الاثنين، 12 أكتوبر 2015

المحايدون

يختار المحايدون "المشي تحت الساس"، كما نقول بالعامية، أو "المشي جنب الحيط"، كما يقول إخواننا المصريون، وهم اختاروا هذه المشية طلباً للسلامة حيناً، وطمعاً في الفائدة أحيانا كثيرة، وقبل التطرّق إلى بعض ملامح الشخصية المحايدة، ينبغي الوقوف عند اختلاف دقيق بين مفهوم "الحِياد" ومفهوم "عدم الانحياز"، خصوصا أنّ الخلط بين المفهومين يوشك أن يكون ظاهرة منتشرة على نطاق واسع.
الحِياد يعني رفض اتخاذ موقف من قضية معينة، في حين أنّ عدم الانحياز يعني رفض الوقوف مع طرف ضد آخر حول قضية معينة، وعلى ضوء هذين التعريفين بإمكاننا أن نلاحظ وجهين من أوجه الاختلاف بين المفهومين: أولا، الحياد مرتبط بموضوع الصراع حول قضية معينة، في حين أن عدم الانحياز مرتبط بأطراف الصراع، وثانيا، الحياد حالة خاصة من عدم الانحياز، أي أنّ الأول يقتضي الثاني من الناحية المنطقية، فعدم اتخاذ موقف من قضية معينة يعني بالضرورة عدم الوقوف مع طرف ضد آخر، ولكن العكس غير صحيح، أي أنّ عدم الانحياز لا يقتضي الحياد، ذلك أنّ عدم الانحياز إلى طرف ضد آخر في قضية معينة لا يعني بالضرورة عدم اتخاذ موقف أصيل من تلك القضية، ومن هنا تكون العلاقة بين المفهومين أشبه بعلاقة المربع بالمستطيل، فمثلما أنّ كل مربع هو مستطيل، والعكس غير صحيح، فإنّ كل حياد هو عدم انحياز، والعكس غير صحيح كذلك.
يمتاز المحايدون بندرة خصومهم، فالخصومة تنتج من مواقف متباينة، والمحايدون لا موقف لهم، وبالتالي لا خصوم لهم، ومع الاعتراف بأنّ المحايدين هم أقل الأفراد جلباً للضرر لمجتمعاتهم، فإنهم أقلّ الأفراد جلباً للنفع أيضا، وهذا ما يجعلهم غير مؤثرين في مجرى الأحداث من حولهم، فالتاريخ يصنعه الأخيار والأشرار معاً، وأمّا المحايدون فيفضّلون البقاء على هامش التاريخ، كما أنّ المجتمعات يبنيها المصلحون ويهدمها المفسدون، وأمّا المحايدون فغايتهم التأقلم مع شتى الظروف مع إخلاء مسؤوليتهم عنها.
لا حِياد في الأخلاق، ومع ذلك، يُظهر المحايدون براعة في إمساك العصا الأخلاقية من المنتصف، فَهُم ليسوا مع الحق وليسوا مع الباطل، ولا هُم منضوون تحت لواء العدل، ولا هُم قابعون تحت لواء الظلم، كما أنّ الصمت هو خيارهم المفضّل عندما يجدون أنفسهم محاصرين بين خيار الصدق وخيار الكذب، وإذا كان هناك من بين المحايدين مَن يتوارى خجلا بعد اقترافه رذيلة اللاموقف، فإنّ منهم أيضا مَن لا يستحي من التباهي بحقيقة أنّ الرّاقصين وحدهم هُم أقدر الناس على إمساك العصا من المنتصف.  
"أنا مُحايد"، هذا ما ينطق به الجبان الخجول عندما تُطلب منه شهادته على أمر رآه بعينيه أو سمعه بأذنيه، فهو لا يملك شجاعة الصدق ليقول "نعم"، ولا يملك وقاحة الكذب ليقول "لا"!

ليست هناك تعليقات: