الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

مشروع التنوير والعالم العربي (2)

لم يشهد العالم العربي طوال تاريخه ميلاد مشروع تنوير على غرار المشروع الغربي، فبينما شهد القرن الثامن عشر سيادة المنهج العلمي وتأثيره الكبير على ميادين المعرفة بأشكالها كافة، ما زالت أنماط التفكير البدائية هي السائدة في العالم العربي، وبينما عمدت الطبقة الوسطى الأوروبية إلى توظيف المنهج العلمي لخدمة مصالحها، وجدت الطبقة الوسطى االعربية في التحالف مع النظام الكولونيالي تحقيقا لمصالحها الطبقية.

 بالغ الكثير من الباحثين في تضخيم أثر الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن الثامن عشر، ومنهم من رأى في هذا التلاقي بين الغرب المتقدم والشرق المتخلف "صدمة حضارية"، لكن الواقع يشير إلى أنّ الصدمة لم تكن حضارية بالمعنى العميق لكلمة "حضارة"، ذلك أنّ الانبهار بالتكنولوجيا الغربية لم تصاحبه محاولة جادّة إلى ترسيخ المنهج العلمي الذي لم تكن التكنولوجيا سوى ثمرة من ثماره، كما أنّ الفرصة التي أتيحت لبعض روّاد الثقافة العربية في الاطلاع على الفكر الغربي لم تسفر سوى عن اجتهادت فردية حاولت استنساخ اجتهادات فلاسفة الغرب في فك الارتباط بين الدين وميادين المعرفة.
حاول الإمام محمد عبده في كتابه "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" إتاحة مساحة أكبر لحرية البحث العلمي بعيدا عن الوصاية الدينية، وحاول قاسم أمين من خلال "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" إتاحة مساحة أكبر لإرادة الأنثى بعيدا عن الإرادة الذكورية، وحاول علي عبدالرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" إتاحة الفرصة لإمكانية وجود عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم بعيدا عن مفهوم الخلافة الإسلامية، كما حاول غيرهم فكّ الارتباط بين تقديس الدين من جهة وتقديس اللغة والأدب من جهة أخرى، كمثل الدعوة التي أطلقها محمد لطفي السيد إلى تبني اللغة العامية، ومشاكسات طه حسين مع الشعر الجاهلي.
هناك فرق كبير بين بيئة تشبّعت بأصول المنهج العلمي وأخرى اكتفت بالتطفّل على ثمار ذلك المنهج، ولهذا نجح "بيكون" و"ديكارت" في فكّ الارتباط بين الدين والعلم في حين لم تنجح محاولات "محمد عبده" و"سلامة موسى" في مجرّد تشجيع البحث العلمي، ونجح "هوبز" و"لوك" و"روسو" في تأسيس نظرية العقد الاجتماعي في حين لم تنجح محاولات "رفاعة الطهطاوي" و"علي عبدالرازق" في مجرّد إقناع الرأي العام بأهمية وجود صيغة وضعية توافقية بين أفراد المجتمع الواحد، ونجح "كانط" في وأد التفسير الحرفي للدين المسيحي في حين لم تنجح محاولات العديد من الباحثين العرب في مجرّد التخفيف من سيادة التفسير الحرفي للدين الإسلامي.
العالم العربي أشبه بغرفة مظلمة تملؤها الفوضى، وقد يغمر النور أرجاء الغرفة بضغطة واحدة على زر المصباح، لكن النور لا يكفي لإعادة ترتيب الغرفة.

الاثنين، 26 أكتوبر 2015

مشروع التنوير والعالم العربي (1-2)


كثيرة هي الأدبيات التي تتحدّث عن "التنوير العربي" بوصفه مشروعا لم يحالفه النجاح، وفي ظني أنّ في هذا الوصف إجحافاً بحقّ هذا المشروع، ليس لأنّه مشروع نال نصيبا من النجاح في عالمنا العربي، بل لأنه مشروع لم يبدأ كي نحكم عليه بالنجاح أو الفشل، وهذه هي القضية الأساسية التي نريد الدفاع عنها من خلال هذا المقال، لكن ينبغي لنا أولا أن نقف عند مفهوم التنوير بوصفه حقبة تاريخية من جهة، وبوصفه حركة فلسفية من جهة أخرى، وذلك بغرض الوقوف على أهم العوامل التي ساهمت في نشأة "التنوير" في الغرب المسيحي.

