القيام بدور "الضحية"، ويبدو أنّه نجح نجاحا منقطع النظير في كسب تعاطف المتعاطفين مع حالة "المظلومية" التي يعيشها هذا التيار، فالصورة التي في أذهان الكثيرين تشير إلى تيار تخلّى عن خيار العنف لينخرط في العمل السياسي السلمي، وبمجرّد وصوله إلى السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، تثور ثائرة "أدعياء الديمقراطية"، فلا يعترفون بنتيجة جاءت على غير ما يشتهون، ثم تُدبّر المكائد ضد هذا التيار بغرض الإطاحة به والانقلاب عليه، حسدا وحقدا وغيظا من نجاحه! 
إنّ أول ما يلفت الانتباه في هذه الصورة الرومانسية حول "الإسلام السياسي" هو ابتذالها المثير للشفقة، فهي صورة تستند إلى العاطفة لحشد المؤيدين من جانب، ولتفسير سلوك المعارضين من جانب آخر، والابتذال سلوك لا يتطلّب جهدا أكثر من إثارة الغرائز، وهو لذلك ابتذال منسجم مع تيّار سياسي لا يحتاج إلى أكثر من الاستفادة من البنية الثقافية الممتدّة لقرون طويلة كي يحظى بالشعبية المطلوبة. 
هناك تفسير أقلّ ابتذالا وأكثر منطقية لاعتراض المعترضين على وصول أي تيار إسلامي إلى سدة الحكم، وهو أنّ التمييز بين الناس من حيث معتقداتهم لا يتيح إمكانية التعايش السلمي والعادل بين أفراد المجتمع الواحد، وكلّ تيار إسلامي جدير بهذا الاسم يميّز بين الناس من حيث معتقداتهم، ولهذا فإنّ التعايش السلمي والعادل بين أفراد المجتمع الواحد غير ممكن في ظلّ أيّ تيار إسلامي.
بالطبع، هناك من يستشهد بتاريخ الحضارة الإسلامية للدلالة على إمكانية التعايش السلمي والعادل بين مختلف الأديان والمذاهب، ولكن شتّان بين سلمية التعايش المستمدة من عدالة القانون وتلك المستمدة من عدالة المنتصر، كما أنّ تعددية المجتمع الحديث لا تقتصر على الأديان والمذاهب، والعدالة بمفهوهما الحديث لا تنحصر في القاسم الديني بين فئات اجتماعية، بل هي عدالة تستند إلى القاسم المشترك بين جميع أفراد المجتمع، ونعني به القاسم الإنساني، وإذا كان لنا أن نتخيل وجود تيار إسلامي يبلغ من التسامح حدا بحيث لا يفرّق بين البشر من حيث قربهم أو بعدهم عن "دين الدولة"، فإنّه في هذه الحالة لا معنى لوصف مثل هذا التيار بالإسلامي!
في بلد مثل الكويت، حيث نشهد الاحتقان الديني بين المتطرفين في كلا الجانبين، يبدو السؤال التالي مستحقاً: إذا كان وجود مثل هذا الاحتقان الطائفي ممكنا حتى في ظلّ تساوي أفراد الطائفتين أمام القانون، فكيف سيكون مصير الطائفة التي يدفعها حظها العاثر في المستقبل إلى أن تكون خاضعة خضوعا تاماً إلى سلطة المتطرفين في الطائفة الأخرى؟ إنّ الحُكم المدني هو الوحيد القادر على استيعاب جميع أفراد المجتمع الواحد، ليس لأنه حُكم يخلو من عيوب، وليس لأنه حُكم عادل بالضرورة، بل لأنه يضمن على الأقل حقّ الوجود للجميع من دون انتقاص لحقوقهم التي يستمدونها من كونهم بشراً، لا أكثر ولا أقلّ، وإذا كان لا بدّ من مجاراة الإسلاميين في رومانسيتهم، فلا ضير أن نقول إنّ القانون الوضعي أشبه بالشمس التي تشرق على الجميع، فلا تفرّق بينهم من حيث الدين أو الجنس أو الأصل، ولعلّ في نكران هذه الحقيقة يكمن أحد أسباب نعت الإسلاميين بالظلاميين!

