الأربعاء، 23 ديسمبر 2009

أو أن يحل مجلس الأمة

كل الأحداث الموضوعية المهمة تعقبها عادة أحداث مفتعلة وهامشية، وهذا تكنيك قديم تلجأ إليه السلطة السياسية لصرف الأنظار عمّا هو جوهري وإشغال الرأي العام بأمور ثانوية. شهدت الحياة السياسية في الآونة الأخيرة تداعيات استجواب سمو رئيس مجلس الوزراء، وبالرغم من اتفاق الجميع على أهمية هذا التطور السياسي بوصفه حدثا سياسيا غير مسبوق في تاريخ الحياة البرلمانية، فإن الأغلبية العظمى- مع الأسف الشديد- مازالت منشغلة بأمور جانبية وصراعات رجعية، والضوضاء مازالت تملأ المكان، فبين مسيرة مبتذلة على ساحل البحر احتفالا بانتصار مزعوم، قادها أناس لا يخجلون من تملّق السلطة، وبين مسيرة غاضبة على الدائري الخامس احتجاجا على قضية مفتعلة واستفزازية، ساهم فيها أناس لا يتورعون عن التكسب الانتخابي الرخيص، ضاعت الفرصة في محاولة التفكير بهدوء في أهم حدث سياسي في تاريخ الكويت. هذا المقال عبارة عن دعوة إلى الهدوء والرجوع من جديد إلى موضوع الاستجواب.
عبّر المستشار شفيق إمام في مقال له هنا في «الجريدة» عن دهشته من «تقديم ثلاثة استجوابات إلى ثلاثة من الوزراء، بعد أن قُدّم الاستجواب الموجه من النائب فيصل المسلم إلى سمو رئيس مجلس الوزراء»، وبيّن المستشار الفاضل سبب دهشته بقوله: إن «الملاءمات الدستورية كانت تقتضي، بعد تقديم استجواب إلى رئيس مجلس الوزراء، أن يتريث النواب الذين قدموا استجواباتهم إلى الوزراء الثلاثة، حتى ينتهي مجلس الأمة من نظر الاستجواب الموجه إلى رئيس مجلس الوزراء ومناقشته وإصدار قراره فيه». في ظنّي أن دهشة المستشار الفاضل ستختفي من تلقاء نفسها لو علِم أن الملاءمات «الانتخابية» تقتضي أيضا أن يتسابق بعض النوّاب في تقديم الاستجوابات حينما يتم التلويح بورقة حلّ المجلس، وهو خيار مفتوح نصّت عليه المادة (102) من الدستور.
هذا الخيار المفتوح في حلّ المجلس يقف أيضا وراء أحداث أخرى صاحبت استجواب رئيس الحكومة، منها توقيع عريضة من قبل أكثر من ثلاثين نائبا للتأكيد على الرفض المسبق لطلب عدم إمكان التعاون مع رئيس مجلس الوزراء، ونجاح الحكومة في الحصول على أغلبية برلمانية مريحة في التصويت على طلب عدم التعاون مع رئيس الحكومة. هذا يعني أن شبح حلّ المجلس يفرز ظاهرتين متنافرتين: الأولى، هي التصادم غير الموضوعي مع الحكومة لزيادة فرصة النجاح في الانتخابات التي تعقب الحلّ الدستوري، والثانية، هي التضامن غير الموضوعي مع الحكومة لضمان استمرار المجلس وعدم الرجوع من جديد إلى صناديق الاقتراع.
لست أدري ما إذا كان النائب الفاضل «علي الراشد» مستمرّا في تشاؤمه من فرصة بقاء مجلس الأمة الحالي، ولكن من الصعب إنكار دور النائب الفاضل في حشد أغلبية برلمانية مريحة في صف الحكومة من خلال التصريحات المتشائمة والمكررة التي أدلى بها حول مصير المجلس طوال الفترة التي سبقت موعد الاستجواب! يشتكي النائب الراشد من التعسف النيابي في استخدام أداة الاستجواب، لكن ألا يحق لنا أيضا كشعب أن نشتكي من التعسف النيابي-الحكومي في استخدام المادة (102) للتخويف من شبح حلّ المجلس؟
هناك حلّ بسيط للقضاء على ممارسة التعسف من كلا الجانبين، وهو أن يتم إعادة النظر في المادة (102) من الدستور، وتحديداً في الفقرة التي تقول: «أو أن يحل مجلس الأمة». إذا استمرّت هذه المادة بشكلها الحالي، فإن الحكومة ستظل دوما على موعد مع تصادم مفتعل من جهة، وتضامن مبتذل من جهة أخرى!

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

هل تنجح مناورة علي الراشد؟

إذا صرفنا النظر عن التفاصيل التافهة للمواجهات الأخيرة بين البرلمان والحكومة، فإن من العدل القول إن هناك مؤشرات إيجابية على وجود حراك سياسي غير مسبوق في تاريخ الكويت، بدءاً من وجود حملة شعبية تطالب برحيل رئيس الحكومة، مروراً بصعود الرئيس إلى منصة الاستجواب، وانتهاءً بتقديم مجموعة من أعضاء البرلمان لكتاب 'عدم التعاون' مع رئيس مجلس الوزراء.
الاستفادة المثلى من هذا الحراك السياسي تتطلب جهداً شعبياً إضافياً في اتجاه تفعيل المادة (175) من الدستور لاستكمال الممارسة الديمقراطية، وهذا يعني تعديلاً للدستور في اتجاه توسيع سلطة البرلمان وتقليص سلطة الحكومة، والمطالبة الجادة برئيس وزراء شعبي غير محصن اجتماعياً من المساءلة السياسية العلنية، وإعادة النظر في المادة (102) من الدستور لما تتضمنه من إجحاف في حق الشعب وممثليه، فهي تطرح خياراً مفتوحاً لمعاقبة أعضاء البرلمان من خلال حل المجلس في حال قرر أعضاء البرلمان عدم التعاون مع رئيس الوزراء!
على ضوء ما تقدم، لا يمكنني فهم التصريحات الأخيرة للنائب الفاضل علي الراشد إلا بوصفها مجرد مناورة لتفويت الفرصة في استكمال الممارسة الديمقراطية، فالنائب المحترم يسير في الاتجاه المضاد بشكل واضح، وهو يكرر محاولات قديمة لتقليص سلطة الشعب وتوسيع سلطة القصر، ومن ضمن تلك المحاولات ما ذكره الأستاذ 'عبدالله بشارة' في إحدى الصحف المحلية قبل بضع سنوات، حيث قال إن 'الدستور وفّر للنظام الشرعية التاريخية لكن لم يوفر له الأغلبية التي تسانده في الحكم'، فحسب رأيه مأزق الحكم يكمن في أن الحكومة لا تمتلك الأغلبية البرلمانية التي تؤمّن لها حق التشريع!
قد نلتمس العذر للأستاذ 'عبدالله بشارة' لأسباب عديدة، لكن ما عذر النائب المحترم علي الراشد في ترديد مثل هذه المغالطات؟ إذا أرادت الحكومة أن تكون لها أغلبية برلمانية فعليها أولا أن تسلك الطريق الذي سلكه أعضاء البرلمان للوصول إلى البرلمان! بمعنى آخر أكثر وضوحا، إذا أرادت الحكومة أن تتمتع بأغلبية نيابية، فعليها أولا أن تقبل بشرط اختيارها من قبل الشعب مثلما هي الحال مع أعضاء البرلمان. ثم ما حاجة الحكومة إلى أغلبية برلمانية، وهي التي دأبت على تمرير مشاريعها من خلال أقلية برلمانية منتخبة لا تتجاوز السبعة عشر عضواً؟! لكن يبدو أن هذا لا يكفي في نظر السيد علي الراشد، فهو يرغب في مضاعفة تراكم السلطة السياسية لدى الحكومة عن طريق مطالبته السماح بتصويت الوزراء على موضوع طرح الثقة بأحد الوزراء أو موضوع عدم التعاون مع رئيس الوزراء!
أرجو ألا نساهم في إنجاح مناورة علي الراشد عن طريق الرفض المطلق لتعديل الدستور، فالدستور نفسه ينفي عن نفسه صفة الكمال المطلق والقدسية الزائفة، ويتيح لنا تطويره مع توصية حكيمة تضمنتها المادة (175)، واليوم هناك حراك سياسي-اجتماعي يدفع في اتجاه هذا النوع من التعديل. إذا اختار النائب الفاضل علي الراشد وغيره من النواب السير في اتجاه تقليص الممارسة الديمقراطية، فعلينا أن نسير في الاتجاه المعاكس الذي يهدف إلى توسيع هذه الممارسة، لا أن نستمر في التخندق التقليدي للدفاع عن الدستور الحالي وتعطيل مقومات التطور السياسي في هذا البلد!

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2009

(1+ 1= 2)

1+1= 2 هي بوّابة الدخول إلى علم الرياضيات، فهي أول قصة نحكيها للأطفال عندما نصطحبهم في جولة للتعرف على عالم مليء بالأرقام والرموز، ومثل كل القصص، هناك أكثر من طريقة لسردها، فتارة نقول إن 'تفاحة + تفاحة= تفاحتين'، وتارة أخرى نستبدل التفاح بنوع آخر من الفاكهة، لكن الطفل يدرك مع الوقت أن العبرة من كل هذه الطرق المختلفة في سرد القصة هي أن 1+1= 2، فهنا يكمن مغزى القصة، سواء أشار العدد 1 إلى تفاحة أو إلى أي شيء آخر!

هي معادلة رياضية سهلة، لكنها ساحرة، وعلامة سحرها تكمن في تلك الدهشة التي ترتسم على وجوه الأطفال عندما يكتشفون أن 1+1= 2. يقول الشاعر الإنكليزي 'ريتشارد هاريسون':

'مازلت أتذكر أول مرة بدأت فيها بتعليم طفلي الصغير هذه المعادلة. أتذكر، مثلا، كيف كان يشير بإصبع واحد في كفه اليمنى، ثم يشير بإصبع آخر في كفه اليسرى، وبعد ذلك تأتي لحظة الاندهاش، إنها لحظة فلسفية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، إنها اللحظة التي يكتشف فيها طفلي أنه بالرغم من انفصال الإصبعين من حيث المكان، فإنهما متحدّان في مفهوم واحد داخل الذهن: إنه العدد 2' (انظر كتاب The Great Equations، لمؤلفه 'روبرت كريز').

هي أيضا معادلة رياضية بسيطة، لكنها عظيمة، ودليل عظمتها هو أنها اختيرت ضمن أعظم عشر معادلات رياضية حسب نتائج استفتاء قامت به مجلة 'عالم الفيزياء' (انظر صحيفة 'الغارديان' البريطانية، عدد 6 أكتوبر 2004). هي أيضا معادلة عظيمة لسبب آخر، فمن خلالها نلج عالماً لامتناهياً من الأرقام، إذ يكفي فقط أن نضيف العدد 1 إلى المجموع لنحصل على العدد الذي يليه، ثم نعيد الكرّة إلى ما لا نهاية! قد يدرك بعض الأطفال هذه الحقيقة من حيث لا يعلمون، وأذكر مرة أني أشرت بإصبع السبابة لأسأل أحد الأطفال من أقاربي: كم هذا؟ فأجابني: 'واحد'، ثم أضفت إصبعا آخر وكررت السؤال، فأجابني: 'اثنان'، ثم أضفت من جديد إصبعا إلى الإصبعين لأسأله: وكم هذا؟ نظر إليّ مليّا ثم أجاب: 'هذا كثير'!

عندما نودّع عالم الطفولة، فإننا نودّع أيضا لحظات الاندهاش الأولى، ومن ضمنها تلك التي تشير إلى أن 1+1= 2. لم نعد نشعر بسحر هذه المعادلة وعظمتها، فهي تبدو بديهية إلى درجة أننا نشير إليها في أحاديثنا للدلالة على بساطة أي فكرة لا تستوجب شرحاً أو توضيحاً! لكن ما الذي يجعلنا واثقين من أنفسنا إلى هذا الحد؟ بمعنى آخر، من أين نستمد هذه الثقة المطلقة في صحة المعادلة التي تقول إن 1+1= 2؟ جزء من الإجابة عن هذا السؤال مرتبط بقدرتنا على التفريق بين نوعين من الجُمل. لننظر، مثلاً، إلى الجملتين التاليتين:

1- درجة غليان الماء تساوي 100 درجة.

2- مجموع زوايا المثلث المرسوم على سطح مستوٍ يساوي 180 درجة.

للتأكد من صحة الجملة الأولى، نستعين بإجراء تجربة لنرى ما إذا كان الماء يغلي فعلاً حين تصل حرارته إلى 100 درجة، لكن التأكد من صحة الجملة الثانية لا يستدعي الاستعانة بأي تجربة، فنحن لا نقوم بقياس زوايا كل المثلثات لإثبات أن مجموع زوايا المثلث يساوي دائما 180 درجة (باسثناء الهندسة اللاإقليدية)، بل يكفي فقط أن نحصل على تعريف محدد لكلمة 'مثلث' كي نقوم باستخلاص كل خصائص المثلثات من خلال برهان رياضي!

الجزء الآخر من الإجابة عن سؤالنا السابق مرتبط بقدرتنا على التفريق بين نوعين آخرين من الجُمل. لننظر من جديد إلى الجملتين التاليتين:

1- الذرّة ليست أصغر أشكال المادة.

2- كل رجل أعزب ليس لديه زوجة.

الجملة الأولى تضيف معلومة جديدة إلى معرفتنا للعالم من حولنا، خصوصا عندما نعرف أن الاعتقاد المغلوط بأن الذرة هي أصغر أشكال المادة كان سائداً لقرون طويلة، لذا فإن هذه الجملة تتطلب إجراء تجربة للتحقق من مدى صحتها! لكن في المقابل، الجملة الثانية لا تضيف شيئا جديداً إلى معرفتنا للعالم من حولنا، فكلمة 'أعزب' تتضمن معنى أن يكون الرجل من دون زوجة، ولهذا السبب لسنا في حاجة إلى إجراء تجربة للتحقق من صحتها، بل يكفي أن نقوم بتحليل مفردات الجملة فقط!

على ضوء هذين المثالين، نستطيع الآن أن نجيب عن السؤال أعلاه على النحو التالي: لدينا ثقة مطلقة بصحة المعادلة الرياضية 1+1= 2 لأنها معادلة تشير إلى جملة 'قبلية' a priori و'تحليلية' analytic، فهي جملة 'قبلية' لأننا نستطيع التأكد من صحتها عن طريق العقل فقط ومن دون اللجوء إلى التجربة، وهي جملة 'تحليلية' لأنها صحيحة من خلال تحليل مفرداتها، مثل مفهوم العدد وعملية الجمع وعلاقة التساوي. يرى معظم الفلاسفة (باستثناء 'كانط') أن المعادلة 1+1= 2 تشير إلى جملة قبلية وتحليلية، وهي صحيحة دائماً، سواء في هذا العالم الذي نعيش فيه أو في أي عالم آخر، إذ من المستحيل منطقياً أن نتخيل وجود عالم تكون فيه 1+1= 2 غير صحيحة!

الأربعاء، 2 ديسمبر 2009

علم اللغة النظري

من المألوف أن تتكوّن كل جامعة من كليات وأقسام علمية، لكن ينبغي الانتباه إلى أن البحث العلمي لا يعترف بهذه الحدود الأكاديمية بين كلية وأخرى، أو بين قسم علمي وآخر، فالعلم معنيٌّ بإيجاد حلول لمشكلات تتطلب أحيانا تضافر جهود مجموعة من الباحثين ممن ينتمون إلى تخصصات علمية مختلفة، وسأحاول في هذا المقال تسليط الضوء على هذه الحقيقة من خلال التطرق إلى تخصص علمي حديث نسبيا، وهو ما يعرف باسم 'علم اللغة النظري' أوTheoretical Linguistics.
هناك ارتباط وثيق بين علم اللغة النظري وعلم الأحياء، وكي نقف على حقيقة هذا الارتباط، دعنا نلقِ نظرة على الأسئلة التالية:
1- لماذا تقتصر اللغة على فصيلة الإنسان فقط؟
2- كيف يكتسب الأطفال القدرة على تعلّم اللغة؟
3- كيف تطوّرت اللغة؟
اللغة تقتصر فقط على فصيلة الإنسان، وهناك اختلاف طفيف جدا بين فصيلة الإنسان وفصيلة الشامبانزي من حيث الجينات، وهذا يعني أن سرّ اقتصار اللغة على فصيلة الإنسان يكمن في هذا الاختلاف الطفيف في التركيب الجيني بين الفصيلتين. هذا الاستنتاج مبنيّ على افتراض يشير إلى وجود علاقة وثيقة بين جينات الإنسان وقدرته على اكتساب اللغة، وصحة هذا الافتراض مرتبطة بالسؤال الثاني أعلاه، فمن المعروف أن الأطفال يكتسبون اللغة في سن مبكرة جدا (بين 18 شهرا إلى 4 سنوات)، واكتساب اللغة لا يحتاج إلى تلقين مستمر أو دراسة منتظمة، مما يعني أن قدرة الأطفال على تعلم اللغة لا ترتبط فقط بالبيئة التي نشؤوا فيها، بل في التركيب الجيني الذي يشترك فيه جميع البشر. إن القدرة على اكتساب اللغة تشبه القدرة على المشي، فكلاهما لا يحتاج إلى تلقين مسبق!
ترتبط هذه النظرة البيولوجية لعلم اللغة بنظريات عالم اللسانيات الشهير 'نعوم تشومسكي'، فهو يرى أن اللغة مثل بقية أعضاء الجسم، تنمو لاإراديا وفق ما يمليه المخطط الجيني! لقد حاول 'تشومسكي' طوال عقود طويلة أن يدلل على أن اللغة نظام جيني معقد جدا، لكنه اضطر في السنوات الأخيرة إلى مراجعة آرائه حول هذه المسألة، والسبب في ذلك مرتبط بالسؤال الثالث أعلاه، فمن المتعارف عليه علميا أن نشوء اللغة في فصيلة الإنسان حدث قبل خمسين ألف سنة على أقل تقدير، وهذه مدة زمنية قصيرة جدا إذا ما قيست بعمر تطور الكائنات الحية، لذا فإن القول إن اللغة نظام جيني فائق التعقيد يتعارض مع أحد أهم مبادئ نظرية التطور، وهو مبدأ يشير إلى أن الانتقاء الطبيعي Natural Selection يحتاج إلى وقت طويل جدا كي يؤتي ثماره وينتج نظاما بيولوجيا فائق التعقيد مثل اللغة. لقد حاول 'تشومسكي' تجاوز هذه المعضلة من خلال ما يعرف باسم The Minimalist Program، وهو عبارة عن محاولة إلى إيجاد علاقة بين قوانين اللغة وقوانين الفيزياء! لكن كيف؟
اللغة وظيفة من وظائف العقل، والعقل وظيفة من وظائف الدماغ، وبالتالي يصبح من المنطقي القول إن اللغة وظيفة من وظائف الدماغ. هذا الارتباط بين اللغة والدماغ نراه، مثلا، ضمن حالات مرضية تؤدي إلى فقدان القدرة على النطق، والسبب في ذلك يعود إلى تلف الخلايا العصبية في منطقة محددة من الدماغ تعرف باسم Broca’s area. لكن بالنسبة لـ'تشومسكي'، الارتباط بين اللغة والدماغ أعمق من ذلك بكثير، فهو يرى أن القوانين المجردة التي تحكم اللغة تخضع إلى القوانين الفيزيائية التي تحكم الدماغ، وهذا يعني أن من المحتمل أن يكون التركيب الجيني غير مسؤول عن إنتاج نظام معقد من قوانين اللغة، بل إن المسؤول عن ذلك هي قوانين الفيزياء! هناك من يتبنى هذا الرأي من بين علماء الفيزياء، لعل أشهرهم أستاذ الرياضيات والفيزياء في جامعة أُكسفورد السير 'روجر بينروس'، إذ يرى أن حلّ سرّ اللغة مرهون بقدرة علماء الفيزياء على ردم الهوّة بين 'نظرية الكم' والنظرية النسبية (انظر كتابه The Road to Reality).
سبق أن أشرنا إلى أن اللغة وظيفة من وظائف العقل، وهذا يعني أن علم اللغة مرتبط أيضا بفروع المعرفة التي تتخذ من العقل موضوعا للبحث، مثل علم النفس وفلسفة العقل وعلم الإدراك وغيرها. هناك أيضا ارتباط وثيق بين علم اللغة وعلم المنطق، فقد حاول أنصار 'الوضعية المنطقية' إخضاع اللغات الطبيعية لقوانين المنطق، ولعل أشهر من قام بذلك العالم الألماني 'رودولف كارناب'.
لن أستطيع من خلال مقال واحد أن أحصر عدد العلوم المرتبطة بعلم اللغة النظري، لكن أتمنى أن أكون قد وفّقت في إبراز أهمية هذا العلم وارتباطه الوثيق بفروع المعرفة الأخرى.

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

المثقف وأعداؤه (2-2)

ليس هناك شيء أشد مضاضة على المثقف من سيف الرقابة، فالرقيب هو العدو اللدود لكل إنسان مخلص في بحثه عن الحقيقة، والرقابة بالنسبة للمثقف ليست مجرد مصادرة لرأي، بل هي مصادرة لجهد مخلص في الوصول إلى الحقيقة.
عندما يدلي المثقف برأيه حول أي قضية، فإنه يتوقع من الآخرين أن يفحصوا مدى صحة هذا الرأي، ذلك أنه مستعد دائماً أن يتعلّم من أخطائه، وهو مؤمن أيضاً بأن النقد الذي يأتيه من الآخرين يساهم إلى حد كبير في الانتقال خطوة إلى الأمام على طريق الحقيقة، خصوصاً إذا جاء هذا النقد من أناس حريصين مثله على تقصي الحقائق.
من هنا نستطيع أن نتلمّس خطر الرقابة، ليس بالنسبة للمثقف فحسب، بل بالقياس إلى المجتمع بجميع أفراده، وإذا كان المثقف يحمل رأياً خاطئاً، سلبت الرقابة منه الفرصة في تصويب هذا الرأي من خلال نقد الآخرين له، وإذا كان يحمل رأياً صائباً، سلبت الرقابة من الآخرين الحق في معرفة الحقيقة!
لكن هل نحن فعلاً مخلصون في بحثنا عن الحقيقة؟ طرحت هذا السؤال على أكثر من شخص. في المرة الأولى، طرحت السؤال على صديق مسيحي رأيته راكعاً أمام صليب في صلاته، فأجابني بكل ثقة: نعم! في المرة الثانية، طرحت السؤال نفسه على أحد الطلبة بينما كان يستعد لخوض أحد الاختبارات، فأجابني أيضا بكل ثقة: نعم! في المرة الأخيرة، سألت ناشطاً سياسياً: هل أنت مخلص في معرفة الحقيقة؟ فأجابني بصوت مرتفع: بكل تأكيد!
رغم ذلك، مازلت أشك في صدق الإجابة التي سمعتها منهم جميعاً! كل واحد منهم يدّعي الإخلاص في طلب الحقيقة، لكني لا أرى سوى صديق مسيحي يركع صاغراً لشيء لا يستطيع إثبات صحته، ولا أرى سوى طالب يجيب عن ورقة الاختبار بطريقة تضمن نجاحه ولا تعكس مدى إيمانه بحقيقة الإجابة، ولا أرى سوى ناشط سياسي يدين وزيراً قبل أن يحين موعد استجوابه!
ليس بالضرورة أن نكون جميعاً مخلصين في بحثنا عن الحقيقة، لكن لماذا نجعل من عدم الإخلاص ضرورة؟ ولماذا نقبل بوجود رقابة لا تساهم إلا في تفاقم آفة الإجماع على رأي واحد؟ نعم، ليس بالضرورة أن نكون جميعاً مخلصين في الوصول إلى الحقيقة، لكن لماذا نضع العراقيل في طريق أولئك الذين تهمهم معرفة الحقيقة؟ ولماذا نخفق دائماً في أن نكون متسامحين مع أولئك الذين قد لا تعجبنا آراؤهم؟ هل يستقيم إيماننا الواثق بصحة آرائنا مع حرصنا على حجب الآراء المغايرة؟ ألا يشي مثل هذا الحرص بأننا في حقيقة الأمر غير واثقين من صحة آرائنا؟!

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

المثقف وأعداؤه 1

من المثقف؟ و ماذا يريد؟ ومن أعداؤه؟ سأحاول من خلال هذا المقال والذي يليه أن أجيب عن هذه الأسئلة، لكن ينبغي التأكيد أولاً على أن ما يلي لا يعبّر سوى عن رأي شخصي، كما ينبغي التأكيد ثانياً على أني سأبذل قصارى جهدي في اجتناب المصطلحات الشائكة واعتماد لغة مبسّطة ويسيرة، فعلى غير عادتي، أجد نفسي هذه المرّة حريصاً على مخاطبة أكبر عدد من القرّاء حول هذا الموضوع!
المثقف إنسان مخلص في بحثه عن الحقيقة، ولهذا الإخلاص في طلب الحقيقة أوجه كثيرة، منها مثلاً:
1- الحرص الشديد على التماس المعلومة من مصادر مختلفة (هنا يأتي دور القراءة كأداة ضرورية لكل مثقف).
2- الرغبة الصادقة في فحص الوقائع على أساس عقلي محض (وهنا يكمن السبب في استحالة العثور على مثقف بين صفوف المتعصبين لأي إيديولوجية).
3- النزاهة في عرض النتائج التي يتم التوصل إليها بعد عملية البحث (وهنا يكمن السبب في استحالة أن يكون للمثقف طموح سياسي، أو أن يكون قريباً من السلطة بجميع أنواعها!).
لكن أبرز سمة من سمات المثقف هي التواضع، فهو لا يدّعي امتلاك الحقيقة، ولا يزعم أن رأيه غير قابل للخطأ، ولا يستنكف من التعلّم من أخطائه. لهذا السبب يميل المثقف إلى نقد الذات والاستفادة من نقد الآخرين لآرائه، فهو يؤمن بأن النقاش البنّاء يوفر الأرضية المناسبة لتلاقح الأفكار، وثمرة هذا التلاقح هي خطوة إلى الأمام على طريق الوصول إلى الحقيقة.
إلى جانب الوصول إلى الحقيقة، ماذا يريد المثقف؟ لا يريد أكثر من تذليل العقبات أمامه كي يقوم بواجبه، فحرصه الشديد على القراءة والبحث يستدعي منّا أن نتيح له سهولة الحصول على المعلومة، ورغبته الصادقة في نقد الوقائع بأسلوب علمي يتطلب منّا أن نمنحه الحق في حرية التفكير، ونزاهته في عرض ما توصل إليه من نتائج يحتم علينا الاعتراف بحقه في حرية التعبير. هل هذا كثير؟ إطلاقاً، لكن أعداء المثقف لهم رأي مغاير!
هناك من يحاول أن يثبّط من عزيمة المثقف حتى قبل أن يبدأ في مهمته، فبعضهم يزعم أن المثقف يبحث عن سراب، فلا وجود لحقيقة موضوعية، وكل ما هنالك مجرد حقائق نسبية، تختلف باختلاف الظروف والأزمان! البعض الآخر يذهب إلى أبعد من ذلك، فهو ينكر وجود المثقف ذاته بعد أن أصدر شهادة وفاته، وهذا ما نراه من خلال شعارات برّاقة مثل 'موت المثقف'، وهي شعارات خاوية لا تدل على شيء ذي قيمة حقيقية!
تلجأ السلطة عادة إلى 'البروباغندا' لتسويق نظرتها الخاصة حول أي قضية، وإذا كان القارئ يشكّك في ما أقول، فبوسعه أن يتابع أخبار الحرب الدائرة في اليمن من خلال الاستماع إلى إذاعات دول الخليج، أو قراءة 'فوائد الخصخصة' في الصحفات الاقتصادية لصحافتنا المحلية! في ظل تسويق النظرة الأحادية وتشويه الوقائع، تصبح مهمة المثقف عسيرة وشاقة، فالبحث عن مصدر آخر لتقصي الحقائق قد لا يتوافر بسهولة، وإذا توافر المصدر فقد لا تتوافر أدوات البحث.
عندما يبذل المثقف وقته وجهده في البحث وتقصي الحقائق، وعندما ينجح في تشكيل رأي متوازن حول قضية معينة، ينتهي به الأمر إلى مواجهة ألد أعدائه وأكثرهم شراسة! من عساه أن يكون هذا العدو اللدود؟
يتبع،،،

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

الشيخ مبارك والاتفاقية السرية

ما حقيقة الاتفاقية التي أبرمها الشيخ مبارك الصباح مع البريطانيين؟ وما أهداف تلك الاتفاقية؟ وما ظروف نشأتها؟ ولماذا ظلت الاتفاقية طي الكتمان لسنوات طويلة؟ وما أثر الطريقة التي وصل من خلالها الشيخ مبارك إلى الحكم في تحديد شكل الاتفاقية؟ وهل كان لبريطانيا دور في عملية الاغتيال الشهيرة؟ هذه أسئلة دارت في ذهني بينما كنت على وشك الدخول إلى مبنى 'الأرشيف الوطني' في أطراف العاصمة البريطانية، وبعد الاطلاع على بعض الوثائق البريطانية حول هذا الموضوع، سأحاول من خلال هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة.

إن أول ما يثير الانتباه حول هذه الاتفاقية هو هذا التباين في تسميتها، فنحن ككويتيين نشترك جميعاً في وصفها بـ'معاهدة الحماية البريطانية'، ولكن من يطّلع على الوثائق البريطانية سيجد أن الاتفاقية تسمى Exclusive agreement، أي 'الاتفاق الحصري'، ومن الواضح أن التسمية البريطانية هي الأدق والأصح أيضاً، ذلك أن نص الاتفاقية لم يتطرق إطلاقاً إلى فكرة حماية الكويت، ولعلّي لا أبالغ إن قلت إنها من أغرب الاتفاقيات بين طرفين، فهي ملزمة لطرف واحد فقط، بينما لا يتحمّل الطرف الآخر أي نوع من الالتزام أو المسؤولية!

تم توقيع الاتفاقية بين الشيخ مبارك الصباح والكابتن 'م. جي ميد' في العاشر من رمضان من عام 1316 للهجرة، الموافق يوم الثالث والعشرين من يناير من عام 1899 للميلاد، ونصّت على ما يلي:

'يتعهّد الشيخ مبارك بن الشيخ صباح، بكامل إرادته الذاتية ورغبته الشخصية، هو ومن يأتي بعده من ورثة الحكم، بالالتزام في عدم السماح لأي ممثل عن أي سلطة أو حكومة خارجية بدخول الكويت، أو الإقامة ضمن حدودها، من دون إذن مسبق من طرف الحكومة البريطانية، كما يتعهد الشيخ مبارك أيضاً، هو ومن يأتي بعده من ورثة الحكم، بعدم التنازل عن أي جزء من أراضيه لأي سلطة أو حكومة خارجية'.

(ملاحظة: حاولت قدر الإمكان الالتزام بالنص الحرفي للاتفاقية أثناء ترجمتي للنسخة الإنكليزية).

بعد توقيع 'الاتفاقية'، التي لم تكن في واقع الأمر سوى تعهّد من طرف واحد فقط، استجاب المقيم البريطاني في الخليج إلى إلحاح الشيخ مبارك الصباح على تقديم ضمانات بريطانية لحماية الكويت وممتلكات الأسرة الحاكمة من أراض زراعية في منطقة 'الفاو'، وهي استجابة جاءت على شكل رسالة مشروطة بالمحافظة على سرّية 'الاتفاق الحصري' الذي تم توقيعه سابقا!

السبب وراء الحرص البريطاني على سرية 'الاتفاق الحصري' يكمن في عدم رغبة بريطانيا في إثارة مشكلة دبلوماسية مع حكومة 'إسطنبول' من جانب، ومع قوى أجنبية لها أطماع في منطقة الخليج مثل روسيا وألمانيا من جانب آخر، لكن التردد الذي أبدته بريطانيا في تقديم التزام خطي بحماية الكويت يحتاج إلى تفسير، فمن المعروف أن البريطانيين سبق أن حاولوا إقناع الشيخ عبدالله الصباح (عبدالله الثاني) في توقيع معاهدة حماية مع بريطانيا، ولكن ولاء الشيخ عبدالله لحكومة 'إسطنبول' جعله يرفض توقيع أي معاهدة من هذا القبيل، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نتساءل: لو تمت معاهدة الحماية في عهد الشيخ عبدالله الصباح، فهل ستأتي بالشكل الذي جاءت به أثناء فترة حكم الشيخ مبارك؟

من الواضح أن البريطانيين استفادوا من الرغبة الملحة التي أبداها الشيخ مبارك في توقيع اتفاقية حماية مع بريطانيا في أسرع وقت ممكن، فبعد هروب السيد يوسف الإبراهيم وأبناء الأخوين المقتولين محمد وجراح إلى العراق، وبعد مطالبة هؤلاء الحكومة التركية بالتدخل لتصحيح الوضع في الكويت، لجأ الشيخ مبارك إلى بريطانيا للمحافظة على الحكم، وقد استثمر البريطانيون نقطة الضعف هذه لمصلحتهم عن طريق توقيع اتفاقية غير ملزمة للطرف البريطاني، وبالتالي عدم الوقوع في حرج مع القوى الاستعمارية الأخرى في حال تم الكشف عن الاتفاق مع حاكم الكويت.

الأمر المؤكد هو أن بريطانيا كانت مصممة على حماية مصالحها في الكويت حتى لو تطلّب الأمر تدخلاً عسكرياً، بل حتى لو لم تكن هناك معاهدة حماية، ولكن الظروف التي وصل من خلالها الشيخ مبارك إلى الحكم ساهمت في بسط الهيمنة البريطانية على الكويت من دون مقابل! هذه النقطة تدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان لبريطانيا دور في عملية الانقلاب على الحكم في الكويت؟ الحكومة البريطانية نفت مسؤوليتها عن عملية الانقلاب، ولكن هناك وثائق صادرة عن السفارة البريطانية في 'إسطنبول' تفيد بأنه قبل عملية الانقلاب، قضى الشيخ مبارك شهراً كاملاً في مدينة 'بوشهر' في ضيافة المقيم البريطاني في الخليج الكابتن 'ف.إي.ويلسون'!

أخيراً، وبالنظر إلى 'الاتفاق الحصري' الذي ألزم الكويت بعدم التنازل عن أي شبر من أراضيها لأي سلطة خارجية، لعل من سخرية الأقدار أن يكون الطرف البريطاني تحديدا هو المسؤول عن التفريط بهذا الالتزام، فأثناء توقيع معاهدة 'العقير' التي تمت في عام 1922 بغرض ترسيم الحدود بين الكويت والعراق والممكلة العربية السعودية، لم يتورع 'السير بيرسي كوكس'، الذي كان ممثلاً عن الكويت في إدارة شؤونها الخارجية، عن التضحية بمساحات شاسعة من الأراضي الكويتية للأطراف المتنازعة، وقد ذكر 'ديكسون' تفاصيل هذه المعاهدة في كتابه 'الكويت وجيرانها'. لم أقرأ كتاب 'ديكسون' في نسخته العربية، لكني على يقين أن كل كويتي قرأ الكتاب في طبعته الإنكليزية، خصوصا الصفحة 279، لابد أنه شعر، تماماً مثلما شعرت، بمزيج بغيض من الظلم والخزي!

الاثنين، 19 أكتوبر 2009

مجموعة الـ26... الرسالة الخطأ إلى العنوان الصحيح

تباينت ردود الفعل حول زيارة 26 مواطناً لسمو الأمير، فهناك مَن يرى أن الزيارة لم تكن مشروعة لأنها تضعف من سلطة البرلمان، وهناك في المقابل من يرى في تلك الزيارة أمراً طبيعياً ومنسجماً مع آليات النظام الديمقراطي. سأحاول من خلال هذا المقال أن أدلل على الحقيقة التالية، وهي أن مجموعة الـ26 حملت الرسالة الخطأ إلى العنوان الصحيح.

لو تواضعنا قليلاً واعترفنا بمحدودية نظامنا الديمقراطي، فسنرى بوضوح أن الثقل الحقيقي للسلطة السياسية في الكويت كان ولايزال في يد الأسرة الحاكمة، وقد جاء الدستور ليكرّس هذه الحقيقة من خلال العديد من المواد، ولعل أبسط مؤشر على هذه الحقيقة هو وجود حالة من عدم التكافؤ بين مصدري السلطة التشريعية، فالتشريعات التي تصدر عن البرلمان محدودة زمنياً وتحتاج إلى أغلبية برلمانية لتمريرها قبل أن تحظى بمصادقة سمو الأمير، بينما التشريعات التي تصدر عن القصر غير محدودة زمنياً ولا تحتاج إلّا إلى أقلية برلمانية منتخبة لتمريرها. هنا تحديداً تكمن محدودية نظامنا الديمقراطي، ذلك أن فرصة تمرير التشريعات الأكثر ديمقراطية أضعف بكثير من فرصة تمرير التشريعات الأقل ديمقراطية.

لعل أحدث مثال على هذه الحقيقة هو ما نقلته مجموعة الـ26 من تصريحات على لسان سمو الأمير بعد الزيارة مباشرة، وهي تصريحات أفادت بعدم المصادقة الأميرية على أي تشريع برلماني حول موضوع القروض، والتأكيد أيضاً على تمرير المشاريع التنموية الكبرى. هذه التصريحات تأتي منسجمة مع حجم السلطة السياسية التي أتاحها الدستور لرئيس الدولة (حسب التعبير الوارد في المادة 54)، فموضوع القروض يمكن رفضه بسهولة من خلال الامتناع عن توفير المصادقة الأميرية، بينما موضوع المشروعات الكبرى لا يمكن إيقافه إلا من خلال أكثر من 25 صوتاً نيابياً تحت قبة البرلمان.

إذا كان هذا هو واقع الحال، فإن مجموعة الـ26 لم تخطئ العنوان، فهي أرادت حلّا جذرياً لمشكلة تتعلق بالشأن العام، وإيجاد حل جذري لأي مشكلة من هذا النوع يستدعي اللجوء إلى السلطة الحقيقية في البلاد (ربما يعترض القارئ على كلامي هذا من خلال التذكير بما تقوله المادة 6 من الدستور، ولكني أطلب من القارئ أن يكمل قراءة هذه المادة إلى نهايتها!).

على ضوء ما تقدم، يمكن تفنيد الحجج التي لجأ إليها كلا الطرفين في تأييد الزيارة أو معارضتها، فالنوّاب الذين اعترضوا على الزيارة بحجة أنها تضعف من سلطة البرلمان لم يقرؤوا مواد الدستور جيداً، ولو فعلوا لعلموا أن إضعاف سلطة البرلمان مستمد من نصوص الدستور نفسه! أما بعض الكتّاب ورؤساء الصحف ممن أيدوا الزيارة، فقد لجؤوا إلى حجج واهية لتبرير مثل هذه الزيارة. أحدهم، مثلا، كتب يقول إن زيارة مواطنين كويتيين لقصر سلوى لا تختلف عن زيارة مواطنين بريطانيين لمنزل رقم 10 في شارع 'داونينغ ستريت'، وهذه حجة تتضمن استخفافاً كبيراً بعقول القرّاء، فهي تفترض أن القرّاء جاهلين بحقيقة أن شروط الإقامة في منزل رقم 10 في شارع 'داونينغ ستريت' مرهونة بإرادة زوّاره من المواطنين! كاتب آخر يقول إن الزيارة تمت في مكان الإقامة الشخصية لسمو الأمير وليس في قصر الحكم، وهذه حجة تخلط بين مكان الزيارة وموضوعها، فأساس الاحتجاج على الزيارة هو أن المجموعة جاءت لتناقش أمراً يتعلق بالشأن العام، وأما مكان الزيارة فلا يلغي هذه الحقيقة!

مجموعة الـ26 لم تخطئ العنوان، لكنها حملت الرسالة الخطأ، وقد عبّر الأستاذ أحمد الديين عن هذه الحقيقة بشكل دقيق، حيث يقول:

'لابد من القول إنّ الموقف الوطني المسؤول تجاه قضية مستقبل الثروة الوطنية ومسؤولية الحفاظ عليها، يفترض أن يكون متوازناً وألا يتركز فقط ضد ما يسمى المشروعات 'الشعبوية'، وقضية 'شراء فوائد قروض المواطنين'، مثلما هو الاهتمام الأبرز عند هذه المجموعة، وإنما كان يفترض أن يبرز أيضاً في الموقف تجاه مشروعات تنفيع بعض الكبار والمتنفذين، والمحاولات المتكررة للالتفاف على قانون المناقصات العامة، وما كان يحدث من محاولات للاستيلاء على أملاك الدولة تحت مسمى «المبادرات»، وكذلك الموقف تجاه بعض القوانين والإجراءات، التي لم تراع حرمة المال العام وتجاهلت اعتبارات العدالة الاجتماعية مثل القانون الملياري لشراء المديونيات الصعبة الصادر في أوائل التسعينيات!'

هذه النقطة التي أثارها 'الديين' يتبناها الكثير من معارضي الزيارة، ومن المؤسف أن البيان الذي صدر عن مجموعة الـ26 لم يتضمن تطمينات واضحة بهذا الخصوص، كما أن التصريحات التي نقلتها المجموعة عن سمو الأمير تصب في خانة التأكيد على أن ما يسمى 'المشروعات الشعبوية' هي جوهر الموضوع، وقد عبّر أحد أعضاء المجموعة بشكل صريح عن القصد من الزيارة بقوله إن موضوع قروض المواطنين فيه هدر للمال العام!

ليس لدي شك في أن إسقاط القروض فيه هدر للمال العام، ولكن ينبغي الاعتراف أيضاً بأن هناك أشكالاً متعددة لهدر المال العام وتبديد الثروة. ليس لدي شك أيضا في حقيقة استغلال بعض النواب موضوع القروض لأغراض انتخابية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: لماذا أضحت مسألة القروض فريسة سهلة للتكسّب الانتخابي؟ عندما تتراكم الثروة في أيدي حفنة قليلة من أبناء الوطن، فإن شعار 'العدالة الاجتماعية' يتحوّل تلقائياً إلى شعار جذّاب، بل له أيضا ما يبرّره!

الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

لعنة الغوص

قبل عشر سنوات تقريبا، وفي أحد المقاهي الشعبية المجاورة للبحر، سألت رجلا عجوزا أن يحكي لي عن ذلك الزمن الذي يحلو للبعض أن يسمونه بـ«الزمن الجميل»، وطلبت منه تحديدا أن يسهب في وصف تجربته بوصفه غوّاصا (أو «غيص» في اللهجة المحلية). جاءت إجابة ذلك العجوز الطيب في غاية الاختصار، حيث اكتفى بكلمة واحدة فقط: شقاء! ظننت وقتها أني فهمت ما يعني، لكني لم أدرك المعنى العميق لتلك الكلمة إلاّ بعد أن فتحت ملف «تاريخ الكويت» في رحاب مدينة الضباب، وهو ملف غني بالمعلومات، وسأتناول هذا الملف في مقالات لاحقة، لكني أعد القارئ بعدم ذكر معلومة لا يرغب في سماعها، فنحن في نهاية المطاف في الكويت، حيث اعتاد الناس سماع ما يرغبون سماعه فقط! أضف إلى ذلك أن لدينا نظاما تعليميا قائما على فكرة استبعاد أي معلومة غير مرغوب فيها، ليس لأنها معلومة خاطئة، بل لأنها غير منسجمة مع «الذوق العام»، كما أن أغلب الصحف يملكها أشخاص لهم ألف سبب «وجيه» يدفعهم إلى حجب بعض المعلومات التي قد لا تنسجم و مصالحهم الخاصة! رغم كل هذه الحقائق، مازال البعض يعتقد أن بإمكانه سرد تاريخ الكويت بكل موضوعية، لكن لا يهم، لنرجع إلى موضوع المقال!
ضمن كتابات «ريتشارد لو بارون» حول زيارته لمنطقة الخليج في النصف الأول من القرن الماضي، هناك وصف دقيق لمعاناة الرعيل الأول في مهنة الغوص. لنقرأ ما ذكره الكاتب: «بعد نهاية موسم الغوص يكون الغطاس قد تحمّل المستحيل، فهو على الأرجح أكمل أكثر من 3000 غطسة في عمق يترواح ما بين 30 إلى 50 قدم تحت الماء، مما يعني أنه مكث تحت مياه الخليج الفارسي من دون هواء مدة تتجاوز الأربعين ساعة في الأسبوع الواحد. ليس من المستغرب أن يكون هناك مكان شاغر في كل سفينة، فهذا المكان الشاغر تم حجزه لجثة غواص أعياه التعب قبل أن يفارق الحياة»!
لم تقتصر معاناة الغواص على الجانب البدني، فهناك أيضا الجانب النفسي، فالغواص مدين دائما لربّان السفينة (النوخذة)، وربّان السفينة مدين عادة للتاجر الذي قام بتمويل صناعة السفينة ومؤونتها، وقد لاحظ هذه الحقيقة «آلان فيليير» في كتابه «أبناء السندباد»، حيث يقول إن «مهنة الغوص واستخراج اللؤلؤ لم تكن سوى تجارة قائمة على الديون» (صفحة 353). كما أن من المعروف أن الديون كانت تلاحق الغوّاص حتى بعد مماته، فالأبناء لا يرثون عادة سوى ديون أبيهم المتراكمة كما سنرى لاحقا!
قبل صدور قانون الغوص في فترة حكم الأمير الراحل أحمد الجابر، كانت هناك محكمة تعقد جلساتها سنويا للنظر في المنازعات المتعلقة بشؤون الغوص، وكانت أغلب تلك المنازعات تتعلق بمشكلات الدائن والمدين في ذلك «الزمن الجميل»! أعضاء المحكمة معينون من قبل الأمير، وهم عبارة عن أشخاص يمثلون شريحتي التجار والنواخذة، أما شريحة البحّارة البسطاء فلم يكن لهم تمثيل ضمن طاقم أعضاء المحكمة (انظر كتاب الباحثة الكندية «جاكلين إسماعيل» عن الكويت، صفحة 64).
بعد صدور قانون الغوص في عام 1940، والذي كان من المفترض أن يخفّف من معاناة البحّارة البسطاء، لم تتحسّن الصورة كثيرا. لنقارن، مثلا، بين المادة 19 والمادة 34 من ذلك القانون كما وردتا في كتاب «سيف مرزوق الشملان» حول تاريخ الغوص:
المادة 19: إذا مات البحّار وهو لا يملك غير بيت سكناه وله أولاد صغار وثبت أن البيت داخل عليه من دراهم الغوص فعلى النوخذة أن يصبر حتى يبلغ الأولاد رشدهم وحينئذ يخيرون بين دفع الطلب للنوخذة أو إذا ثبت أن البيت داخل عليهم من غير دراهم الغوص فبعد بلوغ الأولاد سن الرشد يخيرون بين بيع البيت ودفع قيمته لجميع الدائنين أو يبقي البيت لهم وهم يتعهدون بدفع جميع ما على والدهم من الدين.
المادة 34: كل تاجر يعطي دينا لنوخذة الغوص على حاصل الغوص ولم يدرك النواخذة ما يسد الدين وأراد الدائن وفاء دينه، فليس له أن يطلب الوفاء من العقار، بل يأخذ جميع البحارة والسفن، فإن لم تف بالدين كله فله أن يأخذ بعد ذلك من العقار عدا بيت سكناه.
لاحظ التمييز غير العادل بين البحّار البسيط والنوخذة! لاحظ أيضا أن المادة 34 جعلت الجماد في مرتبة أرقى من مرتبة الإنسان، فهي توفّر للعقار الخاص بالنوخذة حماية أكبر من تلك التي توفّرها للبحّارة التابعين له، فهؤلاء ليسوا سوى متاع تنتقل ملكيته بين النوخذة والتاجر!
أسفرت مهنة الغوص في الكويت عن نظام تمويلي يمسك بزمامه ويحدد قوانينه طبقة واحدة فقط، وهي طبقة التجار، فالنواخذة لم يكونوا في الأغلب قادرين على تمويل بناء سفنهم، فضلا عن تمويل الرحلة بأكملها. أدّى هذا النظام التمويلي إلى تراكم الثروة في أيدى مجموعة قليلة من أبناء البلد، وتراكم الثروة يعني تراكما في السلطة السياسية، وهو أمر أدركه الشيخ «مبارك» منذ وصوله إلى السلطة في عام 1896!
قبل سنة، عدت من جديد إلى المقهى نفسه، وعلمت أن العجوز الطيّب انتقل إلى العالم الآخر. رحل من دون أن يفصح عن سرّ شقائه، لكنه ترك وراءه أحفادا بعضهم مدين لأحد البنوك، وصاحب البنك حفيد أحد أبرز التجار المموّلين لرحلات الغوص! إذا كان ثمة خطأ في نظرية «ماركس»، فلابد أن نعثر عليه بين سطور تاريخ الكويت، ذلك أن التغير في قوى الإنتاج بعد ظهور النفط لم يصاحبه تغيّر في علاقات الإنتاج، فالأفراد الذين كانوا يحددون قواعد اللعبة بقوا كما هم، ولكن هذا موضوع يطول، وقد أتطرق إليه في مقال لاحق.

الأربعاء، 7 أكتوبر 2009

العلاقة التاريخية بين العلم والدين (2)

قبل أن ينشر 'كوبرنيكوس' كتابه الشهير حول حركة الأجرام السماوية، بعث برسالة إلى صديق يستشيره فيها حول كيفية نشر الكتاب من دون إثارة غضب رجال الكنيسة، فجاءه الرد بأن عليه أن يؤكد في مقدمة الكتاب أن فكرة دوران الأرض حول الشمس لا تعكس بالضرورة حقيقة النظام الشمسي، بل هي مجرد فرضية ستقود، في حال تم تبنيها، إلى نتائج فلكية دقيقة! تم نشر الكتاب في عام 1543 من دون أن يحدث ضجة كبيرة، لكن المواجهة الحقيقية بدأت عندما دافع 'غاليليو' عن فكرة 'كوبرنيكوس' حول مركزية الشمس، وقد بدأت هذه المواجهة مع الكنيسة على شكل سلسلة من المحاكمات، ثم انتهت بمنع نشر كتب 'غاليليو' وإرغامه على الإقامة الجبرية في منزله إلى يوم وفاته في الثامن من يناير من عام 1642.
'ديكارت' كان أشد حرصاً على عدم إثارة غضب محاكم التفتيش، فهو يعترف في أحد كتبه أنه انتهى من كتابة مخطوطة حول العلوم الطبيعية، لكنه آثر عدم نشرها بعد معرفته بما حلّ بـ'غاليليو' (انظر كتابه 'خطاب في المنهج'، الفقرة الأولى من الفصل السادس). 'ديكارت' أيضا كان حريصاً على حياته، حيث اختار أن يهجر المجتمع الفرنسي الكاثوليكي المتعصب ليقيم في رحاب المجتمع الهولندي البروتستانتي المتسامح! لكن أبرز ملامح هذا الحذر من غضب الكنيسة نجده في فلسفة 'ديكارت' حول ثنائية الجسد والروح، فحسب هذه الفلسفة، خاصية التمدد في المكان هي أبرز ما يميز الجسد (أو المادة)، وخاصية التفكير هي أبرز ما يميز الروح (أو العقل)، لذا فإن مجال كل منهما منفصل تماماً عن الآخر، وتأكيد 'ديكارت' على هذا الانفصال بين مجالي الروح والجسد يؤدي غرضين: الغرض الأول، هو طمأنة رجال الكنيسة بأن العلوم المتعلقة بالمادة لا تتضمن تشكيكاً بعالم الروحانيات أو تهديداً لجوهر الدين، والغرض الثاني، هو تمهيد الطريق إلى تأسيس رؤية جديدة للكون لتحل مكان المنظور الأرسطي القديم، وهذه الرؤية تعرف اليوم باسم 'الفلسفة الميكانيكية' للكون، حيث يرى 'ديكارت' أن الكون أشبه بآلة ضخمة، لا يتحرك جزء منها إلاّ تحت تأثير مباشر من قِبل جزيء آخر، أي أن سبب كل ظاهرة طبيعية هو سبب فيزيائي محض.
من الواضح أن 'ديكارت' أراد تطهير العلم الحديث من عالم الأشباح، لكن مجيء 'نيوتن' أحدث إرباكا كبيرا لفلسفة 'ديكارت' الميكانيكية، فبالرغم من النجاح الباهر الذي حققه 'نيوتن' في التوحيد بين حركة الأجرام السماوية وحركة الأجسام الأرضية، (أي بين قوانين 'كبلر' وقوانين 'غاليلو')، فإن مفهوم 'التأثير عن بعد' الذي تضمنه قانون الجاذبية لم يكن منسجماً مع فلسفة ديكارت الميكانيكية، وقد رأى الكثير من معاصري 'نيوتن' في هذا المفهوم عودة جديدة إلى عالم الأشباح وعقلية الإنسان البدائي، بينما وجد رجال الدين في قانون الجاذبية انتصاراً لإرادة الخالق وتكذيباً لمادية العلم التي جاء بها 'ديكارت'!
مع مجيء 'آينشتين'، اختفى مفهوم 'التأثير عن بعد' ليحل مكانه تفسير هندسي لقانون الجاذبية، لكن رجال الدين وأنصار الفلسفة المثالية استمروا في محاولة إيجاد مكان للروح في عالم المادة، ومع عودة مفهوم 'التأثير عن بعد' في نظرية الكم الفيزيائية، عادت من جديد محاولات تفسير نتائج العلم الحديث على أساس ديني!
قدّمت للقارئ لمحة سريعة عن تاريخ العلاقة بين العلم والدين، حيث رأينا كيف خرج العلم من رحم الدين، ثم ما لبث أن تحرّر تدريجياً من عباءة الدين، ليستمر شيئاً فشيئاً في تناول موضوعات كانت تقع ضمن اختصاص الدين! في فجر التاريخ، كان العلم في خدمة الدين، وأما اليوم فليس بوسع رجال الدين سوى مراقبة نتائج العلم الحديث، إمّا بغرض استخدام تلك النتائج للتأكيد على صحة مقولات الدين، وإما بغرض تشويهها للحط من قدر العلم والتقليل من شأنه، ولعل أحدث عمليات التشويه تلك التي جاءت ضمن خبر نشرته إحدى القنوات العربية حول نظرية 'داروين'، وفي يقيني أن تشويه العلم سيستمر إلى أن ينجلي ظلام الجهل!

الاثنين، 5 أكتوبر 2009

العلاقة التاريخية بين العلم والدين 1

جذور العلاقة التاريخية بين العلم والدين تمتد إلى فجر الحضارات القديمة، فالعلم خرج من رحم الدين، ومن المعروف أن الحضارات القديمة، مثل الحضارتين البابلية والمصرية، استعانت بقوانين الحساب والهندسة في مجال علم الفلك، ولكن بالرغم من لجوء الأقدمين إلى العلم في وصفهم لظواهر الطبيعة، فإنهم احتفظوا بالتفسير الديني لتلك الظواهر، فالآلهة كانت دوماً تقدم إجابات جاهزة عن طريق الكهنة ورجال الدين، وأما العلم فلم يكن سوى أداة في خدمة الدين، فالعمليات الحسابية كانت تساعد، مثلاً، على تحديد مواعيد الطقوس الدينية المرتبطة بمواسم الحرث والحصاد.
لكن مع بزوغ نجم الحضارة الإغريقية، وفي القرن السادس قبل الميلاد تحديداً، ظهرت على السطح ملامح أول انفصال حقيقي بين العلم والدين، وذلك على أيدي مجموعة من الفلاسفة المنتمين إلى مدينة Miletus الإغريقية (وهي تقع الآن ضمن حدود تركيا). لم يلجأ أولئك الفلاسفة إلى الآلهة في محاولة إيجاد تفسير لظواهر الطبيعة، بل اعتمدوا بدلاً من ذلك على قوى الطبيعة في تفسيرهم لتلك الظواهر. مثلا، 'طاليس' لاحظ تحوّل الماء من الحالة الصلبة، مروراً بالحالة السائلة، إلى الحالة الغازية، وقادته تلك الملاحظة إلى القول إن جميع الظواهر الطبيعة يرجع أصلها إلى مادة واحدة، وهي الماء! في المقابل، 'أنكساغوراس' تبنّى تفسيراً كيميائياً، حيث رأى أن أصل جميع المواد يعود إلى أربعة عناصر: الماء، والهواء، والتراب، والنار.
في فترة القرون الوسطى، كانت هناك محاولات دؤوبة إلى إيجاد توافق بين الإيمان والعقل، وأبرز مَن سلكوا هذا الطريق هما 'ابن رشد' و'سان توماس أكويناس'، فكلاهما كان يرى أن الدين والعلم يكمّل أحدهما الآخر ولا تناقض بينهما. هذا الرأي استند في المقام الأول إلى تعاليم 'أرسطو'، الذي لم يكن أساساً يؤمن بوجود إله، لكنه كان يرى أن هناك أربعة أسباب لأي ظاهرة طبيعية، أحدها هو ما يعرف بالسبب 'الغائي'، أي أن لكل عملية طبيعية غاية أو هدفا نهائيا تصبو إليه، فالقلب، مثلاً، غايته ضخ الدم في أنحاء الجسم، والأذن غايتها سماع الأصوات، إلى آخره! إذا كانت لكل عملية بيولوجية أو ظاهرة طبيعية غاية خاصة بها، فإن من الطبيعي افتراض أن الكون بمجمله له غاية أيضاً، وإذا كان للكون غاية، فلابد من وجود خالق يحدد طبيعة هذه الغاية. هنا تحديداً تكمن استفادة 'أكويناس' من تعاليم 'أرسطو' في محاولة التوفيق بين الدين المسيحي والعلم.
مع بدايات عصر النهضة وظهور ثورات علمية متتالية على أيدي 'كوبرنيكوس' و'كبلر' و'غاليليو' و'نيوتن'، برزت الحاجة إلى استبدال المنظور الأرسطي للكون بمنظور جديد، وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى التخلي عن التفكير الغائي في فهم ظواهر الطبيعة، حيث برز على السطح رأي يقول: وظيفة العلم تنحصر في تفسير ظواهر الطبيعة، وليس من اختصاص العلم أن يحدد هدف الرب من خلقه للكون. إقصاء التفكير الغائي عن المنهج العلمي كان بمنزلة مقدمة لانفصال جديد بين الدين والعلم، لكن ينبغي التأكيد هنا أن هذا الانفصال لم يكن ينطوي على رفض للدين، فالعلماء الذين أشرت إليهم منذ قليل كانوا جميعاً مخلصين في إيمانهم بوجود خالق، على سبيل المثال، 'نيوتن' كتب حول الدين المسيحي أكثر مما كتب في مجال الفيزياء، و'ديكارت' بنى فلسفته على فكرة وجود خالق (انظر كتابه 'التأملات'، الفصلين الثالث والخامس). من هنا فإن رفض التفكير الغائي شيء، والإيمان بوجود خالق للكون شيء آخر، فالغائية فكرة سخيفة لا تساعدنا على فهم ظواهر الطبيعة، ولعل 'فولتير' كان محقاً عندما سخر من التفكير الغائي بقوله: 'غاية الأنف هي إسناد النظارات'!
في المقال القادم، سنتطرق إلى ذورة الانفصال بين الدين والعلم، والتي جاءت على شكل تصادم بين تعاليم الكنيسة واكتشافات العلم الحديث، وسنرى كيف أدى هذا التصادم إلى إعادة صياغة العلاقة التاريخية بين العلم والدين.
يتبع،،،

الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

العلم والدين

في أي بلد، عندما يكون عدد دور العبادة أكبر بكثير من عدد المراكز العلمية، فإن من الغريب أن نسأل: ما هو الدين؟ لكن من الطبيعي جداً أن نسأل: ما هو العلم؟ دعنا نحاول أولاً وضع تعريف لمفهوم «العلم»، ثم لنفحص بعد ذلك مدى قدرة هذا التعريف على توضيح الفرق بين العلم والدين.
تعريف أولي: العلم هو بناء منطقي يهدف إلى تفسير ظواهر الطبيعة.
لعل القارئ لاحظ أن هذا التعريف واسع جداً، فالدين أيضا بناء منطقي يهدف إلى تفسير ظواهر الطبيعة. لنأخذ، على سبيل المثال، ظاهرة كسوف الشمس، فلو طلبت من عالم في مجال الفلك أن يضع تفسيراً لهذه الظاهرة الطبيعية، فأغلب الظن أنه سيشير إلى تصادف وجود القمر على خط مستقيم بين الشمس والأرض، وهذا التفسير العلمي نتيجة منطقية للقوانين الرياضية التي تحكم حركة الأجرام السماوية. بالمثل، لو سألت رجل دين عن هذه الظاهرة الطبيعية، فلعله يلجأ إلى تفسير غائي من خلال القول إن سبب الكسوف يعود إلى رغبة الخالق في تخويف عباده وحثهم على الاستغفار والتكفير عن ذنوبهم، وهذا التفسير الديني نتيجة منطقية لوجود خالق قادر على كل شيء.
نحن نرى، إذن، أن التعريف أخفق في توضيح الفرق بين العلم والدين، فهو تعريف يشمل الاثنين معاً، لكن في سياق التحليل السابق، كان لابد لنا من الحديث عن التفسير الديني والتفسير العلمي، لذا بدلاً من السؤال عن الفرق بين العلم والدين؟ دعنا نُعِدْ صياغة السؤال على النحو التالي: ما هو الفرق بين التفسير العلمي والتفسير الديني؟
لو عدنا إلى المثال السابق حول ظاهرة الكسوف، لوجدنا أن عالم الفلك سيدّعي أن هذه الظاهرة دليل على صحة تفسيره العلمي، بينما يؤكد رجل الدين أنها دليل على صحة تفسيره الديني، لذا لن يكون بوسعنا معرفة الفرق بين الاثنين من خلال الاعتماد على ظاهرة الكسوف بعد وقوعها، لكن ماذا عن ظاهرة الكسوف قبل وقوعها؟ بمعنى آخر، ماذا لو فحصنا قدرة كل تفسير على حدة، على التنبؤ بموعد الكسوف القادم؟ القدرة على التنبؤ هي أحد أهم الأدلة على صحة أي نظرية، لذا فسنحاول الآن إخضاع كِلا التفسيرين، العلمي والديني، لاختبار القدرة على تنبؤ موعد الكسوف القادم.
لنفترض أن عالم الفلك يزعم أن حساباته تشير إلى أن موعد الكسوف القادم سيكون في الساعة الثالثة ظهراً من يوم السبت القادم، ثم يأتي الموعد المحدد من دون أن نلاحظ أي كسوف للشمس! النزاهة العلمية ستجبر عالم الفلك على الاعتراف بخطأ حساباته الفلكية، وربما أيضا خطأ النظرية العلمية برمتها! لكن ماذا عن رجل الدين؟ إذا وقع الكسوف، فسيأتي الجواب على أنها مشيئة الخالق، وإذا لم يقع الكسوف، فسيأتي الجواب أيضا على أنها مشيئة الخالق، لكن لاحظ أن رجل الدين منسجم تماماً مع نفسه، فكلا التفسيرين نتيجة منطقية لوجود خالق قادر على كل شيء.
إذن، الفرق بين التفسير العلمي والتفسير غير العلمي يكمن في حقيقة أن الأول قابل للتزييف، بينما الثاني غير قابل للتزييف إطلاقاً! هنا نأتي إلى المعيار الذي وضعه الفيلسوف النمساوي «كارل بوبر» في كتابه الشهير «منطق الاكتشاف العلمي» (الجزء الأول، الفصل السادس)، وهو معيار نستطيع بواسطته التمييز بين النظرية العلمية والنظرية غير العلمية، فالنظرية العلمية تسمح لنا باختبار مدى صحتها عن طريق المخاطرة بتقديم مجموعة من التنبؤات لما سيحدث مستقبلاً، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها استعانة العالم الإنكليزي «إدموند هالي» بقوانين «نيوتن» للتنبؤ بموعد ظهور أحد المُذنّبات، إذ أكد أن الموعد سيكون في أواخر عام 1758، وقد ظهر المذنب فعلاً في الخامس والعشرين من ديسمبر من عام 1758، والمُذنّب يعرف اليوم باسم «مذنب هالي» تخليداً لذكرى ذلك العالم الإنكليزي!
ينبغي التمييز هنا بين الرجم بالغيب divination والتنبؤ العلمي scientific prediction، فالأول حصيلة تراث من الخرافة، أما الثاني فثمرة نظام رياضي محكم. أهمية مفهوم التنبؤ العلمي تكمن في وظيفته كمعيار نستطيع من خلاله تحديد هوية النظرية ومدى صحتها، فالنظرية التي لا تستطيع تقديم تنبؤات علمية قابلة للاختبار لا تنتمي إلى ميدان العلم، بل إلى ميدان الفلسفة. لاحظ أن النظرية الخطأ ليست شراً مطلقاً، فهي على الأقل تمكنت من إتاحة الفرصة لنا لاختبارها، وهذه صفة إيجابية لا تتوافر في النظريات كلها التي تقع خارج نطاق العلم!
إن السبب الذي دفع «كارل بوبر» إلى تأليف كتابه حول منطق الاكتشاف العلمي يكمن في حقيقة انبهاره من نجاح نظريتيْ النسبية العامة والنسبية الخاصة، إذ قدّم «آينشتاين» مجموعة من التنبؤات العلمية القابلة للاختبار مثل انحراف الضوء بجوار الأجرام السماوية الضخمة مثل الشمس، وقد تمكن العالم البريطاني «إدنغتون» من إثبات صحة تنبؤ «آينشتاين»! لقد اتخذ «بوبر» من نظريتيْ «آينشتاين» نموذجاً لما ينبغي أن تتصف به أي نظرية علمية، وهذا ما يفسر هجومه المشروع على نظريات أخرى تدّعي صفة العلمية، مثل نظريات «فرويد» في علم النفس، أو نظرية «ماركس» في علم التاريخ، وقد نتطرق إلى هذه النقطة في مقال قادم.

الاثنين، 14 سبتمبر 2009

الهداية المتبادلة

ينتابني أحياناً شعور غريب بأني شيطان ذو قرنين، خصوصا بعد أن أقرأ الرسائل الواردة في بريدي الإلكتروني، فأغلب تلك الرسائل تأتي من أشخاص يدعون لي بالهداية، وبالرغم من أني أبادلهم الشعور نفسه، أي أني أتمنى لهم أيضاً ما يتمنونه لي، إلا أن من الواضح أننا نختلف حول تعريف مفهوم 'الهداية': مصدر الهداية التي يعنون يقطن في مكان بعيد وراء النجوم، ومصدر الهداية التي أعني يكمن في مكان قريب تحت فروة شعر الرأس!
هناك ممن لا يكتفي بالدعوة إلى الهداية، بل يستعين أيضاً بخليط عجيب من الشتائم، لكن يبدو أن أخلاقي 'الشيطانية' تأبى أن أبادل الشتيمة بالشتيمة، لذا أراني من حيث لا أدري مُعرضاً عن الإساءة ومكتفيا بالصمت، وقبل أن أقذف بالرسالة إلى مكانها الطبيعي في سلة المهملات، أتساءل بيني وبين نفسي: كيف تستقيم الدعوة إلى الهداية مع التفنن في اختيار الألفاظ الساقطة؟!
البعض الآخر لا يلجأ إلى الشتيمة، بل يجرّب حظّه في محاولة الإقناع، وعادة ما تأتي هذه المحاولة عن طريق تضمين الرسالة بعض الروابط الإلكترونية لخطب وبرامج دينية لمشاهدتها، أي أن محاولة الإقناع ليست أصيلة، بل هي مجرد إحالة إلى جهات أخرى كي تقوم بعملية الإقناع! هنا يكمن السبب الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال، حيث أريد أن أوضح لماذا لا يستسيغ عقلي الخطاب الديني، فمن يدري؟ لعل هذا المقال يساهم أخيراً في تقليص عدد الروابط الإلكترونية التي تصلني بشكل مستمر!
بشكل عام، يحتوي الخطاب الديني على نوعين من المقولات: هناك مقولات لا أستطيع التحقق من مدى صحتها بأي وسيلة كانت، فهي لا تخضع لشروط التجربة العلمية ولا تعبّر عن نتائج منطقية، لذا لا أملك سوى أن أقف حائراً أمامها! النوع الثاني من المقولات يشير إلى معلومات قابلة للاختبار، إما بشكل مباشر عن طريق إجراء تجرية علمية، وإما بشكل غير مباشر من خلال فحص ما ينتج عنها، وفي كلتا الحالتين أجدني مضطراً لرفضها، لأنها تخفق دائماً في تجاوز الاختبار! سأتجاوز النوع الأول من المقولات لأني لا أريد أن أكلّف القائمين على 'الجريدة' ما لا يطيقون، خصوصاً في ظل قانون المطبوعات السخيف، لكن سأكتفي بمثال واحد بخصوص النوع الثاني من المقولات.
قبل فترة قصيرة، بعثت لي قارئة برابط إلكتروني لبرنامج ديني، وطلبت مني أن أدلي برأيي حول مضمونه، والبرنامج من تقديم أحد الذين اشتهروا بالتهريج وحب الإثارة، وأما الموضوع فيتعلق بفوائد الحجاب بالنسبة للمرأة، ومن ضمن الحجج التي استعان بها مقدم البرنامج تلك التي وردت في درس ديني لأحد مشايخ الأزهر، ومضمون الحجة كالتالي:
'في مجتمع مسلم محافظ، حيث تلتزم جميع النساء باللباس الشرعي، لا يشعر الرجل بأن الدهر قد أفسد جمال امرأته، فهي تبدو دائما في عينيه المرأة الأجمل، لأنه لا يرى جمال النساء الأخريات نظراً لارتدائهن اللباس الشرعي، لذا فإن فرصة إخلاصه لزوجته ستكون كبيرة جدا!'
ليس بوسعي أن أختبر صحة هذه الحجة بطريقة مباشرة، فليست هناك دراسة علمية تثبت صحتها، كما أني لا أملك مقياسا أقيس بواسطته معدل إخلاص الزوج لزوجته! لكن لحسن الحظ، بإمكاني أن أختبر صحة هذه الحجة بطريقة غير مباشرة، وهي طريقة تعرف باسم 'البرهان غير المباشر' أو reductio ad absurdum، أي أني سأسلّم بصحة الحجة كي أتمكن من فحص ما يترتب على القبول بصحتها.
حسنا، لنفرض أنك تعيش في مجتمع مسلم وأنك متزوج من امرأة ترتدي اللباس الشرعي، ثم تقول لها: يا زوجتي العزيزة، ما رأيك في إخلاصي لك؟ حمدا لله يا زوجتي العزيزة أننا نعيش في مجتمع مسلم لا يقبل بوجود امرأة لا ترتدي اللباس الشرعي، وإلا فإن إخلاصي لك لن يساوي فلساً واحداً، وسترينني أقفز كالذئب على أول امرأة أراها في الشارع!
هذا بالضبط ما سينتج عن هذه الحجة المتهافتة لو كانت صحيحة، وهي إن دلت على شيء فإنها تدل بلا شك على أن مفهوم الإخلاص رخيص جداً! لاحظ أيضا أن القبول بصحة هذه الحجة العقيمة يعني استحالة إخلاص الزوج لزوجته في مجتمع غير مسلم، وهو أمر ينافي الواقع، بل لعلّ الأقرب إلى الحقيقة هو أن الإخلاص من هذا النوع يوجد في المجتمعات غير المسلمة أكثر من وجوده في المجتمعات المسلمة، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار مسألة تعدد الزوجات.
أخيراً، لست أدعو أحداً إلى عدم الاستماع إلى الخطاب الديني، فكل شخص حر في اختيار طريقة استغلال وقت فراغه، لكني أدعو فقط إلى اختبار صحة المقولات التي يتضمها هذا الخطاب، وهنا تحديدا يكمن معنى الهداية التي أتمناها بصدق لبعض القراء ممن أغرقوا بريدي الخاص بروابطهم الإلكترونية!

الثلاثاء، 8 سبتمبر 2009

المعالجة السطحية للديمقراطية الكويتية

سنحتفل بعد سنوات قليلة بمرور نصف قرن على صدور الدستور، وبعدها بسنوات قليلة أيضاً، سنحتفل بمرور نصف قرن على إنشاء جامعة الكويت، ولعل أنسب طريقة للاحتفال بهاتين المناسبتين هي أن نعيد تقييم البحوث العلمية التي تناولت مسيرة الديمقراطية الكويتية، وذلك بغرض التعرّف على مدى مساهمة تلك البحوث في مساعدتنا على فهم تاريخنا السياسي. لو سلّمنا بقدرة البحوث العلمية على تجاوز المحيط الأكاديمي والتأثير في تشكيل الرأي العام، ولو قبلنا بحقيقة أن الرأي العام يفتقر إلى نظرة عميقة في فهم مسيرة الديمقراطية الكويتية، فإن النتيجة المنطقية هي أن البحوث العلمية هي المسؤولة عن المعالجة السطحية للديمقراطية الكويتية.
في روايته الخالدة 'الحرب والسلام'، يسخر الأديب الروسي الشهير 'تولستوي' من التفسير السطحي للأحداث التاريخية، حيث يرى أنه تفسير يعتمد على الربط بين الأحداث والأشخاص، من دون أدنى اعتبار للظروف الموضوعية التي تشكّل المحرّك الأساسي لعجلة التاريخ. إن أبرز سمات التفسير السطحي للتاريخ تكمن في الاعتماد على شخصية 'القائد العظيم' أو شخصية 'الدكتاتور الشرير'، فكلاهما مسؤول عن تحديد مسار التاريخ حسب هذه القراءة السطحية للأحداث التاريخية. بعبارة مختصرة، 'تولستوي' يخبرنا أن التاريخ لا يصنعه مجموعة من الأشخاص، مهما بلغت عظمتهم، ومهما بلغ جبروتهم.
لعل أبرز مثال على هذا النمط من التفسير السطحي للتاريخ هو ما نجده في كتاب 'الفهرست' لابن النديم، حيث نشاهد كيف تم ربط حركة الترجمة الأولى في التاريخ الإسلامي بشخصية الخليفة المأمون وزيارة 'أرسطو' للخليفة في منامه (انظر 'الفهرست'، صفحة 244). لو قبلنا بهذا التفسير السطحي لإحدى أهم حركات الترجمة في التاريخ الإنساني، فإن المحصلة هي أنه لولا زيارة 'أرسطو' للمأمون في منامه، لضاعت أغلب الأدبيات والعلوم اليونانية إلى الأبد!
لكن يبدو أننا مازلنا نتخذ من 'ابن النديم' مثالاً يحتذى به في فهمنا لتاريخنا السياسي، فعادة ما يتم الربط بين الديمقراطية الكويتية وشخصية الأمير الراحل عبدالله السالم، وهناك من يعتقد أنه كلما تعرفنا على ملامح هذه الشخصية، ازدادت قدرتنا على فهم الأسباب التي تقف خلف نشأة الديمقراطية الكويتية! إذا كنا ننسب الفضل في نظامنا الديمقراطي إلى شخصية 'القائد'، فهل من المستغرب أن نعقد آمالنا في استمرار الديمقراطية على شخصية 'القائد' أيضاً؟ بمعنى آخر أكثر تحديدا، شبح 'الحل غير الدستوري' يستمد قوته من هذا الربط السطحي بين شكل الحكم وهوية الحاكم، ولعل تعبير 'خصوصية الديمقراطية الكويتية' يشير في واقع الأمر إلى أن ديمقراطيتنا هبة أكثر منها حقا مكتسبا، وهي كذلك فعلا ما لم نتخلّص من هذا التفسير السطحي لتاريخنا السياسي (بودّي أن أسهب أكثر في توضيح هذه النقطة، لكن 'خصوصية الديمقراطية الكويتية' لا تسمح بذلك!)
هذه المعالجة السطحية للديمقراطية الكويتية لا تقتصر فقط على الجانب التاريخي، بل تتعدّاه إلى أبسط المفاهيم المرتبطة بأي نظام ديمقراطي. لنأخذ، على سبيل المثال، مفهوم 'إرادة الأمة' الذي يتردد كثيرا في الندوات السياسية، حيث يأتي عادة في سياق التذكير بأحداث تاريخية مثل تزوير الانتخابات والانقلابات السابقة على الدستور، أو في سياق الحديث عن مشكلات تقنية تتعلق بالعملية الانتخابية مثل تعديل الدوائر أو تجديد النظام الانتخابي. حسنا، لنفترض وجود انتخابات نزيهة خالية من شراء الأصوات أو تزوير صناديق الاقتراع، ولنفترض أيضا أن هذه الانتخابات النزيهة تمت وفق نظام الدائرة الانتخابية الواحدة، ولنطرح بدورنا السؤال التالي: هل يحق لنا أن نستنتج من هذه الحالة الافتراضية أن صناديق الاقتراع مرآة صادقة لإرادة الأمة؟ إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فإن كل ما بوسعنا استنتاجه هو أن صناديق الاقتراع مرآة صادقة لأثر 'البروباغندا' بجميع أشكالها في توجيه الرأي العام وتحديد نتائج الانتخابات.
عندما يدلي أغلب المواطنين بأصواتهم الانتخابية تحت تأثير المذهب الديني أو الانتماء القبلي أو العائلي، فهل من المعقول أن نتحدث عن 'إرادة الناخب'، ناهيك عن 'إرادة الأمة'؟ من جانب آخر، نجاح إعلان تجاري في زيادة الطلب على منتوج معين يدلّ فقط على جودة الإعلان، لا جودة المنتوج! بالمثل، نجاح حملة انتخابية في زيادة الرصيد الانتخابي لمرشح معين يدلّ فقط على جودة الحملة، لا جودة المرشح! لكن لاحظ أن العامل المشترك بين الحالتين هو نجاح 'البروباغندا' في شلّ قدرتنا على التفكير، وغياب التفكير يعني غياب الإرادة!

الأربعاء، 2 سبتمبر 2009

طالب علم في ورطة

سألت شاباً سوري الجنسية عن آخر أخبار رسالة الدكتوراه التي يعدها منذ بضع سنين، فأجابني بلهجة أهل حلب: 'يا خاي والله العظيم أنا في ورطة'! سألته من جديد عن طبيعة هذه 'الورطة'، فأخبرني أنه سافر من بريطانيا إلى سورية لجمع بعض البيانات المتعلقة بموضوع بحثه العلمي، وبعد عودته إلى مكان دراسته في بريطانيا، قام بتحليل تلك البيانات على ضوء النظرية العلمية التي يتبناها في بحثه، لكنه اكتشف أن أغلب البيانات جاءت متناقضة مع مبادئ النظرية، وهي نظرية تحظى بشعبية كبيرة في أحد ميادين العلم وصاحبها مفكر أميركي مشهور!
أعترف بأني لم أفهم أين تكمن الورطة، ذلك أن من الطبيعي أن تكون قدرة كل نظرية علمية على التفسير نسبية ومحدودة، كما أن هناك مبدأ عاما في فلسفة العلم يشير إلى أن النظرية التي تدّعي تفسير كل شيء لا تفسر أي شيء، ولعلّ هذا المبدأ ينطبق بشكل ملحوظ على كتابات الدكتور زغلول النجار وغيره من المهتمين بكتب ما يسمى بالإعجاز العلمي.
طلبت من صاحبي أن يأخذني 'على قد عقلي' كي يوضّح لي أين تكمن المشكلة، فأشار إلى أنه لا يستطيع إنجاز الرسالة من دون أن تأتي البيانات منسجمة مع النظرية، لذا فإن جهده الآن منصبّ على كيفية 'تعديل' البيانات بطريقة تضمن انسجامها مع الجانب النظري للرسالة!
استغربت من هذا الحرص الشديد على إثبات صحة نظرية لمجرد أنها تحظى بشعبية كبيرة، وأن من يقف وراءها عالم أميركي مشهور! لم يكن هناك أشهر من 'أرسطو' في القرون الوسطى، ورغم ذلك جاء 'جاليليو' ليقلب الطاولة على التعاليم البالية لأرسطو في مجال الفيزياء! لولا أن أظهر 'نيوتن' تحديا لفلسفة 'ديكارت' الميكانيكية، لما أصرّ على التمسك بمبدأ 'التأثير عن بعد' الذي يرتكز عليه قانون الجاذبية، ولولا مبادرة 'آينشتين' إلى الشك في مبدأ 'نيوتن' لما تعرّفنا على أعظم نظرية في القرن العشرين، ولولا تحدّي 'داروين' لتعاليم الكنيسة حول أصل الإنسان لما تعرّفنا على جذورنا الطبيعية!
اقترحت على صاحبي أن يتمسك بالنتائج التي تناقض صحة النظرية، فبهذه الطريقة سيكون موضوع رسالة الدكتوراه أكثر إمتاعاً من الناحية العلمية الصرفة، فبدلا من التسليم السلبي بصحة النظرية، لابد من إظهار نوع من التحدي الإيجابي، وهنا تحديداً تكمن متعة البحث العلمي! لكن جاء ردّ صاحبي مخيبا للآمال، وباللهجة الحلبية أيضا: 'يا خاي شو هل العلاق الفاضي، بدنا نخلص ونمشي'!
لم يبق في جعبتي سوى سلاح واحد، لذا حاولت أن أذكّر صاحبي بأن هناك بعض الشروط لإنجاز رسالة الدكتوراه، أهمها الالتزام بالنزاهة العلمية، لذا فإن إصراره على التغاضي عن تلك النتائج المناقضة للنظرية يعدّ خرقاً واضحاً لمفهوم النزاهة العلمية!
أجاب صاحبي بنبرة غاضبة بأنه لم يسرق كي أتهمه في عدم التقيد بالنزاهة العلمية!
إجابة صاحبي تدل بوضوح على المستوى المؤسف للبحث العلمي في عالمنا العربي، فالنزاهة العلمية أصبحت مقتصرة فقط على عدم سرقة جهد الآخرين، ومع تزايد عدد السرقات واللصوص، اختفى المعنى العميق لمفهوم النزاهة العلمية، وهذا موضوع مهم أرجو أن تسمح لي الظروف في أن أتطرّق إليه في مقال قادم.

الأربعاء، 26 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا-4

بعد هذا العرض الموجز لبعض ملامح عصر التنوير في إسباينا، يصبح من العسير القول بوجود حركة تنوير حقيقية في تلك الفترة من تاريخ إسبانيا، ففي ظل التدخل الدائم للكنيسة في شؤون الدولة والحياة العامة، وفي ظل حراسة محاكم التفتيش الدائمة لحدود الدولة من 'خطر' التنوير، لم يكن من الممكن أن تمتد النزعة العقلية الأوروبية إلى ما وراء جبال البيرينيس الإسبانية. يؤكد الباحث والبروفيسور الإسباني 'آلبورغ' أن 'السبب وراء الكثير من المصائب اللاحقة التي أعاقت تطور إسبانيا يكمن في حقيقة أننا لم ننعم بقرن ثامن عشر حقيقي'.
لكن لماذا نجحت الكنيسة في صد موجة التنوير في إسبانيا بالذات؟ لعل الإجابة تكمن في طبيعة العلاقة التاريخية بين الكنيسة والدولة في إسبانيا، ومن المهم هنا التعرف على جذور هذه العلاقة من خلال النظر إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه وإلى الظروف الموضوعية التي ساهمت في تطورها.
يرجع تاريخ العلاقة بين الكنيسة والدولة في إسبانيا إلى أواخر القرن الرابع الميلادي، فمنذ ذلك التاريخ أصبحت المسيحية دينا رسميا لإسبانيا، ويرجع الفضل في ذلك إلى الإمبراطور الروماني 'تيودوسيو'. في عام 1808، صدر أول دستور إسباني، والمعروف باسم 'قانون بايونا'، وفيه تم توثيق العلاقة التاريخية بين المسيحية ونظام الدولة، فالمادة الأولى من ذلك الدستور نصّت على أن الدين الكاثوليكي هو 'دين الملك والأمة، ولن يُسمح بوجود دين آخر غير هذا الدين'! حافظت الدساتير اللاحقة على هذه العلاقة الوثيقة بين 'الدين الكاثوليكي الأوحد' ونظام الدولة، لكن مع قيام الجمهورية الثانية في إسبانيا وإرسال الملك ألفونسو الثالث عشر إلى المنفى، صدر دستور 1931 الذي نصّ في مادته الثالثة على أن 'الدولة الإسبانية ليس لها دين رسمي'، ولكن هذا الطلاق الأول والأخير بين الدين والدولة في إسبانيا لم يدم سوى بضعة أعوام فقط، ليعود بعدها الدين المسيحي بقوة إلى الحياة السياسية الإسبانية عبر بوابة الحرب الأهلية، وهي حرب انتصر فيها الدكتاتور 'فرانكو' وأنصاره من رجال الكنيسة.
بعد رحيل الدكتاتور وعودة الملكية إلى إسبانيا، صدر دستور 1978 المعمول به حالياً، وعلى الرغم من تأكيد هذا الدستور على قيم الديمقراطية والحرية والمساواة، فإنه لم يستطع أن يتخلص من هذه العلاقة الوثيقة بين المسيحية ونظام الدولة. لنقرأ، على سبيل المثال، ماذا تقول الفقرة 3 من المادة 16 من الدستور الإسباني:
'لا يجوز لأي معتقد ديني أن يكتسب صفة تشريعية. السلطة التشريعية، (ممثلة في الشعب)، تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني وتحافظ على علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية والمعتقدات الأخرى'.
لا تخلو هذه الصيغة من إشكالية، فهي تدل بوضوح على عدم استناد قوانين الدولة إلى تعاليم الدين، لكنها تشير مع ذلك إلى التمسك بالعلاقة التاريخية بين الكنيسة الكاثوليكية والنظام السياسي، وهو أمر يفتح الباب على مصراعيه أمام تداخل المصالح بين رجال الكنيسة ورجال الدولة، فالدعم المادي للكنيسة من قبل السلطة السياسية، والتأثير الديني على بعض التشريعات البرلمانية، وتدخل رجال الكنيسة بالعملية التربوية، ومحاولاتهم المستمرة في التأثير على نتائج الانتخابات الإسبانية، كلها أمور يمكن إدراجها ضمن محافظة الدولة 'على علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية'!
لعلّي لا أبالغ إن قلت إني لا أجد اختلافاً كبيراً بين هذه المادة من الدستور الإسباني وتلك المادة التي تحدد طبيعة العلاقة بين الشريعة الإسلامية ونظام الدولة في أغلب الدساتير العربية، ووجه التشابه هنا يشير إلى الفشل الذريع في تحديد هوية الدولة بصورة واضحة، بدلاً من محاولة التوفيق بين قوانين وضعية من جانب وقوانين ميتافيزيقية من جانب آخر. هذا الفشل في تحديد هوية الدولة هو المسؤول عن هذا التدخل المستمر لرجال الكنيسة في الشأن السياسي الإسباني، وهو المسؤول أيضاً عن تلاشي الخط الفاصل بين الدين والدولة في معظم الأقطار العربية.
المراجع الرئيسة
- كتابHistoria Literaria de Espana en el siglo xviii، للكاتب 'أغيلار بنيال'، مدريد، 1996.
- كتابHistoria de la literatura espanola، للكاتب 'خي إل ألبورغ'، مدريد، 1992.
- كتاب The Enlightenment World، لمجموعة من المؤلفين، لندن، 2007.

الاثنين، 17 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا- 3

لا تخلو من سخرية تلك الكلمات التي جاءت في مقدمة كتاب Cartas Marruecas (رسائل مغربية)، من تأليف «كدالسو»، أحد أشهر أدباء القرن الثامن عشر في إسبانيا. كتب هذا الأديب يقول: «لقد تشجعت كثيرا في نشر رسائلي هذه، لا سيما أنها لا تتطرق إلى الدين أو الملك»! هذه الكلمات تكشف عن وجود رقابة ذاتية كنتيجة منطقية للقمع الذي عاناه الكتّاب والأدباء الإسبان طوال تلك الفترة، ولقد ساهم هذا القمع في تدهور أغلب الأجناس الأدبية مثل الشعر والمسرح والرواية.
في ما يتعلق بالشعر، كانت الرقابة تتمحور حول ثلاثة أمور رئيسة: الإباحية، والسخرية، والعيوب المتعلقة بالأسلوب. بالنسبة للشعر الإباحي، لم تسمح الرقابة بنشر هذا اللون من الشعر طوال فترة القرن الثامن عشر، فأشعار مثل «حديقة فينوس» أو «قبلات الحب» كانت توصف من قبل الرقابة بأنها أشعار «غير مفيدة وغير لائقة بالنسبة إلى أدبنا، فضلا عن كونها غير أخلاقية بشكل فاضح». أما الشعر الساخر فقد استطاع تجاوز الخطوط الحمراء بفضل ما يعرف بـPliegos de cordel، وهي عبارة عن أوراق سميكة ومثبّتة بحبل في منتصفها، وبالرغم من كونها مطبوعات غير رسمية، فإن سهولة تداولها ساهمت في تجاوز مقص الرقيب وانتشارها بين عامة الناس.
الجدير بالذكر أن جريدة «الرقيب» الإسبانية قامت بنشر قصيدتين فيهما سخرية مبطّنة من علاقة الملك بالسلطة الدينية، وأدّى ذلك إلى إيقاف الجريدة لبعض الوقت! بالنسبة للعيوب المتعلقة بالأسلوب، كانت أحكام الرقابة في معظمها أحكاما اعتباطية، ففي عام 1769 منعت الرقابة قصيدة «حكم أبولو» لأنها، حسب رأي الرقابة، «تفتقد الى القوة الشعرية وخالية من الحس الحماسي»! في بعض الأحيان، قد توثر أيديولوجية الرقيب في حكمه على أسلوب القصيدة، ويمكن أن ندلل على ذلك من خلال تلك الحالة التي منعت الرقابة فيها «أشعار مقدسة» للماركيز «دي بلاثيوس»، و جاء المنع ملخّصا في جملة واحدة: «حين يتعلق الأمر بقضية في قمة السمو والقداسة، فإن الخطأ لا يغتفر، والمحاكاة غير مسموح بها»!
إذا كانت هذه هي حال الشعر مع الرقابة، فإن من الطبيعي جدا أن يتضاعف حجم الرقابة حين يتعلق الأمر بالمسرح، فمن جهة هناك عرض حي، ومن جهة أخرى هناك جمهور، وفي تلاقي هذين العنصرين تكمن الخطورة! على خشبة المسرح، كان من الضروري احترام كلّ من: الدين، والملك، والقوانين، والذوق الرفيع، والأخلاق، والعادات والتقاليد الحميدة، وقواعد أرسطو المسرحية! من ضمن الإجراءات المتعسفة التي قاسى منها المسرح تلك التي تتعلق بالحصول على ترخيص لعرض أي مسرحية، إذ كان لا بد من الحصول على ستة تواقيع لمسؤولين عدة، من بينهم اثنان من رجال الدين!
هناك أسباب عديدة لمنع بعض العروض المسرحية أو مقاطع منها، فعلى سبيل المثال، عندما عرضت مسرحية «سانشو غارثيا»، لم يستطع الجمهور سماع البيت الشعري الذي يقول: «أشك في أن السماء ترعى الإنسان»، وذلك لتعارضه مع تعاليم الدين. قامت الرقابة أيضا، ولأسباب أخلاقية هذه المرّة، بشطب مشهد كامل من إحدى المسرحيات لأنه تضمّن وجود امرأة حامل، وجاء تعليق الرقابة على إجراء المنع مختصرا كالعادة: «مثل هذه القضايا لا علاقة لها بالمسرح»! في عام 1794، اشتد الجدل بين أعضاء الرقابة حول مدى أخلاقية عرض مشهد من مشاهد الانتحار على خشبة المسرح، فبينما أصرّ بعضهم على عدم جواز عرض المشهد لتعارضه مع تعاليم الدين، ذهب البعض الآخر إلى القول بأهمية عرض مثل هذه المشاهد «كي يتعظ الناس ويحمدوا خالقهم على نعمة الإيمان»! رجحت كفة الرأي الأول وتم منع عرض المشهد!
«لاراكيل» مسرحية شعرية تتألف من 2300 بيت، منعت الرقابة منها 735 بيتاً لأسباب سياسية. الأبيات الشعرية الممنوعة تدور في مجملها حول ضعف شخصية أحد الملوك وعدم قدرته على إدارة شؤون الدولة! لا يخلو المنع في بعض الأحيان من أسباب تتعلق بضعف الأسلوب، أو الإخلال بمفهوم الذوق العام، أو حتى أمور شكلية ونظرية مثل عدم التقيد بتعاليم أرسطو المسرحية! يرى أرسطو في كتابه Poetica أن من المستحسن في العمل الأدبي أن يحتوي على أحداث «قابلة للتصديق»، وكان لهذا الرأي صدى كبير بين الكلاسيكيين الجدد في القرن الثامن عشر، ومن ضمنهم الأديب الإسباني «دييث غونثالث»، الذي انفجر غاضبا عند قراءته مسرحية كان البطل فيها يحلم بصوت مسموع، ذلك أنه من المستحيل، حسب رأيه، أن يأتي الحلم في سياق منطقي ومحكم!
ليس هناك جنس من بين الأجناس الأدبية أكثر شمولية من جنس الرواية، ولعل هذه الحقيقة تفسر السبب وراء القرار الصادر في 27 مايو من عام 1799 من قبل مجلس الشورى في إقليم قشتالة، والذي يقضي بحظر طباعة الروايات بشكل عام! لا شك في أن الأحداث التي نجمت عن الثورة الفرنسية كانت وراء ذلك الحكم الجائر بحق الرواية، ومن المؤسف أن يلجأ بعض الكتّاب الإسبان إلى تملّق أعضاء محاكم التفتيش كي يسمحوا لهم على الأقل بترجمة بعض الروايات الأجنبية! فعلى سبيل المثال، في مقدمة الطبعة الإسبانية لـ«Pamela Andrews»، يؤكد مترجم الكتاب أنه «بهذا العمل يقدم خدمات جليلة للعادات والتقاليد الإسبانية الحميدة»، بينما يصرح مترجم آخر بأن «هذا العمل الرائع يساعد على تصحيح العادات السيئة للشعب الإسباني»! على الرغم من كل هذا القدر من الإذلال والمهانة، لم تتوقف الرقابة عن عملها فحظرت نشر العديد من الروايات الأجنبية لأنها «مليئة بالعشق والغزل، ومن شأن ذلك الإضرار بأخلاق الشباب، خصوصا الآنسات، فقد اعتدن قراءة هذا النوع من الروايات»!
(يتبع،،،)

