الاثنين، 27 يوليو 2015

«هذه مشيئة الله يا بُنيّ»!

عنوان هذا المقال يشير إلى الجملة الشهيرة التي طالما ترددت على لسان العجوز في حكاية "السندباد" الشهيرة، وهي جملة تُستخدم لأحد غرضين: إمّا لغرض أخلاقيّ يهدف إلى مواساة مَن أصابه أمرٌ جلل، وإمّا لغرض معرفيّ يهدف إلى تقديم تفسير لظاهرة طبيعية، ومع الاعتراف بأن الغرض الأخلاقي لهذه الجملة فعّال جدّا في طمأنة قلوب المؤمنين بمشيئة الله، فإنّ الغرض المعرفي لا يضيف شيئا إلى عقول المتعطشين لفهم الظواهر الطبيعية، والسبب في ذلك بسيط ومباشر: التفسير الذي يفسّر الظاهرة ونقيضها لا يفسّر أيّا منهما، فعلى سبيل المثال، عندما نستخدم جملة "هذه مشيئة الله" كتفسير لنزول المطر على مدينة الكويت، ثم نستخدم الجملة نفسها لتفسير عدم نزول المطر على مدينة الجهراء، فإن الجملة لا تفسّر في واقع الأمر أيّاً من الظاهرتين.
لنقارن ما سبق بالتفسير العلمي لنزول المطر، وهو تفسير يشير إلى شروط مناخية محددة، إذا توافرت هطل المطر، وقد يقول قائل إن الأمر مشابه لقولنا "إذا شاء الله هطل المطر"، ولكن تنبغي ملاحظة اختلاف جوهري بين الحالتين، فالتفسير العلمي يتيح لنا التنبؤ بهطول المطر بفضل معرفتنا المسبقة بالشروط المناخية المتعلقة بهذه الظاهرة، في حين أنّ التفسير الديني لا يتيح ذلك بسبب عدم معرفتنا بمشيئة الله إلّا بعد حدوث الظاهرة، لا قبل حدوثها! هذا الاختلاف الجوهري بين التفسير العلمي والتفسير الديني هو المسؤول عن حقيقة أنّ الأول قابل للتزييف، في حين أنّ الثاني غير قابل لذلك، ولتوضيح هذه النقطة، دعنا نلقِ نظرة على الاحتمالات التالية:
1- توافرت الشروط المناخية المطلوبة، ثم هطل المطر.
2- توافرت الشروط المناخية المطلوبة، ثم لم يهطل المطر.
3- شاء الله فهطل المطر.
4- شاء الله فلم يهطل المطر.
 التفسير العلمي صحيح في (1) وخاطئ في (2)، في حين أنّ التفسير الديني صحيح في كلتا الحالتين، ذلك أن المشيئة في (3) تعني مشيئة الله في هطول المطر، وتعني في (4) مشيئة الله في عدم هطول المطر.
في البرامج الدينية، تكثر عبارات شَرطية من هذا القبيل "إذا فعلت كذا وكذا (س) من المرات في اليوم، فإن دعاءك مُستجاب"، ومثل هذه العبارات غير قابلة للتزييف، ذلك أنّ الدعوة غير المستجابة لا تشير إلى خلل في هذه الجملة الشرطية، بل إنّ الخلل يكمن في أنّ الداعي لم يقم بالدعاء على الوجه المطلوب، والوجه المطلوب ليس من الممكن معرفته إلاّ بعد أن يكون الدعاء مستجاباً! إنّ الأمر أشبه بعالم يقول "إنّ نظريتي صحيحة رغم كل التجارب التي أثبتت عدم صحتها"، وعندما يُسأل عن نوع التجربة التي يرضى بها لاختبار صحة نظريته، يجيب قائلا: "التجربة الوحيدة المناسبة هي تلك التي تثبت صحة نظريتي"!
لكن ما الضرر في الجمع بين التفسيرين العلمي والديني؟ لا ضرر ولا منفعة، فمن الناحية المعرفية الصرفة، لا يضيف التفسير الديني جديدا إلى الإضافة الابستمولوجية الحقيقية للتفسير العلمي، ولا يبقى لنا في هذه الحالة سوى أنّ نردّد مع "لابلاس" قائلين: لسنا في حاجة إلى تلك الفرضية!

