الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

المثقف وأعداؤه (2-2)

ليس هناك شيء أشد مضاضة على المثقف من سيف الرقابة، فالرقيب هو العدو اللدود لكل إنسان مخلص في بحثه عن الحقيقة، والرقابة بالنسبة للمثقف ليست مجرد مصادرة لرأي، بل هي مصادرة لجهد مخلص في الوصول إلى الحقيقة.
عندما يدلي المثقف برأيه حول أي قضية، فإنه يتوقع من الآخرين أن يفحصوا مدى صحة هذا الرأي، ذلك أنه مستعد دائماً أن يتعلّم من أخطائه، وهو مؤمن أيضاً بأن النقد الذي يأتيه من الآخرين يساهم إلى حد كبير في الانتقال خطوة إلى الأمام على طريق الحقيقة، خصوصاً إذا جاء هذا النقد من أناس حريصين مثله على تقصي الحقائق.
من هنا نستطيع أن نتلمّس خطر الرقابة، ليس بالنسبة للمثقف فحسب، بل بالقياس إلى المجتمع بجميع أفراده، وإذا كان المثقف يحمل رأياً خاطئاً، سلبت الرقابة منه الفرصة في تصويب هذا الرأي من خلال نقد الآخرين له، وإذا كان يحمل رأياً صائباً، سلبت الرقابة من الآخرين الحق في معرفة الحقيقة!
لكن هل نحن فعلاً مخلصون في بحثنا عن الحقيقة؟ طرحت هذا السؤال على أكثر من شخص. في المرة الأولى، طرحت السؤال على صديق مسيحي رأيته راكعاً أمام صليب في صلاته، فأجابني بكل ثقة: نعم! في المرة الثانية، طرحت السؤال نفسه على أحد الطلبة بينما كان يستعد لخوض أحد الاختبارات، فأجابني أيضا بكل ثقة: نعم! في المرة الأخيرة، سألت ناشطاً سياسياً: هل أنت مخلص في معرفة الحقيقة؟ فأجابني بصوت مرتفع: بكل تأكيد!
رغم ذلك، مازلت أشك في صدق الإجابة التي سمعتها منهم جميعاً! كل واحد منهم يدّعي الإخلاص في طلب الحقيقة، لكني لا أرى سوى صديق مسيحي يركع صاغراً لشيء لا يستطيع إثبات صحته، ولا أرى سوى طالب يجيب عن ورقة الاختبار بطريقة تضمن نجاحه ولا تعكس مدى إيمانه بحقيقة الإجابة، ولا أرى سوى ناشط سياسي يدين وزيراً قبل أن يحين موعد استجوابه!
ليس بالضرورة أن نكون جميعاً مخلصين في بحثنا عن الحقيقة، لكن لماذا نجعل من عدم الإخلاص ضرورة؟ ولماذا نقبل بوجود رقابة لا تساهم إلا في تفاقم آفة الإجماع على رأي واحد؟ نعم، ليس بالضرورة أن نكون جميعاً مخلصين في الوصول إلى الحقيقة، لكن لماذا نضع العراقيل في طريق أولئك الذين تهمهم معرفة الحقيقة؟ ولماذا نخفق دائماً في أن نكون متسامحين مع أولئك الذين قد لا تعجبنا آراؤهم؟ هل يستقيم إيماننا الواثق بصحة آرائنا مع حرصنا على حجب الآراء المغايرة؟ ألا يشي مثل هذا الحرص بأننا في حقيقة الأمر غير واثقين من صحة آرائنا؟!