الأربعاء، 12 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا- 2

في كتاب «مدخل إلى القرن الثامن عشر»، يتحدث الباحث الإسباني «فرانسيسكو أغيلار» عن وجود رقابة ثنائية كانت سائدة طوال فترة القرن الثامن عشر حتى صدور دستور عام 1812، وإعلان الحريات الذي قام على أنقاض النظام القديم (للمرة الأولى في تاريخ إسبانيا، نصّت المادة 131 من ذلك الدستور بشكل واضح وصريح على حرية النشر والتعبير). كانت تلك الرقابة الثنائية عبارة عن رقابة مدنية وأخرى دينية، لكن من المهم التأكيد هنا على أن الأساس الذي بني عليه هذا التقسيم الثنائي يتعلق بنوع السلطة التي تنتمي إليها كل رقابة على حدة؛ فثمة رقابة مدنية تُمارس من قبل السلطة السياسية من جهة، ورقابة دينية منوطة بمحاكم التفتيش من جهة أخرى. لذا فإن صفة «الثنائية» تشير الى مصدر الرقابة، لا إلى موضوعها، الأمر الذي يفسر حظر الكثير من الكتب التي تنتقد الدين من قبل رقابة مدنية ليست لها علاقة إطلاقا مع أي مؤسسة دينية.
في عام 1752، أصدر مجلس الشورى في إقليم قشتالة، وهو عبارة عن هيئة مدنية، قانونا يقضي بإنزال أقسى العقوبة بحق كل من يقوم بطباعة كتاب من دون ترخيص مسبق. هذه العقوبة تتلخص في فرض غرامة مالية والنفي لمدة 6 سنوات بالنسبة لصاحب المطبعة، والنفي إلى الأبد بالنسبة لصاحب المكتبة، وأما المؤلف ففي حال تعرضه بالنقد للكنيسة أو العرش، فيمكن أن يعتبر نفسه محظوظا جدا إن نجا من عقوبة الإعدام! في التاسع عشر من يونيو من عام 1756، بعث القاضي «خوان كورلير»، وهو الشخص المسؤول عن صدور القانون السالف الذكر، برسالة الى إدارة رقابة المطبوعات يحث من خلالها العاملين هناك على ضرورة أخذ الحيطة والحذر في عملهم الرقابي، داعيا إياهم أن «ينتبهوا لإصرار أعداء الدين ومكرهم في نشر أفكارهم الشريرة ودس السم بكل حذر من خلال دعوتهم الناس إلى المجون»! في الفترة ما بين 1746 و1800، امتنعت الأكاديمية الملكية للتاريخ عن نشر 392 كتاباً من أصل 930 مؤلفاً، أي بنسبة تقدر بحوالي %42، و في الفترة نفسها أيضا، بعثت رابطة الأطباء في مدريد بتقرير الى مجلس الشورى بإقليم قشتالة جاء فيه: «لا يكفي أن يحتوي كتاب ما على حقائق كي نسمح بنشره، بل يجب أيضا أن يحتوي على حقائق مفيدة للقرّاء ولا تتعارض مع قيم الدين وقوانين للدولة».
على ضوء ما تقدم، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: إذا كان هذا الحس الديني المتشدد صادرا عن رقابة مدنية لا تخضع إطلاقا لأي مؤسسة دينية، فماذا بقي، إذن، لمحاكم التفتيش ورقابتها الدينية؟ في واقع الأمر، كانت محاكم التفتيش أشبه ما تكون بـ«حرس الحدود»، خصوصا الحدود مع فرنسا، ذلك أن دورها الرقابي اقتصر على منع دخول الكتب الأجنبية المحظورة إلى الأراضي الإسبانية، ففي الأعوام 1707 و1747 و1790، قامت محاكم التفتيش، أو «العمل المقدس» كما كانت تسمى في ذلك الوقت، بنشر «فهرس الكتب الممنوعة»، وقد كان للكتب الفرنسية نصيب الأسد في ذلك الفهرس، وعلى الأخص كتب «فولتير»، والذي كان يعد من ألد أعداء رجال الدين الإسبان!
لم تكتف محاكم التفتيش بدورها في مراقبة الكتب الأجنبية، بل جعلت تضيّق الخناق على بعض الكتاب والمفكرين الإسبان ممن تشك في توجهاتهم الأيديولوجية، ولقد بلغ الأمر بهؤلاء الكتاب والمفكرين الى حد اللجوء إلى الملك واستئذانه كي يقوم بنفيهم خارج إسبانيا، هربا بجلودهم مما يلاقونه من ذل وتعذيب على أيدي رجال الكنيسة! في عام 1790، أي بعد سنة واحدة فقط من قيام الثورة الفرنسية، كشفت محاكم التفتيش، التي كانت في تلك الفترة على علاقة حميمية مع السلطة السياسية، عن الهدف من دورها الرقابي بكل صراحة ووضوح، وذلك حين أصدرت بيانا تؤكد فيه عزمها على الدفاع «عن النظام السياسي - الاجتماعي القائم»، والجدير بالذكر أن البيان لم يتطرق إلى موضوع حماية الأخلاق كما جرت العادة، ويعد ذلك سابقة في تاريخ محاكم التفتيش الإسبانية.
يتبع،،،

الاثنين، 10 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا - 1

اعتلى «آل بوربون» عرش إسبانيا في مطلع القرن الثامن عشر، وكان لهذا التغيير الجذري في الحياة السياسية انعكاسات بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل إسبانيا في العصور اللاحقة. أول هذه الانعكاسات وأهمها هو تبني بعض المفكرين الإسبان أفكار حركة التنوير ومفاهيمها التي اجتاحت أوروبا تحت مسميات مختلفة: lumieres في فرنسا، enlightenment في إنكلترا، aufklarung في البلاد الجرمانية، illuminismo في إيطاليا، luzes في البرتغال، وأخيرا، في مطلع القرن الثامن عشر، ilustracion في إسبانيا.
في عام 1687، أعرب أحد المفكرين الإسبان عن استيائه الشديد من تأخر وصول موجة التنوير الى إسبانيا، حيث كتب يقول: «إنه لمن المؤسف، بل من المخجل أيضا، أن يقدّر لنا نحن الإسبان، كما لو كنا إحدى قبائل الهنود الحمر، أن نكون آخر من يعلم عن أخبار التنوير التي انتشرت في كل بقاع أوروبا». لكن المشكلة الحقيقية، حسب رأي بعض النقاد، لم تكن في هذا التأخير، بل في رفض المجتمع الإسباني آنذاك لتبني مبادئ هذه الحركة السياسية الفلسفية الثقافية التي حمل رايتها موسوعيو فرنسا في تلك الحقبة. لم تكن رياح التغيير، التي كانت تهب في بعض الأحيان من رأس السلطة، كافية لزعزعة القيم التقليدية لمجتمع مفرط في كاثوليكيته كالمجتمع الإسباني في ذلك الوقت، كما أن الأفكار الجديدة المتمثلة بحركة التنوير كانت تعتبر أفكارا دخيلة تغذيها قوى استعمارية أجنبية، خصوصا تلك الأفكار القادمة من «باريس»! (انظر كتاب The Enlightenment World ، صفحة 415).
في كتاب «تاريخ الأدب الإسباني»، يشير البروفيسور Alborg الى انعدام فضيلة التسامح في تلك الحقبة من تاريخ إسبانيا، حيث يقول: «كان أدنى اعتراض أو نقد يوجه ضد أي من ثوابت المجتمع الإسباني يتم تصنيفه وبشكل مباشر على أنه جريمة في حق الوطن وخروج على الدين». هذه الثوابت التي يتحدث عنها Alborg تتلخص في ثلاثة أصناف من السلطة: السلطة السياسية ممثلة بالملك، والسلطة الدينية ممثلة بالكنيسة، والسلطة الاجتماعية ممثلة بالعادات والتقاليد.
في ظل هذا الوضع المتأزّم، لم تكن هناك سوى أعداد يسيرة جدا من متبني حركة التنوير الأوروبية في إسبانيا. كانت هذه الأقلية من الكتّاب والمفكرين الإسبان، أو فئة «المستنيرين»، عاجزة تماما عن التأثير في الرأي العام لمصلحة أفكارها وطموحاتها، وحتى عندما سنحت الفرصة في منتصف القرن الثامن عشر لهذه الأقلية وتحالفت رسميا مع «كارلوس الثالث»، لم تستطع أن تنجز سوى نسبة ضئيلة جدا من برنامجها الإصلاحي. أحد الأسباب الرئيسة لهذا الفشل الذريع يكمن في عدم جدية العرش في تلبية متطلبات حركة التنوير وتشكيكه كذلك في نوايا فئة المستنيرين وأهدافها، لاسيما بعد أحداث عام 1789 وبزوغ نجم الثورة الفرنسية. كانت السلطة السياسية آنذاك، ممثلة بالملك والوزراء المعينين، تعقد التحالفات تارة مع رجال الدين، وتارة مع الإصلاحيين العلمانيين، بينما ظلت الكنيسة محافظة على مكانتها كمؤثر قوي في توجيه الرأي العام وتحريضه ضد حركة الإصلاح! من الواضح أن رجال الدين اختاروا السير في اتجاهين متضادين، بينما اعتقد الإصلاحيون أن مصباحهم السحري يكمن فقط في قمة الهرم! بعد أحداث عام 1789 وفض التحالف الحكومي-الإصلاحي، كتب أحد وزراء الملك «كارلوس الرابع» إلى سفير إسبانيا في «فرساي» يقول: «يقال إن عصر التنوير هذا قد ثقّف الإنسان وجعله عالما بحقوقه، لكني أعتقد أنه سلب من الإنسان أيضا الراحة والطمأنينة»! ثم يسخر في آخر الرسالة من حركة التنوير قائلا: «نحن هنا في إسبانيا لسنا في حاجة الى إضاءة زائدة عن الحد»!
لكن ينبغي التذكير بحقيقة مهمة، وهي أن العداء لموجة التنوير لم يكن مقتصرا فقط على رجال الدين، ففي فرنسا ذاتها كانت هناك نخبة من المثقفين تقف في وجه التنوير لأسباب مغايرة. على سبيل المثال، لم تكن رومانسية «روسو» سوى ردة فعل عنيفة ضد النزعة العقلية، و هو أمر نراه بوضوح من خلال كتابه الشهير عن «اللا مساواة»، والذي يدعو فيه إلى العودة إلى حياة الإنسان البدائي ونبذ عقلية الإنسان المدني. عندما بعث «روسو» بنسخة من كتابه إلى «فولتير»، جاء رد هذا الأخير مغلفا بسخرية لا يجيدها إلا «فولتير» نفسه، ففي الثلاثين من أغسطس من عام 1755، بعث «فولتير» برسالة إلى «روسو» يقول فيها: «إن من يقرأ كتابك تعتريه رغبة عنيفة في المشي على أربع»!
يتبع،،،

الأربعاء، 5 أغسطس 2009

ماذا لو كنتُ مخطئاً؟

'الدوغما' هي الإيمان المطلق بصحة رأي معين، بينما التعصّب هو الدفاع المستميت عن صحة رأي بأي ثمن. هناك، إذن، اختلاف طفيف بين مفهومي 'الدوغما' والتعصب، فالأول يعبّر عن موقف، والثاني يعبّر عن ممارسة. إذا قبلنا بصحة هذين التعريفين، فإن بوسعنا أن نصل إلى الاستنتاج التالي: 'الدوغما' شرط أساسي لوجود التعصب، فمن دون 'دوغما' لا يوجد تعصب، ذلك أن من غير المعقول أن تدافع بشراسة عن رأي لا تؤمن بصحته! إذا كان هذا صحيحاً، فإن مكافحة التعصب في أي نظام تعليمي لابد أن تعتمد على سياسة تعليمية قائمة على نبذ التفكير 'الدوغماتي'. بمعنى آخر أكثر تحديداً، إذا أردنا تطهير نفوس الطلاب من التعصب بجميع أشكاله، فلابد أولا من تطهير عقولهم من الميل اللانقدي إلى الإيمان المطلق بصحة آراء معينة، ومن ضمنها تلك الآراء التي يعتبرها البعض آراء مقدسة.
لو نظرنا إلى سياسة التعليم على أرض الواقع، لوجدنا أنها سياسة متناقضة، فهي من جهة تكافح التفكير 'الدوغماتي' والمتعصب من خلال مناهج العلوم الطبيعية، لكنها تعزز، من جهة أخرى، 'الدوغما' والتعصب من خلال مناهج التربية الدينية والوطنية. كي نقف على حقيقة هذه السياسة المتناقضة لنظامنا التعليمي، دعنا نر ما هو أثر تدريس هذه المناهج الدراسية المختلفة على عقول الطلاب.
في مناهج العلوم الطبيعية، نقدّم إلى الطلّاب حقائق علمية كثيرة، لكننا لا نطالبهم بالقبول المسبق بصحة هذه الحقائق، بل نلفت انتباههم إلى وجود أدلة عقلية أو مادية تدعم صحة كل حقيقة علمية، ثم نتيح لهم التحقق من ذلك بواسطة إجراء التجارب العلمية. هنا يبرز الدور الحيوي لمفهوم 'التجربة العلمية' في مكافحة التفكير 'الدوغماتي' والمتعصب، فالتجربة ليس لها قيمة إذا لم يكن لديك استعداد في قبول نتائجها، مهما جاءت متعارضة مع ما تؤمن به. بمعنى آخر، نستعين بإجراء التجارب العلمية لأننا نتوقع أن تقودنا هذه التجارب إلى نتيجة معينة، لكن إذا لم يكن لدينا استعداد لتغيير قناعتنا مهما كانت نتائج التجربة العلمية، فإن فكرة إجراء التجربة تفقد أي معنى لها! إن أبرز ما يميّز المناهج العلمية هو أنها تربي في نفوس الطلاب فضيلة الشك وعدم القبول بصحة أي رأي من دون وجود دليل عقلي أو مادي، وهذا بالضبط ما يفتقر إليه التفكير 'الدوغماتي' والمتعصّب!
لو انتقلنا الآن إلى مناهج التربية الدينية، فسنجد أن الصورة معكوسة بشكل صارخ، فنحن نقدم إلى الطلاب مجموعة من 'الحقائق' غير العلمية، ثم نتوقع منهم القبول المسبق بصحتها، والجدير بالذكر أن بعض هذه الحقائق مستوفٍ لشروط إجراء التجرية العلمية، وبالرغم من ذلك لا يتم إخضاعها للتجربة للتحقق من مدى صحتها، فهي تُقدم بوصفها حقائق ثابتة غير قابلة للشك! ما يزيد الطين بلّة هو تشويه مفهوم 'الدليل العلمي'، فمعنى هذا المفهوم في هذه المناهج لا يشير إلى علاقة رياضية أو تجربة مخبرية، بل إلى نصوص دينية! لو سألت طالباً عن مدى صحة 'حقيقة علمية' وردت في نص ديني، فأغلب الظن أنه سينظر إليك باستغراب وربما اعتقد أنك أحمق، لكن ليس من العدل أن نلوم هذا الطالب، فهذا النوع من المناهج جعله يعتقد أن ورود هذه الحقيقة العلمية في نص ديني يكفي لإثبات صحتها!
الدين يعبّر عن حاجة روحية يراها البعض ضرورية، لكنه ليس مصدراً للمعرفة العلمية، لذا لست أدعو إلى إلغاء المناهج الدينية، بل إلى إعادة النظر في طريقة تدريس مثل هذه المناهج. هناك، مع الأسف، حرص شديد على تلقين االطالب كيف يجيب عن أي سؤال، لكن سيكون من المفيد لنا جميعا أن ندفعه إلى أن يطرح على نفسه سؤالاً واحدا فقط: ماذا لو كنتُ مخطئاً؟ فهذا هو السؤال الغائب عن عقل كل إنسان متعصب!

الاثنين، 3 أغسطس 2009

سر الحديقة

هي حديقة من دون مزارع يعتني بها، تخضرّ حينا، وتصفرّ أحيانا كثيرة، ولكنها استطاعت على مر السنين أن تحتفظ بهويتها كحديقة! إلى جانب بعض الأشجار والأعشاب المتناثرة هنا وهناك، تقطن الحديقة مستعمرتان من النمل، مستعمرة في شرق الحديقة، ومستعمرة في غربها· العلاقة بين النمل الشرقي والنمل الغربي ظلت متذبذبة لسنوات عديدة، وأغلب ما يميز هذه العلاقة هو هذا التنافس الشرس للحصول على خيرات الحديقة، ولكن ميزان القوة بدأ يميل شيئا فشيئا لصالح المستعمرة الغربية، والسبب في ذلك يعود إلى تغير طاريء في طريقة تفكير النمل الغربي تجاه الحديقة ومحاولة فهمها!
ما سر الحديقة؟ هل هناك مزارع يرعاها؟ لماذا تتقلب الحديقة بين الاخضرار والاصفرار، وهل هناك قوانين تتحكم بشكل الحديقة، أم أن مصير الحديقة مرهون بإرادة مزارع مجهول، يصرّف أمورها كيفما شاء؟ هذه بعض الأسئلة التي أقلقت النمل الغربي، الذي وجد نفسه أمام احتمالين: إذا كان للحديقة مزارع، فمن العبث محاولة فهم القوانين التي تنظم الحديقة، ومن غير المجدي دراسة نظام يعتمد على مزاجية مزارع! لكن ماذا لو لم يكن هناك مزارع؟ في هذه الحالة تصبح عملية فهم القوانين المنظمة للحديقة منطقية، وكلما فهمنا هذه القوانين، زادت فرصة استثمارها لصالحنا! على هذا النحو راح يفكر النمل الغربي، ومنذ هذه اللحظة الحاسمة بدأ ميزان القوة يميل إلى جهة الغرب!
في الوقت الذي سادت فيه ثورة في التفكير في الجهة الغربية من الحديقة، ظل النمل الشرقي متمسكا بالطريقة البدائية في التفكير، فاخضرار الحديقة يعود إلى رضا المزارع وكرمه، واصفرارها يرجع إلى عضب المزارع وسخطه! هذا النمط من التفكير قاد النمل الشرقي إلى معرفة متى يغضب المزارع ومتى يرضى، وكيف السبيل إلى اجتناب غضبه والظفر برضوانه! كنيتجة حتمية، نشأت طقوس متعددة في مستعمرة النمل الشرقي، وكلما ازداد الحرص على التمسك بهذه الطقوس، ابتعد النمل الشرقي عن فهم "سر الحديقة"!
المحصلة النهائية هي أن النمل الغربي نجح تدريجيا في اكتشاف سر الحديقة، واستطاع التنبؤ بدقة متناهية بموسم ازدهار الحديقة وموسم اندثارها، بل لقد تمكن أيضا من إخضاع الحديقة لاحتياجاته من الطعام، ثم راح يبيع المخزون الفائض عن الحاجة لمستعمرة النمل الشرقي! رغم كل ذلك، مازال النمل الشرقي يكابر بكل حماقة، ويعاند بكل سذاجة، رافضا تفسير النمل الغربي لسر الحديقة، ومتمسكا بطقوس أكل الدهر عليها وشرب!
سر الحديقة يكمن في داخلها، هكذا يعتقد النمل الغربي، أما النمل الشرقي فكان ولا يزال يؤمن بأن هذا السر يقبع في مكان ما خارج أسوار الحديقة! هذا هو السبب الرئيس في تفوق النمل الغربي على نظيره الشرقي!

التعصب الديني والمناهج الدراسية

أليس صحيحاً أن بعض النواب مدينون للاستقطاب الطائفي في وصولهم إلى البرلمان؟ هذه ليست تهمة، بل حقيقة يصعب تجاهلها، وهناك اختبار بسيط للتحقق من صحتها بأن يحاول هؤلاء النواب، مثلاً، خوض الانتخابات في دوائر انتخابية أخرى!