الثلاثاء، 19 يوليو 2016

الديمقراطية على الطريقة الإخوانية

الديمقراطية تعني اصطلاحا حُكم الشعب، وتعني نظريا اختيار الشعب مَن يحكمه، وتعني عمليا وصول مَن فاز بأغلبية أصوات الناخبين إلى سدة الحُكم، وبذلك نصل إلى حقيقتين: الحقيقة الأولى هي أن الديمقراطية مجرد وسيلة لتحديد هوية مَن يحكم، والحقيقة الثانية هي أنّ هناك دائما أقلية غير مقتنعة بهوية مَن يحكم، لكنها مُلزمة مع ذلك بقبول نتيجة صندوق الاقتراع، وعند هذه النقطة تحديدا ينتهي اهتمام «الإخوان المسلمين» بالنظام الديمقراطي، فما يعنيهم هو كيفية الوصول إلى الحُكم، وأمّا كيفية الحُكم فقد تكفلت الأيديولوجية الدينية بها إلى أدق التفاصيل!

لا اعتراض على وصول «الإخوان» إلى السلطة عن طريق الديمقراطية، ولكنّ الاعتراض كلّ الاعتراض على ما يصنعه «الإخوان» بالديمقراطية بعد وصولهم إلى السلطة، ولهذا الاعتراض ما يبرّره، ذلك أنّ «الإخوان» لا يرون في صندوق الاقتراع مجرّد وسيلة لتحديد هوية الحاكم، بل يرون فيه أيضا تفويضاً مطلقاً بإدارة الحُكم بالطريقة التي يرونها مناسبة، ومن ضمنها إخضاع الجميع لشروط التعايش التي تحددها الأيديولوجية الدينية، وبذلك لا يتعيّن على الأقلية الرضوخ إلى نتيجة الصندوق فحسب، بل يتعيّن عليها أيضا إخضاع أسلوب حياتها وطريقة تفكيرها إلى إرادة الأغلبية، وقد سبق أن ذكرنا في مقال سابق أنّ مشكلة كل التيارات الشمولية، ومن ضمنها التيارات الإسلامية، هي اعتقادها أنّ هوية الحاكم تحدّد طريقة الحُكم، ولهذا السبب تحديداً يتمسك أنصار هذه التيارات الشمولية بمفهوم الديمقراطية المطلقة دون أدنى اعتبار لحقيقة أن الديمقراطية التي لا يكبح جماحها سوى «شرعية الصندوق» ليست سوى وجه آخر من وجوه الدكتاتورية.

كتب «الغنوشي» يقول: «ما ينبغي أن تصل بالبعض الروح العدمية إلى حدّ تفضيل نظام دكتاتوري زُهداً في ديمقراطية ناقصة»، وقد وجد البعض في هذا الكلام اعترافا ضمنيا بوجود قصور في الديمقراطية على الطريقة الإخوانية، ولكنه مع ذلك اعتراف ناقص، فالتاريخ الحديث يشهد على حقيقة أنّ الدكتاتور الذي يصل إلى السلطة عن طريق «ديمقراطية ناقصة» أسوأ بكثير من ذلك الذي يصل على ظهر دبابة، كما أن المشكلة ليست في تفضيل دكتاتورية عسكرية على دكتاتورية ثيوقراطية، بل في تناوب كلتيهما على حُكم شعوب المنطقة رغما عنها، تارة عن طريق استثمار غريزة الخوف، وتارة عن طريق استثمار آفة الجهل.

الديمقراطية هي مجرّد حلّ لمشكلة اتخاذ القرار السياسي في بيئة تتسم بالتعددية، لكن ليس من شأن الديمقراطية الحفاظ على تلك التعددية، ولهذا لا بدّ من توافر شروط من دونها لا تنجح الديمقراطية، مثل سيادة القانون، وفصل السلطات، وضمان الحقوق الأساسية المتعلقة بحريات التعبير والاعتقاد، وهي شروط تتعارض في مجملها مع حدود التعايش التي تفرضها الأيديولوجية الدينية، كما أنها شروط دخيلة على ثقافتنا العربية-الإسلامية، لكن أليست الديمقراطية ذاتها دخيلة على ثقافتنا؟ ألم توصف بالكفر من قبل أولئك الذين ما لبثوا أن وجدوا لهم فيها مآرب آخرى؟

سبق أن أكد «إردوغان» أنّ الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، وسبقه إلى تأكيد النقطة ذاتها «الغنوشي» و«القرضاوي» وغيرهما، وهم بلا شك محقون في ذلك، فالديمقراطية التي يعنون هي تلك المحرومة من شروط نجاحها، هي «ديمقراطية الصندوق» التي تضمن للرابح وحده تقرير مستقبل قواعد اللعبة السياسية، والانسجام مع هذا النوع من الديمقراطية المنفلتة لا يقتصر على الإسلام، بل يتعداه إلى النازية والفاشية وغيرهما من الأيديولوجيات الشمولية، فالشمولية لا تصعد إلا لتبقى، ولا تبقى إلا لتسود!

الاثنين، 18 يوليو 2016

انقلاب فاشل على ديمقراطية مزعومة

عكست ردود الأفعال في الشارع العربي إزاء محاولة الانقلاب في تركيا مظهرا آخر من مظاهر اللاعقلانية في مجتمعاتنا العربية، ولعلّنا لا نجد وقتا أنسب من هذا لتأمّل ظاهرة "عقلية القطيع" التي تحدث عنها بعض الباحثين في بداية القرن العشرين، فمع بداية الأحداث المؤسفة من مساء يوم الجمعة الماضي، حتى قبل نهاية الصراع الدامي على السلطة في تركيا، بدأت الاصطفافات العاطفية والمتشنجة تطفو بقوة على السطح، وأطلّت الثنائيات المزيفة برأسها من جديد، فإما أن تكون مع الانقلاب على "الإخوان"، وإما أن تكون ضد الانقلاب على "الديمقراطية"، وعندما نجد أنفسنا أمام مثل هذه الثنائيات المزيفة، فإنّ الحقيقة غالبا ما تكون في مكان ما في المنتصف بين الطرفين.
فاجأت محاولة الانقلاب معظم الخبراء والمتابعين للشأن التركي، وهذا معناه أنّ الموقف العقلاني يتطلّب مزيدا من الوقت لتقصي الحقائق قبل اعتناق رأي محدد حول مجريات الأمور، ومع ذلك ذهب الحماس في البعض إلى مناصرة طرف ضدّ آخر، فخصوم "الإخوان" الذين طالما تشدقوا بالديمقراطية لم يترددوا في الوقوف مع انقلاب عسكري، في حين تداعى أنصار "الإخوان" على الانقلابيين دفاعاً عن ديمقراطية مزعومة، كما عكست الأحداث الأخيرة تمازجا بشعا بين الدين والسياسة، فمن جهة أخضع "الإردوغانيون الأتراك" المساجد إلى أجندتهم السياسية من خلال استخدام المآذن للدعوة إلى النفير العام، ومن جهة أخرى سارع "الإردوغانيون العرب" إلى ترديد عبارات "الدروشة" المعهودة والتي أوحت بأن الصراع يدور بين المسلمين والكفار، لا مجرد صراع بين أقطاب متنافرة على الحكم.
عندما نضيف المعطيات التاريخية حول حكم "إردوغان" إلى المعطيات الأولية حول الأحداث الأخيرة في تركيا، فإنّ من الإنصاف القول إننا أمام انقلاب فاشل على ديمقراطية مزعومة، فأمّا فشل الانقلاب فله أسباب من بينها عدم وجود تأييد شعبي، وعدم وجود غطاء سياسي، بالإضافة أيضا إلى الانقسام الواضح في صفوف الجيش التركي تجاه محاولة الانقلاب، وهو أمر يشي بحقيقة أنّ صورة هذا الجيش بوصفه حاميا للنظام العلماني تلاشت إلى حدّ كبير مع التغيرات الكبرى التي لحقت به في السنوات الأخيرة على يد الحزب الحاكم، وأمّا الديمقراطية المزعومة في تركيا فتراجعت إلى حدودها الدنيا في ظلّ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فأغلب صحف المعارضة تم إسكاتها بالقوة، وطالت الملاحقات القضائية عددا كبيرا من الأكاديميين الأتراك لمجرد توقيعهم على عريضة تناشد بوقف الحرب ضدّ الأكراد، كما اتسمت الخطابات الرئاسية بإحداث حالة من الاستقطاب الحاد في الشارع التركي، ومن المحتمل جدا أن الوضع سيزداد سوءا بعد الأحداث الأخيرة، وقد ظهرت فعلا بوادر على هذا الاحتمال منذ اليوم الأول من فشل الانقلاب من خلال الإجراءات السريعة التي تم اتخاذها بحق عدد كبير من أفراد السلطتين القضائية والعسكرية، ويبدو أنّ الوقت أصبح مناسبا لإجراء التعديلات الدستورية التي طالما نادى بها الرئيس، والتي من شأنها إخضاع الحياة السياسية برمتها إلى إرادة الزعيم الأوحد.
بالطبع، لا يهتمّ "الإردوغانيون العرب" على الإطلاق بتفاصيل التجاوزات المتلاحقة على النظام الديمقراطي في ظل حكم "العدالة والتنمية"، ولا تعنيهم في شيء تقارير منظمات حقوق الإنسان حول الأوضاع في تركيا، ولا يأبهون بقضايا الفساد والإثراء غير المشروع التي تحوم حول أركان السلطة في تركيا، بل إنهم لا يتورعون عن تبرير التقارب التركي مع روسيا وإسرائيل في الآونة الأخيرة، فالأمر المهم في نظرهم هو أنّ هناك رئيسا وصل إلى سدة الحكم عن طريق "الصندوق"، ويبدو أننا مطالبون باحترام الصندوق أكثر من احترامنا لعقولنا، وإلاّ ما معنى الإيمان بديمقراطية تمّ العبث بها على مدى سنوات طويلة بحيث أصبحت فكرة الإطاحة بالزعيم الأوحد من خلال "الصندوق" شبه مستحيلة؟!