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

المثقف وأعداؤه 1

من المثقف؟ و ماذا يريد؟ ومن أعداؤه؟ سأحاول من خلال هذا المقال والذي يليه أن أجيب عن هذه الأسئلة، لكن ينبغي التأكيد أولاً على أن ما يلي لا يعبّر سوى عن رأي شخصي، كما ينبغي التأكيد ثانياً على أني سأبذل قصارى جهدي في اجتناب المصطلحات الشائكة واعتماد لغة مبسّطة ويسيرة، فعلى غير عادتي، أجد نفسي هذه المرّة حريصاً على مخاطبة أكبر عدد من القرّاء حول هذا الموضوع!
المثقف إنسان مخلص في بحثه عن الحقيقة، ولهذا الإخلاص في طلب الحقيقة أوجه كثيرة، منها مثلاً:
1- الحرص الشديد على التماس المعلومة من مصادر مختلفة (هنا يأتي دور القراءة كأداة ضرورية لكل مثقف).
2- الرغبة الصادقة في فحص الوقائع على أساس عقلي محض (وهنا يكمن السبب في استحالة العثور على مثقف بين صفوف المتعصبين لأي إيديولوجية).
3- النزاهة في عرض النتائج التي يتم التوصل إليها بعد عملية البحث (وهنا يكمن السبب في استحالة أن يكون للمثقف طموح سياسي، أو أن يكون قريباً من السلطة بجميع أنواعها!).
لكن أبرز سمة من سمات المثقف هي التواضع، فهو لا يدّعي امتلاك الحقيقة، ولا يزعم أن رأيه غير قابل للخطأ، ولا يستنكف من التعلّم من أخطائه. لهذا السبب يميل المثقف إلى نقد الذات والاستفادة من نقد الآخرين لآرائه، فهو يؤمن بأن النقاش البنّاء يوفر الأرضية المناسبة لتلاقح الأفكار، وثمرة هذا التلاقح هي خطوة إلى الأمام على طريق الوصول إلى الحقيقة.
إلى جانب الوصول إلى الحقيقة، ماذا يريد المثقف؟ لا يريد أكثر من تذليل العقبات أمامه كي يقوم بواجبه، فحرصه الشديد على القراءة والبحث يستدعي منّا أن نتيح له سهولة الحصول على المعلومة، ورغبته الصادقة في نقد الوقائع بأسلوب علمي يتطلب منّا أن نمنحه الحق في حرية التفكير، ونزاهته في عرض ما توصل إليه من نتائج يحتم علينا الاعتراف بحقه في حرية التعبير. هل هذا كثير؟ إطلاقاً، لكن أعداء المثقف لهم رأي مغاير!
هناك من يحاول أن يثبّط من عزيمة المثقف حتى قبل أن يبدأ في مهمته، فبعضهم يزعم أن المثقف يبحث عن سراب، فلا وجود لحقيقة موضوعية، وكل ما هنالك مجرد حقائق نسبية، تختلف باختلاف الظروف والأزمان! البعض الآخر يذهب إلى أبعد من ذلك، فهو ينكر وجود المثقف ذاته بعد أن أصدر شهادة وفاته، وهذا ما نراه من خلال شعارات برّاقة مثل 'موت المثقف'، وهي شعارات خاوية لا تدل على شيء ذي قيمة حقيقية!
تلجأ السلطة عادة إلى 'البروباغندا' لتسويق نظرتها الخاصة حول أي قضية، وإذا كان القارئ يشكّك في ما أقول، فبوسعه أن يتابع أخبار الحرب الدائرة في اليمن من خلال الاستماع إلى إذاعات دول الخليج، أو قراءة 'فوائد الخصخصة' في الصحفات الاقتصادية لصحافتنا المحلية! في ظل تسويق النظرة الأحادية وتشويه الوقائع، تصبح مهمة المثقف عسيرة وشاقة، فالبحث عن مصدر آخر لتقصي الحقائق قد لا يتوافر بسهولة، وإذا توافر المصدر فقد لا تتوافر أدوات البحث.
عندما يبذل المثقف وقته وجهده في البحث وتقصي الحقائق، وعندما ينجح في تشكيل رأي متوازن حول قضية معينة، ينتهي به الأمر إلى مواجهة ألد أعدائه وأكثرهم شراسة! من عساه أن يكون هذا العدو اللدود؟
يتبع،،،