في الأيام القليلة الماضية، كان منهج التربية الإسلامية موضوعاً ساخناً على الساحة السياسية في الكويت، ويبدو أن النزاع مازال على أشده بين فريقين، فمن جهة هناك من يطالب بالإبقاء على المنهج من دون حذف أو تعديل، ومن جهة أخرى هناك من يطالب بحذف بعض النصوص التي لا تدعو إلى التسامح واحترام الآخر. مشكلة هذا النزاع تكمن في حقيقة أنه نزاع عقيم ومن دون فائدة، والسبب في ذلك بسيط ومباشر: سيبقى التعصب الديني قائماً بصرف النظر عن هوية من ستكون له اليد الطولى في تحديد منهج التربية الإسلامية، لأن طريقة معالجة المشكلة لا تمس منها سوى القشور، لا الجذور!
إن من السذاجة الاعتقاد بأن تغيير منهج دراسي سيدفع الطلاب إلى التسامح واحترام المذاهب المغايرة، فلو لم يسمع الطلاب عبارات التكفير في المدراس، فإنهم حتماً سيسمعونها في المساجد والحسينيات وحتى في الجلسات الأسرية المغلقة، ذلك أن جذور التعصب الديني تمتد إلى خارج أسوار المدرسة، كما أن التعصب الطائفي يبلغ من العمر أكثر من 1400 سنة، و لم يكن له أن يبقى حيّا كل هذه القرون من الزمن لولا حرص كلا الطرفين على أن 'تبقى حزازات النفس كما هي'!
هناك مظاهر عديدة لهذا الحرص المشترك بين الطرفين على إبقاء الصراع الطائفي حيّاً، أبسطها نجده في نوعية اختيار أسماء المواليد الجدد، ومن السهل ملاحظة تنامي الإصرار عند الطرف السني على اختيار أسماء مثل 'عمر' أو 'عثمان' لمجرد استفزاز الطرف الشيعي، بينما يتحاشى هذا الأخير اختيار هذا النوع من الأسماء وكأنها 'تابو'! هنا أستذكر التصريح الذي أدلى به النائب الفاضل حسن جوهر لـ'الجريدة'، مؤكداً أن 'مناهجنا كان عليها لغط كبير، وهي لا تدعو إلى التسامح واحترام المعتقدات والمذاهب الإسلامية الأخرى، وتحوي أموراً غير مقبولة لدى بعض الشرائح في المجتمع'. لا غبار على تصريح النائب الفاضل، لكن إذا فشل الطرفان في التسامح حتى على مستوى اختيار أسماء أطفالهم، فكيف نتوقع منهما التسامح في أمور أكثر تعقيداً؟ كيف يشيع التسامح بين الطلاب بينما تفضح أسماؤهم مدى تعصّب آبائهم؟ ثم هل هي مصادفة، مثلاً، أن يكون 'حسن' هو الاسم الأول للنائب الفاضل، أو أن تكون كنيته هي 'أبو مهدي'؟
من جانب آخر، أليس صحيحاً أن بعض النواب، ومنهم النائب جوهر، مدينون لهذا الاستقطاب الطائفي في وصولهم إلى البرلمان؟ هذه ليست تهمة، بل حقيقة يصعب تجاهلها، وهناك اختبار بسيط للتحقق من صحتها: ليحاول هؤلاء النواب، مثلا، خوض الانتخابات في دوائر انتخابية أخرى، ولو فعلوا لاكتشفوا إلى أي مدى هم مدينون للتعصب الطائفي في تحقيق طموحاتهم السياسية، ولعل وصول النائب الفاضل فيصل الدويسان إلى البرلمان يكشف عن أحدث الطرق في استخدام التجاذب الطائفي واستثماره بشكل براغماتي! لاحظ أن الشعارات الانتخابية التي تدعو إلى روح المودة والإخاء بين المذاهب الإسلامية تندرج أيضا تحت بند استثمار التجاذب الطائفي!
في السياق نفسه، طالب النائب حسن جوهر بأن 'يتم تدريس الثقافة الإسلامية العامة دون الخوض في التفاصيل والخلافات المذهبية'. يبدو أن النائب الفاضل تناسى أنه أكاديمي قبل أن يكون سياسياً، إذ كان من الأجدر به أن يقدّم حلّا يستأصل بواسطته جذور المشكلة، بدلا من الاكتفاء برفع الأذى عن الشريحة الانتخابية التي يمثلها!
في المقال القادم، سأحاول أن أبيِّن أين تكمن جذور التعصب الديني في مناهجنا الدراسية، وأن أدلل أيضاً على أن وجود مثل هذا التعصب ليس سوى نتيجة منطقية لنظام تعليمي قائم على أسس متناقضة.

الجمعة، 31 يوليو 2009

الدين والأدب

أثناء عطلة نهاية الأسبوع الماضي، قضيت وقتاً ممتعاً في قراءة نص مسرحية 'تاتانيا'، والنص من تأليف الأستاذ بدر محارب، وأما أحداث المسرحية فتدور في قرية معزولة اسمها 'تاتانيا'، يعيش فيها أناس أميّون لا يحسنون القراءة أو الكتابة، ويتحكم في إدارة شؤونها رجل دين يدعى القس 'بيير'.
يصل إلى القرية المدرس 'رامون'، محاولاً إخراج أهلها من الظلمات إلى النور، لكنه يكتشف صعوبة المهمة التي جاء من أجلها، فأهل القرية أسرى لأوامر القس ونواهيه، يطيعون كلمته ويخشون سطوته!
وبعد محاولات عديدة، ينجح 'رامون'، أو هكذا يظن، في إقناع أهل القرية بالوقوف ضد القس والتمرد على سلطته، فيثور القس غضباً ليتهم المدرس بأنه 'ملحد وكافر وزنديق'، ثم يأمر بالقبض عليه وإيداعه السجن بتهمة إفساد عقول أهل القرية وتأليب قلوبهم ضد تعاليم الرب، وتتوالى الأحداث بعد ذلك إلى أن يكتشف القارئ ما لم يكُن في الحسبان!
من الواضح أن المسرحية لم تقع في 'المحظور'، فانتقاد سطوة رجال الدين جاء من خلال إطار الدين المسيحي، كما أن موضوع 'الإلحاد' لم يكن موضوعاً مركزياً، بل مجرد 'تهمة' عابرة وقد تكون غير صحيحة! هنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: كيف سيكون شكل الأدب العربي، يا ترى، لو كانت لدى المبدعين العرب حرية مطلقة في التعبير عن إبداعهم الأدبي؟ من الصعب العثور على إجابة مباشرة عن هذا السؤال، فالإبداع الأدبي لا يخضع لقدرتنا على التنبؤ، لكن بإمكاننا على الأقل أن نحصل على إجابة غير مباشرة، من خلال إلقاء نظرة سريعة على بعض الأمثلة من الأدب العالمي، حيث نشاهد كيف تم انتقاد التراث المسيحي من الداخل، أي على أيدي أبنائه.
في رواية 'الأخوة كارامازوف' لدوستويفسكي، يسرد الأخ الملحد 'إيفان' على أخيه المؤمن 'أليوشا' حكاية تدور أحداثها في مدينة إشبيلية، حيث يعود السيد المسيح من جديد ويتعرف عليه أهل المدينة من خلال أعماله الخارقة للطبيعة، لكن السيد المسيح اختار وقتاً غير مناسب لعودته، فالزمن هو زمن التشدد الديني ومحاكم التفتيش!
وبعد أن ذاع الخبر بين الناس، أصدر رئيس محاكم التفتيش أمراً بالقبض على السيد المسيح وإيداعه السجن! في جنح الظلام، يزور رئيس محاكم التفتيش السيد المسيح في زنزانته ليخبره أن الكنيسة لم تعُد في حاجة إليه، وأن قرار عودته يعرقل المهمة الأساسية لرجال الدين! هذا المقطع من الرواية آية من آيات الأدب الإنساني، لكن ما يهمنا هنا هو معرفة مضمون هذه 'المهمة الأساسية لرجال الدين'، وهذا ما نجده في خطاب رئيس محاكم التفتيش إلى السيد المسيح، حيث يقول: 'لقد أنجزنا المهمة... فالناس تخلوا عن حريتهم طواعية ووضعوها تحت أقدامنا' (أي تحت أقدام رجال الدين)!
في عام 1930، خرجت إلى النور رواية 'سان مانويل بوينو'، للكاتب الإسباني ميغيل دي أونامونو، وتدور أحداثها في قرية جبلية في شمال غرب قشتالة، فيها راهب طيب القلب يحظى باحترام جميع أهالي القرية، لكن ما كان خافياً على الجميع هو أن الراهب نفسه لا يؤمن بوجود حياة بعد الموت، وقد استطاع الراهب أن يخفي سره عن أهالي القرية إلى يوم وفاته، وعذره في ذلك أن الإيمان بحياة أخرى يشيع الطمأنينة في قلوب أهالي القرية، فليس كل إنسان قادر على التسامح مع فكرة الموت من دون وجود ضمانات لحياة أخرى!
من المرجّح أن يكون 'أونامونو' قد استعان بالقصة الحقيقية للأب 'ميسلييه' في كتابة روايته، ففي أوائل القرن الثامن عشر، كان هناك راهب فرنسي يدعى الأب 'جان ميسلييه'، وبعد وفاته، تم العثور على دفتر مذكراته الخاص، وفيه نجد اعترافاً صريحاً بالإلحاد، بل وتمرداً على كل تعاليم الدين!
لست أتوقع قراءة قصص مشابهة في أدبنا العربي المعاصر، فمازال الطريق طويلاً وشاقاً، لكن سيأتي اليوم الذي نقرأ فيه رواية عربية تتحدث عن شيخ دين يُظهر عكس ما يبطن، تماماً مثل الراهب الطيب في رواية 'سان مانويل'! هناك بالطبع حركة إلحادية تاريخية في تراثنا العربي، تحدث عنها الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه الشهير 'تاريخ الإلحاد في الإسلام'، لكني لست في صدد الحديث هنا عن تيارات فلسفية وفكرية، بل أعمال أدبية وفنية.
هناك أيضا كتاب حديث نسبيا منشور تحت عنوان 'محنتي مع...'، ولكن هوية مؤلف هذا الكتاب ليست حقيقية، كما أن الكتاب ليس عملاً أدبياً بالمعنى الحرفي، بل مجرد اعترافات شخصية لأسماء وهمية!
معالجة الأدب للمسائل الدينية خطوة مهمة على الطريق الصحيح، فالأدب الملتزم لن يجد قضية أكثر إلحاحاً من قضية الدين!
ملاحظة: غدا وبعد غد، سيتم عرض مسرحية 'تاتانيا' على مسرح الدسمة في تمام الثامنة والنصف مساء، وهذه فرصة لمن أراد أن يقضي وقتا ممتعا في مشاهدة عمل أدبي جميل.

حديث حول القمر

من أشهر الصور في تاريخ الفوتوغرافيا تلك التي تم التقاطها قبل أربعين عاماً، ويبدو فيها أثر قدم أحد رواد الفضاء على سطح القمر، لكن الجدير بالذكر هو أن أثر تلك القدم مازال موجوداً على سطح القمر، وسيبقى في مكانه ملايين السنين، فمن المعروف أن القمر ليس له غلاف جوي، ولا يوجد على سطحه ماء، ولم يعد يحتوي على براكين نشيطة، مما يعني أن فرصة بقاء أثر قدم الإنسان على سطح القمر كبيرة جداً، ومن يدري؟ لعل بقاء أثر أقدام الإنسان على سطح القمر سيكون أطول من بقاء الإنسان نفسه على سطح الأرض، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار نزعة التدمير الذاتي لدى الإنسان وميله الغريزي إلى الحروب والدمار والعدم!

الفضاء هو المكان الذي يقطن فيه جيران كوكب الأرض، والقمر هو أقرب جيراننا، لكنه جار خرج من رحم الأرض، فهناك شبه إجماع بين علماء الفضاء على كيفية نشوء القمر، ويمكن تلخيص نظرية نشوء القمر بشكل مبسّط على النحو التالي: قبل أربعة مليارات سنة تقريباً، اصطدم كوكب الأرض بجسم آخر يوازي في حجمه حجم كوكب المريخ، وأدى الاصطدام إلى فقدان الأرض لجزيء كبير من جلدها الصخري، ثم تلاحمت في ما بعد الصخور المتطايرة لتدور في فلك الأرض على شكل جسم دائري، وهذا الجسم الدائري هو القمر! إذا صحّت النظرية (وهناك أدلة علمية على صحتها، لكن لا مجال لذكرها الآن)، فإن هذا يعني أن رحلة 'أرمسترونج' ورفاقه إلى سطح القمر لم تتجاوز سطح الأرض بالمعنى الحرفي، فهي ليست سوى زيارة للفرع الذي انشق قبل مليارات السنين عن الأصل.

ارتبط القمر بثقافات الشعوب على مر العصور، فالقمر هو نديم العشاق في أشعار المحبين، ولعلي أستثني من ذلك الشاعر الأرجنتيني ليوبولدو لوغونس، الذي سخر من صورة القمر ومن هيام العشاق في كتابه الشعري Lunario Sentimental، المنشور في عام 1909، ولكنه نجح مع ذلك في وصف سطح القمر في أشعاره بطريقة لا تختلف كثيرا عما شاهده 'أرمسترونج' ورفاقه قبل أربعين سنة! من ناحية أخرى، ساعد دوران القمر المنتظم حول الأرض في تمكين الإنسان من وضع التقويم القمري، فالقمر يستغرق 27 يوماً و7 ساعات و20 دقيقة كي يكمل دورة واحدة حول الأرض، لكن الأرض أيضا تدور في فلكها حول الشمس، مما يعني وجوب إضافة فارق الوقت الذي يسمح للقمر في الرجوع من جديد إلى نقطة البداية، لذا فإن التقويم القمري يحتوي على 29 يوماً و12 ساعة تقريباً! لكن في المقابل، الأرض تكمل دورة كاملة حول الشمس في حوالي 365 يوماً، لذا فإن الفارق بين التقويم القمري والتقويم الشمسي يساوي 11 يوماً، ولهذا السبب يأتي شهر رمضان في كل عام متقدماً عن السنة السابقة بحوالي 10 إلى 11 يوماً.

في الجزيرة العربية، وقبل مجيء الإسلام بمئات السنين، كان العرب يتبعون التقويم القمري في شؤونهم اليومية، لكن التقويم القمري كما لاحظنا لا يتصف بالثبات، ونظرا لأهمية الأشهر الحرم في رواج التجارة وتأمين سير القوافل، إذ تتوقف في تلك الأشهر كل أشكال العنف من ثأر وحرب ونهب، برزت الحاجة إلى اعتماد التقويم الشمسي بدلا من التقويم القمري، فهذه هي الطريقة المثلى لضمان تزامن الأشهر الحرم مع فترة جني المحاصيل وتحسن الطقس وسهولة الترحال من مكة وإليها. حدث هذا الانتقال إلى التقويم الشمسي قبل 200 عام فقط من مجيء الإسلام، وهو انتقال تطلّب معرفة حسابية بقوانين الفلك، وهذه كانت وظيفة 'القلمس'، التي اشتهر بها بنو كنانة، لكن مع مجيء الإسلام، ونزول 'إنما النسيء زيادة في الكفر'، إلى آخر الآية 37 من 'سورة التوبة'، تم منع التقيد بالتقويم الشمسي والعودة من جديد إلى التقويم القمري، وتشترك أغلب كتب التفسير في التأكيد على أن سبب المنع يعود إلى ميل القبائل العربية إلى التحكم بموعد حلول الأشهر الحرم بما يتناسب مع رغبتها في الاقتتال! لكن هناك تفسير آخر، وهو أن سبب المنع يكمن في محاولة التقليل من أهمية 'القلمس' ومكانته الروحية، والحد من الاحترام الكبير الذي كان يحظى به، أي أن السبب سياسي صرف (انظر في هذا الصدد كتاب A History of Astronomy، للمؤرخ الهولندي Pannekoek، صفحة 27).

هناك اعتقاد يشير إلى تأثير حركة القمر على قدرات الإنسان العقلية والنفسية، ومازالت هناك بقايا لهذا الاعتقاد في بعض اللغات، فكلمة Lunatic تعني بالإنكليزية 'مجنون' أو 'طائش'، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Luna، وتعني 'القمر'. لكن العلاقة بين القمر والأرض تتجاوز مجرد التأثير على معتقدات الشعوب وثقافاتهم، فمن المعروف أيضا أن قوة جذب القمر للأرض هي المسؤولة عن حركتي المد والجزر من جانب، وعن الشكل البيضاوي للأرض من جانب آخر! بالمقابل، الأرض تمارس قوة جذب باتجاه القمر، وقد ساهمت قوة الجذب هذه في تساوي دورة القمر حول نفسه مع دورته حول الأرض، ولهذا السبب تحديداً لا يمكننا أن نشاهد أبداً الوجه الآخر للقمر! يقول العلماء إن الأرض ستلقى المصير نفسه، فبعد مليارات السنين منذ الآن، سيساهم القمر في تقليل سرعة دوران الأرض بحيث تكون الدورة المحورية (دوران الأرض حول نفسها) مساوية للدورة المدارية (دوران الأرض حول الشمس)، مما يعني أن جانباً واحداً من الأرض سيكون مقابلا للقمر على الدوام، في حين لا يرى مَن يعيش في الجانب الآخر من الأرض صورة القمر أبداً! إذا كنت تعيش في الجانب الذي يسمح لك في مشاهدة القمر، فستلاحظ أن القمر يبدو ثابتاً في السماء من دون حراك (انظر كتاب The Universe، لمؤلفه John Scalzi).

أخيرا، إذا كان القمر سيبدو ثابتاً في السماء بعد مليارات السنين، وإذا افترضنا (من ضمن افتراضات أخرى) بقاء فصيلة الإنسان على سطح الأرض إلى ذلك الحين، فإن ما سوف يترتّب على ذلك هو أن الأجيال القادمة من المفسرين وطلاّب العلم الديني سيجدون أنفسهم مرغمين على إعادة تفسير الآية المتعلقة بمنازل القمر.

قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر (2)

هناك علاقة لا تناظرية (asymmetric relationship) بين الحاجة والرغبة، فالحاجة تبرّر الرغبة، لكن الرغبة لا تبرّر الحاجة، فمثلاً، قد تحتاج إلى شراء سيارة لظروف قاهرة، لذا فإنه من الطبيعي أن تكون لديك رغبة في شراء سيارة، لكن في المقابل، قد تكون لديك رغبة في اقتناء سيارة، لكنك تتنازل عن هذه الرغبة لأنها لا تنم عن حاجة ضرورية.
هذه العلاقة اللا تناظرية إيجابية وصحية، فهي تدل على أمرين: الأمر الأول، هو أنك تملك من الأشياء ما تحتاج إليه فعلاً، والثاني، هو أن لديك قدرة فائقة على التحكم في رغباتك ونزواتك الشخصية.
لكن الأمر المؤسف هو أن المحافظة على هذه العلاقة الصحية تكاد تكون مستحيلة في عصر رأسمالي قائم على فكرة الاستهلاك، وتعود جذور هذه المشكلة إلى عشرينيات القرن الماضي، عندما قام Edward Bernays بالاستفادة من نظريات علم النفس ووضعها تحت تصرّف رجال الأعمال والشركات الكبرى، مستفيداً من أدوات التحليل النفسي التي صاغها Freud، ومن مفهوم 'غريزة القطيع' كما جاء في أعمال Trotter، ومن مفهوم 'سيكولوجية الجماهير' كما جاء في أعمال Le Bon.
كان الهدف الأساسي هو تشكيل عقول الناس بطريقة تضمن استمرار عادة الاستهلاك وتلبية مصالح الطبقة التجارية، ولتحقيق ذلك، كان لابد من القضاء على قدرة الفرد على التمييز بين الحاجة والرغبة، لذا لجأ Bernays إلى سلاح 'البروباغندا'، فهو سبق أن تساءل بخبث: 'لماذا لا تنجح (البروباغندا) في زمن السلم كما نجحت في زمن الحرب؟!'.
كان Bernays يعتقد أنه إذا أراد أصحاب الشركات الكبرى إنتاجا شاملاً للبضائع، فلابد من خلق حاجة دائمة إلى الاستهلاك، وهو أمر لن يتحقق إلّا إذا استطاعت الماكينة الدعائية التحكم في الرأي العام وتوجيهه نحو المزيد من الاستهلاك (انظر كتابه Manipulating Public Opinion، 1928).
كان Bernays يراهن على غباء الناس وعلى 'غريزة القطيع'، وبالنظر إلى شهية الاستهلاك التي اجتاحت العالم منذ الربع الأول من القرن الماضي، ليس لنا سوى أن نسلّم بأن Bernays كسب الرهان!
يستمد الإنسان قيمته من صميم ذاته ومن قدراته الشخصية، لكن في ظل موجة الاستهلاك التي اجتاحت العالم منذ بدايات القرن الماضي، أصبحت قيمة الإنسان مرتبطة بما يملك من أشياء، وهو ارتباط غير حقيقي! في كتاب The Sane Society، من تأليف استاذ علم النفس الاجتماعي Erich Fromm، هناك وصف دقيق لمدى تهافت العلاقة بين المستهلك والبضاعة المستهلكة. يقول Fromm 'في الماضي، كانت هناك علاقة حميمية بين الإنسان والأشياء التي يشتريها بماله، أما في عصر طفرة الاستهلاك، أصبح من غير الممكن وجود مثل هذه العلاقة، ذلك أنه ليس هناك وقت كافٍ لنشوئها، فالمستهلك مغرم بكل شيء جديد، وهو لهذا السبب على استعداد لاستبدال ما يشتريه اليوم لقاء ما يستجد غدا' (صفحة 131).
ثم ينتقل Fromm إلى عقد مقارنة بين اللذة الناتجة عن تجربة حقيقية، واللذة المزيفة التي هي وليدة عادة الاستهلاك 'عندما أقرأ كتاباً، أو أشاهد منظراً خلاباً، أو أتحدث مع صديق، أشعر أني خضت تجربة حقيقية وتلقائية، تجربة تجعلني أحس أني لم أعد كما كنت قبل خوض تلك التجربة، كأن شيئاً في داخلي قد تغيّر! هذه اللذة الحقيقية تقف على النقيض من تلك اللذة الناتجة عن الاستهلاك، فعندما ألبّي رغبتي في شراء شيء لا أحتاج إليه، لا يطرأ أي تغيير في ذاتي، ولا أشعر بأي إضافة إلى قيمتي كإنسان! كلنا يعرف شعار كاميرا Kodak الذي يقول: اضغط الزر، ونحن نتكفّل بالباقي!' ليس مطلوبا منك أن تفعل أي شيء، أو أن تعرف أي شيء، بل كل ما يتعين عليك عمله هو أن تضغط الزر! إن السائح الذي نراه منشغلا في التقاط الصور لا يرى شيئا إلا من خلال الكاميرا المعلقة في رقبته! الكاميرا تستمتع بمشاهدة المناظر المحيطة نيابة عنه، وأما هو (أي السائح) فقد استبدل تجربة روحية حقيقية بحفنة من الصور!' (صفحة 133).
لكن الأمر لا يقتصر فقط على استهلاك الأشياء، ذلك أن الإنسان نفسه أصبح موضوعاً للاستهلاك! عندما وصل أينشتاين إلى أميركا، أرادت إحدى شركات التبغ الاستفادة من شهرته الكبيرة، فعرضت عليه أن يقوم بعمل دعاية لإحدى منتوجاتها مقابل مردود مالي كبير، لكن أينشتاين رفض العرض، وقد عبّر عن غضبه من كثرة هذه العروض بطريقة ساخرة، حيث يقول 'هؤلاء المسوّقون الأغبياء لا يفرّقون بين طالب العلم والعاهرة'!
لكن هناك في المقابل من يحرص على تسويق ذاته من دون مقابل مادّي، ففي عصر المال، تضاءلت قيمة الإنسان إلى مجرد سلعة، وبما أن كل سلعة في حاجة إلى تسويق، فإن الإنسان نفسه أصبح ضحية لمرض تسويق الذات، وأعراض هذا المرض كثيرة، منها المبالغة في تضخيم الإنجازات الشخصية تحت بند 'السيرة الذاتية'، والحرص على الظهور الإعلامي المتكرر، وكتابة مقال وتوزيعه بالجملة عن طريق البريد الإلكتروني!
لن يستعيد الإنسان قيمته إلا عندما يكف عن تحديد هويته من خلال ما يملك من أشياء، ولن يكف الإنسان عن تسويق ذاته إلا حينما يستعيد احترامه لنفسه!

قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر (1)

الناس في الشارع أشبه بالنمل حينما تنظر إليهم من شرفة أحد المباني الشاهقة، وكلما انتقلت إلى الطوابق العلوية، تضاءل الناس إلى مستويات تافهة من حيث الحجم! كل نقطة صغيرة تتحرك أمام عينيك لها همومها الخاصة، وذكرياتها، ورغباتها، ومخاوفها، لكن كل ذلك تم اختزاله بفضل الارتفاع الشاهق إلى مجرد نقطة تافهة تتحرك بغباء على قارعة الطريق! الأمر يبدو مشابهاً حينما ننظر إلى قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر، فكلما زاد مستوى التعقيد في العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية، تضاءلت قيمة الإنسان إلى مجرد رقم! في السابق، كان السؤال الأساسي بعد كل مناسبة اجتماعية هو 'من حضر؟'، أما الآن فإن السؤال تحوّل إلى 'كم عدد الحضور؟'. في السابق أيضاً، كانت أنماط التداول التجاري المتواضعة تسمح بوجود علاقة حميمية بين البائع والمشتري، أما في عصر الإنترنت، وفي ظل ارتفاع معدلات الاستهلاك الشامل والبيع بالجملة، فأضحت العلاقة ذاتها باردة، ولاشخصية، ومفرطة في التجريد!
بات الإنسان مجرد سلعة لها رقم يشير إلى قيمتها، أي أن السوق هو الذي يحدد قيمة الإنسان! تقرأ الصحيفة، وتقع عيناك على خبر يقول: 'انتحار خادم في المنطقة الفلانية'! لا يبدو الخبر مهمّاً من وجهة نظر أصحاب الصحيفة، فهو منشور في ركن صغير في أسفل الصحفة، لكن ما يثير الانتباه هو طريقة صياغة الخبر، فالذي أنهى حياته لم يكن خادماً، بل إنساناً في المقام الأول، إنسان له مشاعر ورغبات وأحلام، له أسرة تنتظر عودته بفارغ الصبر، له قيمة بشرية لا تختلف عن أي إنسان آخر. لماذا احتوى هذا الخبر المؤسف على كلمة 'خادم'؟ ما الذي من الممكن أن يضيفه نوع الوظيفة إلى فداحة عملية الانتحار؟ لماذا يعتقد من صاغ ذلك الخبر أن كلمة 'إنسان' لا تؤدي الغرض؟ قد يكمن السبب في محاولة لفت انتباه القارئ إلى مشكلة تزايد عمليات الانتحار بين صفوف الخدم، لكن لا يبدو هذا السبب مقنعاً، فمكان النشر، كما أشرت منذ قليل، لا يوحي بأهمية الخبر! لست أجد سببا مقنعاً سوى أن كلمة 'خادم' تعكس القيمة الحقيقية لهذا الإنسان بالنسبة لنا، فهي كلمة تشير إلى مكانته الاجتماعية المتواضعة من جانب، وإلى قيمته الاقتصادية التافهة من جانب آخر، وهذا بالضبط ما يفسر عدم أهمية الخبر ونشره في ركن صغير في أسفل الصفحة!
تقلب الصفحة، فتقرأ خبراً آخر فيه تأكيد على 'ضرورة ربط المناهج الدراسية باحتياجات سوق العمل'! قد يبدو الخبر طبيعياً، لكن هل هو كذلك فعلاً؟ الأمر الطبيعي هو أن إعداد المناهج الدراسية مرتبط بعوامل تتعلق بمواكبة التراكم المعرفي للبشرية في اللحظة الراهنة، وترسيخ قواعد التفكير النقدي، وبث روح المسؤولية تجاه المجتمع، وتهذيب الإحساس بقيمة الإنسان ومكانته في هذا الكون. لكن عندما تكون 'لغة السوق' هي السائدة، فإن كل إنسان تصبح له قيمة محددة، أي مجرد رقم، وكلما زاد معدل التحصيل العلمي، زادت قيمة الإنسان المتعلم حسب سعر السوق. إذا كنت تحمل شهادة البكالوريوس، فإن قيمتك الاقتصادية أقل ممن يحمل شهادة الماجستير، وإذا كنت طموحاً بما فيه الكفاية وحصلت على شهادة الدكتوراه، فإنك ستجني ثمرة هذا الطموح على شكل زيادة في قيمة راتب آخر الشهر. إذا كان هذا هو واقع الحال، فهل من المنطقي أن نستغرب هذا التسابق المحموم في نيل الشهادات العلمية بأي طريقة وبأي ثمن؟
ربط المناهج الدراسية باحتياجات سوق العمل يعني أن السوق هو الذي يقرر نوعية الفروع العلمية الجديرة بالاهتمام، وإذا ثبت أن أحد التخصصات الدراسية غير مجدٍ اقتصادياً، فإن أرباب السوق لن يتورعوا عن المطالبة بإزالة هذا التخصص من المناهج الدراسية! لم تعد المعرفة مرتبطة بقيمة الإنسان من حيث هو إنسان، بل أصبحت مرتبطة فقط بالجدوى الاقتصادية لهذا الإنسان بوصفه مجرد سلعة في سوق العمل. لم تعد المعرفة غاية في ذاتها، بل مجرد وسيلة إلى صعود السلم الاجتماعي بأقصى سرعة! أصبح اختيار التخصص الدراسي مرتبطاً بالإثراء المادي وزيادة رصيد الحساب، بدلاً من الإثراء النفسي وزيادة رصيد المعرفة.
(يتبع)

لماذا السماء زرقاء؟: مشهدان وتعليق

المشهد الأول:
نحن في بريطانيا. طفل يسأل أمّه: 'ماما، لماذا السماء زرقاء؟' الأم ترتبك، فهي لا تعرف كيف تجيب، لكنها مع ذلك تسارع إلى اختراع إجابة على النحو التالي: 'اسمع يا حبيبي، السماء زرقاء لأن البحر أزرق، فعندما تسقط أشعة الشمس على سطح البحر، ينعكس اللون الأزرق إلى أعلى فتبدو السماء زرقاء'! الطفل يصدّق ما سمعه من أمّه، وأما الأم فتبدو مسرورة لأنها استطاعت التخلص من هذا السؤال الصعب!
المشهد الثاني:
نحن في الكويت. طفلة تسأل أباها: 'بابا، لماذا السماء زرقاء؟' الأب لا يكلّف نفسه النظر إلى طفلته، ومع ذلك يجيب بكل ثقة: 'السماء زرقاء لأنها هكذا خُلقت، فهذه مشيئة الله'. الطفلة تصمت محتارة، فهي تلاحظ أن إجابة أبيها لا تتغيّر مهما تعددت الأسئلة التي تطرحها عليه، وأما الأب فيخلد إلى النوم بضمير مرتاح!
تعليق:
فضول الأطفال بلا حدود، وهم يعبّرون عن هذا الفضول من خلال الكم الهائل من الأسئلة التي يطرحونها، لكننا لا نتورع عن قتل هذا الفضول عن طريق اختلاق قصص واهية أو اللجوء إلى إجابات جاهزة! في المشهد الأول، كبرياء الأم كان أقوى من حرصها على تقديم معلومة صحيحة إلى طفلها، لذا لم تجد هذه الأم حرجاً في اختلاق قصة من نسج خيالها، فلا ينبغي أن يكتشف صغيرها أنها جاهلة! في المشهد الثاني، لا يملك الأب سوى إجابة واحدة لكل سؤال يخطر في عقل طفلته، وعندما تكون هناك إجابة واحدة عن كل الأسئلة، فإن فكرة طرح سؤال جديد تصبح غير ضرورية، لأن الإجابة معروفة سلفا، والنتيجة هي قتل الفضول واستئصاله!
عندما يطرح الأطفال سؤالاً لا نملك إجابة عنه، فإن أمامنا خيارين: إما أن نتقاسم مع أطفالنا فضولهم ودهشتهم عن طريق الاعتراف بجهلنا، وإما أن نتقاسم معهم جهلنا وغباءنا من خلال التظاهر بالمعرفة! الخيار الثاني هو السائد رغم مضاره، والخيار الأول هو الغائب رغم فوائده!
صحيح، لماذا السماء زرقاء؟ تعترف لطفلك بأنك لا تملك إجابة، لكنك تؤكد له أن السؤال مهم ويستحق البحث وتقصي الحقائق! تقترح عليه الذهاب معاً إلى المكتبة، ففي المكتبة كنوز من المعرفة! تقرآن معا كتاباً علمياً للأطفال فيه إجابة شافية، فيتعرّف طفلك على حقائق علمية تناسب عمره، فالأرض لها غلاف جوي مليء بالغازات وبخار الماء وذرات الغبار، وضوء الشمس له طيف من الألوان، منها الأحمر والأصفر والأزرق، بعضها يخترق الغلاف الجوي، وبعضها يتم امتصاصه ثم تشتيته في كل الاتجاهات، والسبب في أن لون السماء أزرق هو أن هذا اللون هو الذي يتم امتصاصه وتشتيته في كل الاتجاهات! سيكبر طفلك، وستكبر معه الإجابة، فيتعرف على سرعة الضوء، ويقيس طول الموجة، ويسمع لأول مرة اسم عالم الفيزياء الإنكليزي اللورد Rayleigh!
لكن الفضول في طلب المعرفة لن يتوقف عند هذا الحد، فبالرغم من أن الإجابة تبدو مقنعة، فإنها تدفع أيضاً إلى طرح أسئلة أخرى! مثلاً، إذا كان وجود الغلاف الجوي سبباً في كون السماء زرقاء، فكيف سيكون لون السماء في حال افترضنا عدم وجود هذا الغلاف؟ ستشعر بمتعة لا تضاهى وأنت ترى الدهشة ترتسم على وجه طفلك حينما يعرف الإجابة، فالسماء ستستحيل سوداء، وأما الشمس فبيضاء، وهذا بالضبط ما يراه رجال الفضاء في رحلتهم خارج الغلاف الجوي!
سألك طفلك سؤالاً ينم عن دهشة وفضول، فلم تحاول أن تخفي جهلك، بل تقاسمت معه الدهشة والفضول، ثم اقترحت الذهاب إلى المكتبة، وهو اقتراح ساهم في لفت انتباه طفلك إلى أهمية السؤال أولاً، وأهمية المكتبة ثانياً! لقد زرعت في قلب طفلك حب المعرفة لأنك لم تبخسه حقه في أن يسأل: 'لماذا السماء زرقاء؟'.

جاري العنصري

لدي جار فرنسي في الخمسين من عمره، يعمل استاذاً في الجامعة، ويسكن في شقة واسعة وجميلة، لا يشاطره فيها سوى قط أبيض اللون. اعتاد هذا الجار أن يدعوني إلى منزله في بعض عطل نهاية الأسبوع لمزاولة لعبة الشطرنج. جاري هذا غريب الأطوار، ففي إحدى المرات، استغرق وقتاً طويلاً ليقنعني بمدى ذكاء قطه الأبيض! لم أستطع أن أكبح رغبتي في الضحك عندما سمعته يقول: 'عندما أخرج للتنزه مع 'بلانك' (هذا هو اسم القط)، فإنني ألاحظ قدرته الفائقة على مطاردة الفئران واصطيادها، وهذا دليل واضح على الذكاء! بالطبع، هناك شيء اسمه 'مصيدة الفئران'، ولكن هذا دليل على ذكائنا نحن البشر، وربما هو دليل أيضا على غباء الفئران!'.
لكن أبرز صفة في جاري هي أنه إنسان عنصري، وهو يعترف بذلك من دون تردد، ومن دون أن يصاحب هذا الاعتراف شعور بالخجل! عنصرية جاري لها مستويات مختلفة، فهو يرى أن 'الأمم الأوروبية' هي الوحيدة القادرة على صنع حضارة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ويرى أيضاً أن الشعب الفرنسي أرقى الشعوب الأوروبية، أما إقليم 'الألزاس' فهو أفضل الأقاليم الفرنسية! ليس عندي شك في أن جاري مقتنع تماماً بما يقول، لكن هل هي مجرد مصادفة أن يرتبط هذا الاقتناع بحقيقة أن جاري أوروبي، فرنسي، ألزاسي؟ بمعنى آخر، لو كان جاري صينياً من مدينة شانغهاي، فهل ستتغير قناعاته العنصرية حسب إحداثيات الموقع الجغرافي الذي ينتمي إليه؟!
أعترف بأن السبب وراء حرصي على تلبية دعوة جاري لممارسة لعبة الشطرنج لا يرتبط بعشقي لهذه اللعبة الجميلة بقدر ارتباطه برغبتي الصادقة في فهم ذهنية الإنسان العنصري! أريد، مثلاً، أن أعرف كيف لإنسان مثله أن يكون عنصرياً، ذلك أننا لو افترضنا أن أي استاذ جامعي يمتاز بالحد الأدنى من التفكير العقلاني، فإن السؤال الطبيعي في هذه الحالة سيكون: هل من الممكن أن تجتمع العقلانية والعنصرية في جوف واحد؟ أشك في ذلك، فالآراء العنصرية، مثل كل الآراء غير العقلانية، تستمد قوتها من غياب التفكير النقدي! طلبت من جاري أن يحدد ماذا يقصد بقوله إن الشعب الفرنسي أرقى شعوب أوروبا، فمن دون تعريف واضح لمعنى اسم التفضيل 'أرقى'، لن يكون بوسعي التحقق من مدى صحة رأيه. لم أحصل، مع الأسف، على تعريف واضح، إنما جاءت إجابته مبهمة ولا تدل على شيء ذي معنى! عندما يزعم جاري أن شعبه أرقى الشعوب فإن هذا الزعم بالنسبة إليه بمنزلة قانون عام، لكن عندما أقوم بلفت انتباهه إلى وجود ثغرات في هذا القانون من خلال الإشارة إلى نماذج سيئة من بعض أفراد شعبه، فإنه يسارع إلى التأكيد على أن تلك النماذج السيئة لا تعدو أن تكون مجرد استثناءات من القانون العام، أما القانون ذاته فيبقى قائماً على الدوام! هذا النمط من التفكير يدل بوضوح على استحالة الجمع بين العقلانية والعنصرية.
الإنسان العنصري مريض نفسيّ، فالعنصرية تمنحه شعوراً زائفاً بالأهمية من خلال تضخيم الذات على حساب تحجيم الآخر، ذلك أن تضخيم الذات يؤدي تلقائياً إلى تحجيم الآخر! لنأخذ، على سبيل المثال، فكرة التفاخر بالأصل، فعندما يفتخر أحدهم بأصله، فإنه يفترض وجود خصلة حميدة في أصله تفتقر إليها بقية الأصول، كما أن فكرة التفاخر بالأصل تستمد قوتها من افتراض وجود أصول شريفة وأخرى وضيعة، ولولا هذا الافتراض لفقدت هذه الفكرة قيمتها الاجتماعية! لو آمن الجميع بالحقيقة العلمية التي تقول إن هناك اختلافاً طفيفاً جداً من حيث التركيب الجيني بين فصيلة الإنسان وفصيلة الشامبانزي، لأصبحت فكرة التفاخر بالأصل مدعاة للضحك والسخرية!