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

حول قضية الأصالة والمعاصرة

هناك ثلاثة مواقف بارزة من قضية الأصالة والمعاصرة في الثقافة العربية الإسلامية، فأنصار الأصالة في خصومة دائمة مع الحاضر ويرون الخلاص في العودة إلى الجذور، وأنصار المعاصرة في خصومة دائمة مع الماضي ويرون الخلاص في بتر تلك الجذور، وأمّا أنصار الوسطيّة فمؤمنون بإمكانية الجمع بين القديم والحديث بحيث لا يمنع الحفاظ على جذور الماضي من قطف ثمار الحاضر، لكن لا يبدو أنّ أيّا من هذه المواقف الثلاثة يُشكّل الموقف الأمثل من قضية الأصالة والمعاصرة، كما لا يبدو أننا أمام قضية تقوم على افتراض صحيح، وهذه هي النقطة التي نريد أن نتناولها من خلال هذا المقال.
قوام كلّ ثقافة عبارة عن وسيلة اتصال ومصدر معرفي، وقد جرت العادة على النظر إلى اللغة العربية والتراث الإسلامي بوصفهما قوام الثقافة العربية الإسلامية، الأول كوسيلة اتصال، والثاني كمصدر للمعرفة، وعندما يدور الحديث في ثقافتنا عن قضية الأصالة والمعاصرة، فإن السؤال الجوهري يشير إلى مدى توافق اللغة العربية والتراث الإسلامي مع مقتضيات الزمن الحاضر، وهو سؤال يقوم على افتراض ضمني مفاده أنّ بقاء الهويات الثقافية مرهون بثبات وسائل الاتصال ومصادر المعرفة، وهذا افتراض ينافي الواقع، فالثقافة الغربية المسيحية ما زالت تشكّل الهوية الثقافية لملايين البشر بالرغم من انقراض اللغة اللاتينية كوسيلة اتصال من جهة، وانحسار التراث المسيحي كمصدر للمعرفة من جهة أخرى. 
إنّ الثفافة التي تجمع بين الإنسان الخليجي والإنسان المغاربي، مثلا، ليست مرهونة ببقاء اللغة العربية، إذْ ليست الفصحى هي لغتنا الأم، كما أنّ هناك العديد من العرب ممن لا يدين بالإسلام، ومع ذلك فإننا جميعا، من المحيط إلى الخليج، ننتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، ليس لأننا نتحدث الفصحى، وليس لأننا ندين بالإسلام، بل لأننا نتقاسم تاريخا من الانتصارات والهزائم، ومن الحقائق والأساطير، ومن العادات والتقاليد، وإذا كانت الفصحى هي المنبع، فإنه منبع ما فتئ يفيض أنهارا من لغات ولهجات، وإذا كان الإسلام هو مصدر المعرفة، فإنّ البحث عن مصادر أخرى لا يلغي هويتنا الثقافية بوصفها إسلامية، فالإسلام يبقى تراثا إنسانيا بصرف النظر عن قيمته الأبستمولوجية، والتراث مثل الأبوّة، فلا أحد بمقدوره أن يختار أباه. 
اللاعقلانية هي العامل المشترك بين المواقف المتباينة من الثقافة العربية الإسلامية، فأنصار الأصالة لا يعترفون بالعقل كأداة معرفية ولا يقبلون بالتطوّر الطبيعي للغة العربية، وأنصار المعاصرة لا يعترفون بالتراث كقيمة حضارية ولا يحفلون بالفصحى كقيمة ثقافية، وأمّا أنصار الوسطية فجعلوا الأخذ بأسباب العقل مشروطا بعدم نقد مصادر المعرفة في الدين الإسلامي، وبذلك أصبحت الوسطية مجرّد محاولة توافقية غير مجدية من الناحية العملية. 
إلى جانب غياب العقلانية، هناك أيضا غياب الجانب الإنساني في التعاطي مع الثقافة العربية الإسلامية، فأنصار الأصالة اعتادوا تقسيم البشر إلى مراتب بحسب معتقداتهم الدينية، وأنصار المعاصرة استمرؤوا استيراد أبشع مظاهر الحضارة الغربية وأشدّها انتقاصا من قيمة الإنسان، وأمّا الوسطيّون فما زالوا يصرون على إمكانية الجمع بين التناقضات، فعقوبة الإعدام لا تتعارض مع حقوق الإنسان، والسوق الحرّة لا تتعارض مع العدالة الاجتماعية، وتكميم الأفواه لا يتعارض مع حرية التعبير!

الاثنين، 4 يوليو 2016

بلد الإنسانية للكويتيين فقط!

لدينا اليوم شهادة مختومة من "بان كي مون" تفيد بأننا نعيش في "بلد الإنسانية"، ولدينا بالأمس مهرّج رفع شعار "الكويت للكويتيين فقط" فصار نائباً ودخل البرلمان، وعلى ضوء هاتين الحقيقتين لا بدّ لنا من أن نصل إلى استنتاج مفاده أنّ بلد الإنسانية للكويتيين فقط! إذا بدا هذا الاستنتاج متناقضا، فإنّ السبب في ذلك يعود إلى حقيقة أنّ شهادة "بان كي مون" في حقّنا تتعارض مع شهادتنا في حقّ أنفسنا، وبما أنّ المرء أدرى بحاله، فلا يبقى أمامنا خيار سوى أن نأخذ ما يقوله الأمين العام "بقليل من الملح" كما يقول المثل الإنكليزي! 

