الاثنين، 10 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا - 1

اعتلى «آل بوربون» عرش إسبانيا في مطلع القرن الثامن عشر، وكان لهذا التغيير الجذري في الحياة السياسية انعكاسات بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل إسبانيا في العصور اللاحقة. أول هذه الانعكاسات وأهمها هو تبني بعض المفكرين الإسبان أفكار حركة التنوير ومفاهيمها التي اجتاحت أوروبا تحت مسميات مختلفة: lumieres في فرنسا، enlightenment في إنكلترا، aufklarung في البلاد الجرمانية، illuminismo في إيطاليا، luzes في البرتغال، وأخيرا، في مطلع القرن الثامن عشر، ilustracion في إسبانيا.
في عام 1687، أعرب أحد المفكرين الإسبان عن استيائه الشديد من تأخر وصول موجة التنوير الى إسبانيا، حيث كتب يقول: «إنه لمن المؤسف، بل من المخجل أيضا، أن يقدّر لنا نحن الإسبان، كما لو كنا إحدى قبائل الهنود الحمر، أن نكون آخر من يعلم عن أخبار التنوير التي انتشرت في كل بقاع أوروبا». لكن المشكلة الحقيقية، حسب رأي بعض النقاد، لم تكن في هذا التأخير، بل في رفض المجتمع الإسباني آنذاك لتبني مبادئ هذه الحركة السياسية الفلسفية الثقافية التي حمل رايتها موسوعيو فرنسا في تلك الحقبة. لم تكن رياح التغيير، التي كانت تهب في بعض الأحيان من رأس السلطة، كافية لزعزعة القيم التقليدية لمجتمع مفرط في كاثوليكيته كالمجتمع الإسباني في ذلك الوقت، كما أن الأفكار الجديدة المتمثلة بحركة التنوير كانت تعتبر أفكارا دخيلة تغذيها قوى استعمارية أجنبية، خصوصا تلك الأفكار القادمة من «باريس»! (انظر كتاب The Enlightenment World ، صفحة 415).
في كتاب «تاريخ الأدب الإسباني»، يشير البروفيسور Alborg الى انعدام فضيلة التسامح في تلك الحقبة من تاريخ إسبانيا، حيث يقول: «كان أدنى اعتراض أو نقد يوجه ضد أي من ثوابت المجتمع الإسباني يتم تصنيفه وبشكل مباشر على أنه جريمة في حق الوطن وخروج على الدين». هذه الثوابت التي يتحدث عنها Alborg تتلخص في ثلاثة أصناف من السلطة: السلطة السياسية ممثلة بالملك، والسلطة الدينية ممثلة بالكنيسة، والسلطة الاجتماعية ممثلة بالعادات والتقاليد.
في ظل هذا الوضع المتأزّم، لم تكن هناك سوى أعداد يسيرة جدا من متبني حركة التنوير الأوروبية في إسبانيا. كانت هذه الأقلية من الكتّاب والمفكرين الإسبان، أو فئة «المستنيرين»، عاجزة تماما عن التأثير في الرأي العام لمصلحة أفكارها وطموحاتها، وحتى عندما سنحت الفرصة في منتصف القرن الثامن عشر لهذه الأقلية وتحالفت رسميا مع «كارلوس الثالث»، لم تستطع أن تنجز سوى نسبة ضئيلة جدا من برنامجها الإصلاحي. أحد الأسباب الرئيسة لهذا الفشل الذريع يكمن في عدم جدية العرش في تلبية متطلبات حركة التنوير وتشكيكه كذلك في نوايا فئة المستنيرين وأهدافها، لاسيما بعد أحداث عام 1789 وبزوغ نجم الثورة الفرنسية. كانت السلطة السياسية آنذاك، ممثلة بالملك والوزراء المعينين، تعقد التحالفات تارة مع رجال الدين، وتارة مع الإصلاحيين العلمانيين، بينما ظلت الكنيسة محافظة على مكانتها كمؤثر قوي في توجيه الرأي العام وتحريضه ضد حركة الإصلاح! من الواضح أن رجال الدين اختاروا السير في اتجاهين متضادين، بينما اعتقد الإصلاحيون أن مصباحهم السحري يكمن فقط في قمة الهرم! بعد أحداث عام 1789 وفض التحالف الحكومي-الإصلاحي، كتب أحد وزراء الملك «كارلوس الرابع» إلى سفير إسبانيا في «فرساي» يقول: «يقال إن عصر التنوير هذا قد ثقّف الإنسان وجعله عالما بحقوقه، لكني أعتقد أنه سلب من الإنسان أيضا الراحة والطمأنينة»! ثم يسخر في آخر الرسالة من حركة التنوير قائلا: «نحن هنا في إسبانيا لسنا في حاجة الى إضاءة زائدة عن الحد»!
لكن ينبغي التذكير بحقيقة مهمة، وهي أن العداء لموجة التنوير لم يكن مقتصرا فقط على رجال الدين، ففي فرنسا ذاتها كانت هناك نخبة من المثقفين تقف في وجه التنوير لأسباب مغايرة. على سبيل المثال، لم تكن رومانسية «روسو» سوى ردة فعل عنيفة ضد النزعة العقلية، و هو أمر نراه بوضوح من خلال كتابه الشهير عن «اللا مساواة»، والذي يدعو فيه إلى العودة إلى حياة الإنسان البدائي ونبذ عقلية الإنسان المدني. عندما بعث «روسو» بنسخة من كتابه إلى «فولتير»، جاء رد هذا الأخير مغلفا بسخرية لا يجيدها إلا «فولتير» نفسه، ففي الثلاثين من أغسطس من عام 1755، بعث «فولتير» برسالة إلى «روسو» يقول فيها: «إن من يقرأ كتابك تعتريه رغبة عنيفة في المشي على أربع»!
يتبع،،،

ليست هناك تعليقات: