الاثنين، 8 فبراير 2016

مفارقة الديمقراطية الحديثة


الديمقراطية هي حُكم الأكثرية، والأوليغارشية هي حُكم الأقلية، وكلتاهما من أسوأ أنواع نُظم الحُكم السياسي حسب التصنيف الشهير الذي وضعه أرسطو، فالديمقراطية تضمن سيادة إرادة الأغلبية على حساب إرادة الأقلية، والأوليغارشية تضمن العكس، كما أنّ الاختلاف بينهما اختلاف مادّي في جوهره، فعادة ما تكون الأغلبية فقيرة والأقلية ثرية، ولهذا يشبّه أرسطو الفرق بين الديمقراطية والأوليغارشية بالفرق بين حُكم الفقراء وحُكم الأغنياء.
لكن لو قُدّر لأرسطو أن يُبعث من قبره ليرى ما آلت إليه أشكال الحُكم في عصرنا الحديث، فإنه، على الأرجح، سيقف حائراً أمام مفارقة الديمقراطية الحديثة، حيث تُوّظف إرادة الأكثرية لمصلحة إرادة الأقلية، وحيث تحكم الأغلبية قولاً وتحكم الأقلية فعلاً، وحيث يحكم الفقراء من حيث الشكل ويحكم الأغنياء من حيث المضمون، وإذا كان "الحِمار" هو رمز الديمقراطية الحديثة على الطريقة الأميركية، فإنّ الصيت الذي حققته هذه الديمقراطية يضاهي الصيت الذي حققه "الحِمار الذهبي" في القرون الوسطى!
الديمقراطية محمودة لأنها تتيح للجميع المشاركة في اتخاذ القرار السياسي، ولكنّ أرسطو يذكّرنا بنقطة في غاية الأهمية، وهي أنّ المساواة الحقيقية غير مرتبطة بعدد متخذي القرار، بل هي متعلّقة بنتيجة هذا القرار، فما قيمة أن يُتيح الأسد للحمار المشاركة في التصويت على قرار افتراسه كوجبة طعام؟
بعد الحرب العالمية الثانية، نجحت دولٌ كبرى في الحدّ من دكتاتورية الأغلبية من خلال دساتير تضمن عدم التعدّي على حقوق الأقلية، ولكن يبدو أنّ من ضمن حقوق الأقلية حقّ استعباد الأغلبية، وإلّا ما معنى أن تتحوّل الديمقراطية إلى بلوتوقراطية، حيث يكمن الحُكم الفعلي في أيدي أقلية ثريّة؟ وما قيمة أن تبرأ الديمقراطية من دكتاتورية الأغلبية إذا لم تبرأ بعدُ من دكتاتورية البرجوازية؟
في الديمقراطيات الحديثة تتجلّى البلوتوقراطية بصور مختلفة، منها ما هو واضح مثل التناقض الشديد بين نتائج الاستطلاعات العامة ومسار السياسات الحكومية، والارتباط الوثيق بين إمبراطوريّات المال ومراكز السلطة، ومنها ما هو أقلّ وضوحاً مثل الميل إلى تقليص نطاق الديمقراطية بعد أنْ توسّعت قاعدتها، أو بعبارة أخرى، تقليص عدد الموضوعات التي كانت تخضع إلى القرار الديمقراطي بعد أنْ زاد عدد المشاركين في اتخاذ هذا القرار، وليست مصادفة أن تشهد حقبة الثمانينيات أوج سياسات الخصخصة بعد أن شهدت حقبة السبعينيات نمو الديمقراطية في جنوب أوروبا ومعظم أرجاء أميركا اللاتينية. على مستوى العلاقات الدولية، تتجلّى البلوتوقراطية بأبشع صورها من خلال "الثالوث غير المقدّس" الذي يشير إلى مؤسسات "بريتون وودز"، وهي مؤسسات تحوّلت إلى أندية للدول الغنية ومقابر للدول الفقيرة، وبفضلها أضحت النزعة الإقطاعية البغيضة متجددة وعابرة للقارات، فكم من دول فقدت سيادتها بعد أن دفعتها الحاجة إلى طرق أبواب "صندوق النقد الدولي"، حيث لا قروض من دون شروط، وهي شروط تفوق في جشعها وخِسّتها شرط "شايلوك" في مسرحية "تاجر البندقية"!  
"توماس هوبز"، نصير الملكية البريطانية، كان يؤمن أنّ مشاركة الشعب في الحُكم تنتهي في اللحظة التي يختار فيها مَن يحكمه، وهذا هو واقع الحال في ظلّ الديمقراطية الحديثة التي تضاءلت إلى مستوى "الأعراس الديمقراطية" الموسمية.