التنوير بوصفه فصلا من فصول التاريخ الغربي يشير إلى حقبة تاريخية امتدّت من منتصف القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، وهي من أكثر الحقب التاريخية التي شهدت صخباً كبيراً من جرّاء قيام الثورات الإنكليزية (1688) والأميركية (1775) والفرنسية (1789)، وأمّا التنوير بوصفه فصلا من فصول الفلسفة الغربية فيشير إلى حركة فلسفية استفادت من أهم مذهبين من مذاهب الفلسفة الغربية، المذهب العقلاني الذي حمل رايته ديكارت وسبينوزا ولايبنز وغيرهم، والتيار التجريبي الذي حمل رايته بيكون ولوك ونيوتن وغيرهم.


لم يكن التنوير الأوروبي حدثا لحظيا، بل جاء بعد مخاض عسير أدى تدريجيا إلى تحرير ميادين المعرفة من قبضة الرؤية المسيحية للعالم، فنجاح الثورة العلمية لم يساهم في تحرير العلوم الطبيعية من الدين وحسب، بل شجّع أيضا على علمنة ميادين السياسة والأخلاق وغيرهما من العلوم الاجتماعية، وبذلك يكون التنوير بمنزلة انقلاب على الموقف القروسطي المتشائم واللاعقلاني واستبداله بموقف أكثر تفاؤلا وعقلانية، وقد ساهم المنهج العلمي في هذا الانقلاب الفكري الكبير، فبفضل هذا المنهج تراجع التفسير الخُرافي لصالح التفسير العلمي في فهم الطبيعة وقوانينها، وبفضل هذا المنهج أقيمت نظرية "العقد الاجتماعي" على أنقاض نظرية "الحق الإلهي للملوك"، وبفضل هذا المنهج أصبح المعيار الأخلاقي محكوما بعلاقة أفقية بين الإنسان وأخيه الإنسان بعد أن كان محكوما بعلاقة رأسية بين الأرض والسماء.

بطبيعة الحال، لم يكن المنهج العلمي لينجح في الانتقال بالإنسان من الظلمات إلى النور لولا توافر ظروف موضوعية ساهمت بشكل مباشر في تبلور عصر التنوير، لعلّ من أهمها بروز طبقة وسطى واعية بحقيقة التغيرات التاريخية وبطبيعة مصالحها الطبقية، بحيث وجدت في أطروحات التنوير تعبيرا عن طموحاتها السياسية في مقابل طبقة أرستقراطية طفيلية، وتجسيدا لطموحاتها الاقتصادية ضد نظام إقطاعي متهالك، وتنفيسا عن طموحاتها الفردية ضدّ نظام ملكي-لاهوتي متسلّط. 
  
 على ضوء ما تقدّم، يُصبح الحديث عن وجود "مشروع تنوير" في العالم العربي مرتبطا بمدى تحقّق عاملين اثنين على الأقل: سيادة المنهج العلمي بحيث يشمل مناحي الحياة كافة، وتوافق مصالح الطبقة الوسطى مع القيم المعرفية والأخلاقية لهذا المنهج، فهل بمقدورنا الزعم بتحقق هذين العاملين في العالم العربي طوال تاريخه الحديث؟
يتبع،،،

الاثنين، 12 أكتوبر 2015

المحايدون

يختار المحايدون "المشي تحت الساس"، كما نقول بالعامية، أو "المشي جنب الحيط"، كما يقول إخواننا المصريون، وهم اختاروا هذه المشية طلباً للسلامة حيناً، وطمعاً في الفائدة أحيانا كثيرة، وقبل التطرّق إلى بعض ملامح الشخصية المحايدة، ينبغي الوقوف عند اختلاف دقيق بين مفهوم "الحِياد" ومفهوم "عدم الانحياز"، خصوصا أنّ الخلط بين المفهومين يوشك أن يكون ظاهرة منتشرة على نطاق واسع.
الحِياد يعني رفض اتخاذ موقف من قضية معينة، في حين أنّ عدم الانحياز يعني رفض الوقوف مع طرف ضد آخر حول قضية معينة، وعلى ضوء هذين التعريفين بإمكاننا أن نلاحظ وجهين من أوجه الاختلاف بين المفهومين: أولا، الحياد مرتبط بموضوع الصراع حول قضية معينة، في حين أن عدم الانحياز مرتبط بأطراف الصراع، وثانيا، الحياد حالة خاصة من عدم الانحياز، أي أنّ الأول يقتضي الثاني من الناحية المنطقية، فعدم اتخاذ موقف من قضية معينة يعني بالضرورة عدم الوقوف مع طرف ضد آخر، ولكن العكس غير صحيح، أي أنّ عدم الانحياز لا يقتضي الحياد، ذلك أنّ عدم الانحياز إلى طرف ضد آخر في قضية معينة لا يعني بالضرورة عدم اتخاذ موقف أصيل من تلك القضية، ومن هنا تكون العلاقة بين المفهومين أشبه بعلاقة المربع بالمستطيل، فمثلما أنّ كل مربع هو مستطيل، والعكس غير صحيح، فإنّ كل حياد هو عدم انحياز، والعكس غير صحيح كذلك.
يمتاز المحايدون بندرة خصومهم، فالخصومة تنتج من مواقف متباينة، والمحايدون لا موقف لهم، وبالتالي لا خصوم لهم، ومع الاعتراف بأنّ المحايدين هم أقل الأفراد جلباً للضرر لمجتمعاتهم، فإنهم أقلّ الأفراد جلباً للنفع أيضا، وهذا ما يجعلهم غير مؤثرين في مجرى الأحداث من حولهم، فالتاريخ يصنعه الأخيار والأشرار معاً، وأمّا المحايدون فيفضّلون البقاء على هامش التاريخ، كما أنّ المجتمعات يبنيها المصلحون ويهدمها المفسدون، وأمّا المحايدون فغايتهم التأقلم مع شتى الظروف مع إخلاء مسؤوليتهم عنها.
لا حِياد في الأخلاق، ومع ذلك، يُظهر المحايدون براعة في إمساك العصا الأخلاقية من المنتصف، فَهُم ليسوا مع الحق وليسوا مع الباطل، ولا هُم منضوون تحت لواء العدل، ولا هُم قابعون تحت لواء الظلم، كما أنّ الصمت هو خيارهم المفضّل عندما يجدون أنفسهم محاصرين بين خيار الصدق وخيار الكذب، وإذا كان هناك من بين المحايدين مَن يتوارى خجلا بعد اقترافه رذيلة اللاموقف، فإنّ منهم أيضا مَن لا يستحي من التباهي بحقيقة أنّ الرّاقصين وحدهم هُم أقدر الناس على إمساك العصا من المنتصف.  
"أنا مُحايد"، هذا ما ينطق به الجبان الخجول عندما تُطلب منه شهادته على أمر رآه بعينيه أو سمعه بأذنيه، فهو لا يملك شجاعة الصدق ليقول "نعم"، ولا يملك وقاحة الكذب ليقول "لا"!