في الآونة الآخيرة، أصدر وزير الصحة قرارا بتخصيص مستشفى للكويتيين فقط، وبالنظر إلى مظاهر التطبيق الفعلي لشعار "الكويت للكويتيين فقط" في أغلب مناحي الحياة في هذا المجتمع الصغير، فإنّ وجه الغرابة الوحيد في قرار الوزير يكمن في أنّه قرار جاء متأخراً على غير العادة، ولذلك لم يوفّق أحد نوّاب مجلس "الصوت الواحد" بوصفه قرار الوزير بالقرار "الشجاع"، فالقرار السياسي الشجاع يفترض وجود تعارض بين محتوى القرار والرأي العام، في حين أنّ استطلاع الرأي العام الذي أجرته "الجريدة" في الأسبوع الماضي حول هذا الموضوع يفيد بحقيقة أنّ غالبية المواطنين مع قرار الوزير!

الطريف في دفاع وزير الصحة عن قراره هو قوله إنّ "القرار لا يوجد فيه أي تمييز أو عنصرية طالما كان العلاج نفسه متوافرا للكويتيين ولغير الكويتيين"! حسنا، لكن إذا كان العلاج نفسه متوافرا للكويتيين ولغير الكويتيين، فما الذي يدفع الوزير إلى توفير خدمة علاجية إضافية ومقصورة على الكويتيين فقط؟ إذا كان الجواب يكمن في معاناة الازدحام في المرافق الطبية، فإنّ الجميع على حدّ سواء، كويتيين ووافدين، شركاء في هذه المعاناة، وإذا قيل إنّ الكويتيين أحقّ من غيرهم في الاستفادة من الخدمات التي تقدمها الدولة، فإنّ في هذا القول تأكيدا على العنصرية والتمييز في شعار "الكويت للكويتيين فقط"! ينبغي أن نضيف أن دفاع الوزير عن قراره يتضمّن اعترافا حكوميا بالتمييز ضد غير الكويتيين في القطاعات الحكومية الأخرى التي تقتصر فيها الخدمة المقدّمة على الكويتيين ولا تتوافر لغير الكويتيين، ولفئة "البدون" منهم على وجه الخصوص.

لا يفرّق المرض بين كويتي ووافد، ومع ذلك نأبى إلّا أن يكون بينهما برزخٌ فلا يلتقيان، وإذا كُنا قد اعتدنا التنازل عن الحسّ المدني من خلال تكريس التمييز ضد غير الكويتيين في مجالات عديدة، كالتعليم والتوظيف وغيرهما من المجالات التي تصل حتى إلى نطاق التعاملات الشخصية اليومية، فهل ينبغي أيضا أن نعاند الطبيعة بحيث نحرص على تمييز ما لم تجد الطبيعة نفسها ضرورة في تمييزه؟ 

قبل سنوات قليلة، انتقلت كلية التربية الأساسية إلى مبناها الجديد في منطقة العارضية، وانتهجت أغلب الأقسام العلمية طريقة عنصرية في توزيع مكاتب أعضاء هيئة التدريس، بحيث تم استثناء الزملاء الوافدين من عملية الاقتراع على اختيار مكتب لكلّ عضو هيئة تدريس، ولا يقتصر هذا النفس العنصري على توزيع المكاتب فقط، بل يتعدّاه إلى سياسات التوظيف والترقيات وحتى حقّ الانضمام إلى رابطة أعضاء هيئة التدريس، وإذا كان هذا النفس العنصري طاغيا في المجال الأكاديمي، فليس من الغرابة أن تأتي استطلاعات الرأي مؤيدة لقرار وزاري يرى أن "قسم أبقراط" غارق في المثالية، وهو غارق في المثالية فعلا، فالمثالية هي التهمة التي نُلصقها بأولئك الذين يدلوننا على فشلنا في الاستماع إلى صوت ضمائرنا!