الاثنين، 20 يوليو 2015

القراءة والحصانة

بالرغم من أنّ مجتمعنا يُعدّ من أعتى المجتمعات الاستهلاكية، فإننا مع ذلك قلّما نستهلك القراءة، ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّ القراءة أشبه بعادة غريبة على بيئتنا، ذلك أن القيم التي تتطلّبها القراءة تقف على النقيض من القيم التي رسّختها البيئة في نفوسنا، فالقراءة تتطلب صبراً تفضح شوارعنا المرورية فقرنا إليه، والقراءة تتطلّب خلوة تفضح مقاهينا الشعبية تبرّمنا بها، وإذا كنّا أشبه بالإغريق القدماء من حيث التمتّع بفائض الوقت الذي يتيحه لنا الأقنان والخدم، فإنّ الفرق كبير بين مَن استثمروا الوقت لإنتاج الفلسفة ومَن استثمروه لإنتاج الفسفسة، والفسفسة تعني الحماقة الشديدة، والصفة منها "فسفاس"، ولا يكاد يوم يمرّ إلّا ونلتقي بـ"فسفاس" عشرات المرّات في الشارع، أو في العمل، أو حتى في البيت من خلال التلفاز أو الهاتف النقّال، وإذا كانت الحماقة قد أعيت من يداويها، فإنّ لها دواء من دون شك، ودواؤها القراءة الجادة، ففي هذه حصانة عقلية ونفسية من داء الفسفسة الذي انتشر كما النار في هشيم هذا المجتمع الاستهلاكي بامتياز!
تجتاح مجتمعنا بين الحين والآخر حملات للتشجيع على القراءة، وهي تبدو أشبه بحملات الترويج لمنتج جديد، لكنها مع ذلك حملات غالبا ما تطرح السؤال الخطأ من قبيل "لماذا نقرأ؟"، وهو سؤال يفترض ضمنا أننا نقرأ، وواقع الأمر ينافي ذلك، كما أنه سؤال يهدف إلى تبيان "فوائد" القراءة، في حين أنّ مسألة القراءة في بيئتنا غير مرتبطة بجني الفائدة بقدر ارتباطها بتحقيق أقلّ قدر ممكن من الخسائر على مستويي العقل والروح، فعلى سبيل المثال، قد لا ترتبط قراءة "حوارات أفلاطون" بجني الفائدة بقدر ارتباطها بتطهير العقل من الحوارات السخيفة التي تسللّت إلى الأذن عن طريق المصادفة غير السارّة، وقد لا ترتبط قراءة "مدام بوفاري" بجني الفائدة بقدر ارتباطها بتصفية الروح مما لحق بها جرّاء مشاهدة برامج التحليل النفسي والوعظ الديني، بمعنى آخر، القراءة الجادة في بيئتنا ليست ترفاً، بل ضرورة، والضرورة هنا لا تنبع من رغبة طوباوية في النهوض بالمجتمع، بل من حاجة ماسة إلى الحفاظ على الذات، إنها أشبه بقطرة ماء في صحراء قاحلة، وأشبه بكسرة خبز في يوم ذي مسغبة، كما أنّ القراءة الجادة تعصم العقل من السذاجة، وترتقي بالروح عن المادة.  
قد تنجح حملات القراءة الموسمية في تسليط الضوء على أهمية القراءة، ولكن الشيء المؤكد هو أنّ مكتباتنا تشبه مقابرنا في وحشتها، ولهذا التشبيه مدّة صلاحية تنقضي بحلول ذلك اليوم الذي يضاهي فيه عدد مُرتادي المكتبات عدد مُرتادي المساجد، ومن يدري؟ لعلّ عدد الراغبين في حصانة العقل والروح معاً يضاهي يوماً ما عدد الراغبين في العتق من النار، وحينئذ– حينئذ فقط– من غير المستبعد أن يبرز السؤال الجاد والمتعلّق بمدى إمكانية الجمع بين الرغبتين.

الاثنين، 6 يوليو 2015

التعصّب الديني والسؤال الغائب

من الصعب معرفة ماذا كان يدور في عقل ذلك الشاب الانتحاري حينما شرع في تنفيذ جريمته الخسيسة، لكن– في المقابل– من السهل التكهن بنوع الأسئلة التي لم تخطر له على بال طوال حياته القصيرة، ولعلّ السؤال الأبرز هو: ماذا لو كنتُ مخطئا؟ السؤال بسيط في صياغته، إلّا أنّ مجرّد طرحه يتعارض مع عقلية التعصّب التي من شأنها التمسّك المستميت بآراء صارمة مهما يكن من ثمن، ولا ينبغي أن نخدع أنفسنا حول هذه النقطة على وجه الخصوص، فالتعصّب لا يقتصر على "الفئة الضالة" كما تصفهم وسائل الإعلام، بل إنه جزء من ثقافة أمّة ما زالت تؤمن بأنها خير أمم الأرض، ولا أقول ذلك من باب جلد الذات، إذْ لم يبقَ في ذواتنا مكان يصلح للجلد، لكني أكتفي بوصف واقع نعيشه ولا نريد أن نراه، الواقع الذي توارثناه جيلا بعد جيل رغم صخب المتغنّين بسماحة "الزمن الجميل"، فالسماحة لا تذهب إلى أبعد من مجرّد التعايش السلمي بين الفُرقاء، لكنها لا تزيل الفُرقة، والفُرقة ثمرة التعصّب، وهذا الأخير يستحيل اجتثاثه من جذوره من دون أن نتجرّأ على مواجهة السؤال الغائب عن حضارتنا طوال تاريخها: ماذا لو كنّا مخطئين من الألف إلى الياء؟
السؤال السابق سؤال افتراضي، وإحدى أهم وظائف الأسئلة الافتراضية هي مساعدتنا على التفكير خارج الصندوق كما يقولون، والتفكير خارج الصندوق بالنسبة إلى المتعصّبين مثل التنفّس خارج الماء بالنسبة إلى الأسماك، ولهذا فإنّ معالجة التطرّف يجب ألا تقتصر على تأليف النفوس وترويض القلوب، بل ينبغي أيضا تحرير العقول مما لحق بها من تلقين وتسليم وتهجين! تعلّمنا منذ نعومة أظفارنا أنّ الإنسان يولد مُسلما بالفطرة، وإنْ نشأ يهوديا أو نصرانيا فإنّ مردّ ذلك إلى أبويه اللذين هوّداه أو نصّراه، لكننا مع ذلك لا نترك أطفالنا وفطرتهم، بل نُؤَسْلمهم إلى أدقّ التفاصيل، فما يحقّ لنا لا يحقّ لغيرنا، وكلمة "غيرنا" هنا لا تشير فقط إلى الديانات الأخرى، بل تشمل أيضا كلّ الفرق المنحرفة عن "الإسلام الصحيح" والتي لم تسلك مثلنا طريق "الفطرة السليمة"!   
ما الذي يبرّر يقيني بأني على صواب؟ وما الذي يجعل ضميري مرتاحا في قصر عضوية "الإسلام الصحيح" على طائفتي دون الطوائف الأخرى؟ ثمّ ما الذي يجعلني واثقا من نفسي إلى هذا الحدّ؟ لا يبدو أنّ الإجابه عن كلّ هذه الأسئلة تكمن في الاستشهاد بالنصوص الدينية، فالطرف الآخر لديه أيضا ما يستشهد به، ولا يكفي القول إنّ استشهادي صحيح واستشهاد خصمي باطل، ذلك أنّ خصمي باستطاعته أيضا أن يلجأ إلى إجابة مماثلة، كما لا يكفي الإحالة إلى الشيخ الفلاني، لأنّ الطرف الآخر سيحيلني بدوره إلى السيد الفلاني! هل نتعارك؟ تعارك غيرُنا وما زالوا يتعاركون، فالمعركة الدينية لا تنتهي إلّا عندما يُقصي طرف الطرف الآخر، والعاطفة الدينية كفيلة باستمرار المعركة حتى تصل إلى هذه النهاية المأساوية، كيف لا وكلّ طرف يدّعي أنّ الله معه وأنّ الملائكة تقاتل إلى جانبه؟ من الواضح أننا لم نرث عن أسلافنا أفكارهم فحسب، بل ورثنا عنهم أيضا الفشل في حلّ نزاعاتنا بطرق سلمية!
لكن أين يكمن موضع النزاع؟ عندما يتخاصم الأطفال على ملكيّة الكرة أثناء اللعب، يأتي الأب الغاضب ليغرز سكينا في بطن الكرة ويئد الفتنة، لكن لسنا في حاجة إلى مثل هذا الحلّ الراديكالي لوأد التعصّب الديني، بل إنّ ما نحتاجه– في الوقت الراهن على الأقل– هو تعلّم الروح الرياضية في تمرير الكرة من طرف إلى آخر مع السماح لأولئك الذين لا يحبون لعب الكرة بالانسحاب من الملعب!