الاثنين، 5 أكتوبر 2015

إجهاض الثورات العربية

إمّا حرب أهلية وإمّا عودة إلى المربع الأول، هذان هما المسلكان– على ما يبدو– اللذان يشكلان ما آلت إليه الثورات العربية في السنوات الأخيرة، فالحروب الطاحنة جلبت الدمار لليمن وليبيا وسورية وأجزاء من العراق، وأما مصر وتونس فيبدو أن الأوضاع الداخلية فيها تسير باتجاه العودة إلى الأجواء السائدة في الحقبة الدكتاتورية السابقة، ولعلّ من المبكر جدا توجيه إصبع الاتهام إلى مَن يقفون وراء إجهاض الثورات العربية، لكن من العسير أيضا أن نعفي أطرافا ثلاثة من مسؤولياتهم عن وأد أحلام "الربيع العربي".
أول هذه الأطراف يشير إلى الدول العظمى التي انتهجت سياسة براغماتية في تعاملها مع شؤون الشرق الأوسط بشكل عام، ومع تطورات الثورات العربية بشكل خاص، ولعلّ أخطر ما يميز البراغماتية السياسية هو حرصها على اتخاذ قرارات تتيح جني فوائد آنية من دون أدنى اكتراث للتبعات الجسيمة التي قد تنتج عن تلك القرارات، كما أنّ أبشع ما يميّز البراغماتية السياسية هو استخفافها بمبدأ الاتساق في الموقف، وبالتالي خلوّها من أي بُعد أخلاقي في التعامل مع القضايا الإنسانية، ولعل النجاح المنقطع النظير للبراغماتية في ميدان السياسة هو المسؤول عن اختزال هذا الميدان في مسألة تحقيق "المصالح المشتركة"!
ثاني الأطراف المسؤولة عن إجهاض الثورات العربية يشير إلى دول مؤثرة في المنطقة، وتأثير بعض هذه الدول ناتج عن وفرة مادية أتاحتها موارد طبيعية، وعن مرجعية دينية أتاحتها ظروف تاريخية، وقد رمت هذه الدول الثيوقراطية بكل ثقلها المادّي في سبيل إجهاض الحلم العربي والمتمثل بشعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ونظرا للتحالف الاستراتيجي لهذه الدول مع الغرب البراغماتي، فإنّ سياساتها لا تقلّ براغماتية عن سياسات الدول العظمى، فشعار "حق الشعوب في تقرير مصيرها" يُرفع جنبا إلى جنب مع شعار "حق الشرعية السياسية في الدفاع عن استقرار مجتمعاتها"!
يبقى الطرف الثالث والمسؤول عن إجهاض ثورات الشعوب العربية، ونعني به الإسلام السياسي المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين وجميع الحركات الجهادية التي خرجت من عباءتها، وهنا تحديدا تتجسّد البراغماتية بأشنع صورها، وأعني بها الميكيافيلية التي تقف وراء تعاطي "الجماعة" مع الثورات العربية منذ اندلاعها حتى وقتنا الراهن، ومن مظاهر هذه الميكيافيلية ما شهدناه من تردد "الجماعة" في اتخاذ قرار المشاركة في الثورة المصرية فور قيامها، وهو التردد الذي تفضحه البيانات الصادرة عنها في الأيام الأولى من الثورة، والتي لم تتجرّأ فيها على مجرد الإشارة إلى كلمة "ثورة"، ولم يكن نهج "الجماعة" مختلفا في تونس واليمن وغيرهما، فقرار ركوب الموجة الثورية كان يأتي دائما بعد أولى بوادر خروج الحلقة الأضعف من الصراع، والميكيافيلية الإخوانية لا تقف عند هذا الحدّ، فقد شهدناها في موقف "الجماعة" من الحرب على اليمن، وشهدناها في موقف بعض الدول المتحالفة مع "الجماعة" من الثورة السورية، ونشهدها حاليا من خلال الدعوات إلى "الجهاد" في سورية بعد استهداف الحركات الجهادية المحسوبة على "الإخوان" من قبل القوات الروسية، فلا شيء يستطيع أن يكبح جماح هذه الميكيافيلية المتعطشة إلى السلطة حتى إنْ أريقت دونها دماء الملايين من البشر، وحتى لو تطلّب الأمر استنساخ النموذج الأفغاني وإعادة إحياء أدبيات "كرامات المجاهدين".
لا نجاح لأيّ ثورة عربية من دون قيام ثورات مادية في الغرب، وأخرى فكرية في الشرق، فالأولى من شأنها أن تعصف بالأسس الاقتصادية للدول العظمى وتعيد للغرب إنسانيته، والثانية من شأنها أن تعصف بالأسس الأيديولوجية لدول المنطقة وتعيد إلى الشرق حِكمته.