الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

بوديموس


بعد الإعلان عن تشكيل حزب "بوديموس" الإسباني في النصف الثاني من شهر يناير من عام 2014، تمّ إشهاره رسميا في شهر مارس من العام نفسه، والوجوه البارزة في هذا الحزب ثلاثة: خوان كارلوس مونيديرو (52 عاما)، وبابلو إغليسياس (37 عاما)، وإنييغو إريخون (32 عاما)، وجميعهم أساتذة في قسم العلوم السياسية في جامعة مدريد، وتربطهم علاقة تعدّت الجانب الأكاديمي إلى الجانب الإعلامي من خلال تأسيسهم لما يعرف باسم "لا ترويكا"، وهو برنامج حواري انطلق بإمكانات متواضعة على قناة اليوتيوب في عام 2010، وتميّز باستضافته شخصيات لامعة من ضمن صفوف اليسار السياسي في إسبانيا، وحسب الإحصاءات التي أجريت في العام الماضي بلغ عدد المتابعين لهذا البرنامج أكثر من 30 مليون مشاهد.
يشير "مونيديرو"، أحد مؤسسي الحزب، إلى الأسباب التي دعت إلى تأسيس "بوديموس" قائلا: "كنّا متفقين على انتهاء صلاحية النموذج الديمقراطي الإسباني الذي تم تدشينه في عام 1978، وكان لدينا إحساس مماثل تجاه الديمقراطية الإسبانية القابعة تحت سطوة النيوليبرالية"، ثم يحدّد "مونيديرو" ثلاثة عوامل وراء قرارهم دخول المعترك السياسي: الأول، تخلّي جبهة "اليسار المتحد" عن مشروعها في توحيد قوى سياسية في صفوف المعارضة؛ والثاني، فرصة المشاركة في الانتخابات الأوروبية ومحاولة تحقيق انتصار انتخابي لدعم شعبية الحزب، والثالث، الحضور الإعلامي القوي الذي حققه "بابلو إغليسياس" من خلال برنامج "لا ترويكا" ومشاركاته في العديد من المناظرات السياسية.  
في أقلّ من عامين، حقق حزب "بوديموس" نجاحا باهرا على المستويين الداخلي والخارجي، ومن بين العوامل التي ساهمت في هذا النجاح استثمار الحزب للغضب الشعبي العارم الذي عبرّت عنه حركة "الخامس عشر من مايو" والمظاهرات العنيفة التي صاحبتها احتجاجات على السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وهي مظاهرات استمدت قوتها الروحية، كما يقول الإسبان أنفسهم، من "الربيع العربي"، كما استفاد حزب "بوديموس" من الدروس التي أتاحتها تجربة أميركا اللاتينية مع السياسات النيوليبرالية، فمن جهة، أثبتت تلك التجربة ضرورة العودة إلى الشعوب واستنهاض همتها في مواجهة الامبروطوريات المالية الكبرى، ومن جهة أخرى، أثبتت تلك التجربة أيضا عدم صلاحية التقسيم التقليدي بين اليمين واليسار في مواجهة فساد السلطة، وأخيرا، هناك عامل الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت حضورا كبيرا ومستمرا لأنصار "بوديموس" بين صفوف الشباب الإسباني.  
"بوديموس" حزب ينتمي أيديولوجياً إلى قوى اليسار السياسي، لكنّ أنصاره يؤكدون حقيقة أن الخط الفاصل بين اليمين واليسار لم يعد يسمح برؤية المجريات الحالية بصورة واضحة، فالمسميات قد تصلح لقراءة التاريخ من وجهة نظر أكاديمية، لكن عندما نتأمّل الواقع فلن نجد سوى قلة مستفيدة وكثرة متضررة من الوضع القائم، والقلة المستفيدة تشمل أيضا أقطابا كبرى في يسار الوسط، منهم من يعملون مستشارين للشركات الكبرى، كما أنّ رضوخ إسبانيا لما تمليه "ميركل" على السياسة الاقتصادية الإسبانية لا يتحمّل مسؤوليته أنصار اليمين فقط، بل يتعداهم إلى أنصار يسار الوسط أيضا، ولهذا جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لتكشف عن اختلاف حاد بين "بوديموس" وحزب العمال الاشتراكي، حيث مُني هذا الأخير بأسوأ هزيمة في تاريخه السياسي بعد أن فقد عددا كبيرا من المقاعد النيابية لمصلحة حزب "بوديموس"، ومن جانب آخر تربط أعضاء "بوديموس" علاقة جيدة مع الأب الروحي لليسار الإسباني والعمدة الأسبق لمدينة "قرطبة" والزعيم الأسبق للحزب الشيوعي الإسباني، "خوليو أنغيتا"، أو "الخليفة الأحمر" كما يسميه خصومه في وسائل الإعلام.
على المستوى الأوروبي، هناك نقاط التقاء كثيرة بين "بوديموس" الإسباني و"سيريزا" اليوناني، من بينها الدعوة إلى انسحاب إسبانيا واليونان من حلف الناتو، ورفض تسديد الديون الخارجية على حساب الشعب، وفرض ضرائب تصاعدية بحيث يدفع أكثر مَن يملك أكثر، ووضع حدّ أدنى للأجور لضمان العيش الكريم لكل مواطن، ورفض الخصخصة مع إعادة تأميم القطاعات التي بيعت للقطاع الخاص، وفرض رقابة صارمة على قطاع البنوك، وجعل الاقتصاد خاضعا للسياسة لا العكس، كما يشترك الحزبان أيضا في سياسة تقف إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني ضد الغطرسة الإسرائيلية.
بطبيعة الحال، لم يسلم أنصار "بوديموس" من حملات التشوية والتضليل في وسائل الإعلام، كما تعرضوا أيضا إلى كمّ هائل من الاتهامات التي كيلت لهم من اليمين الفاشي ويسار الوسط على حدّ سواء، ومن بين تلك الاتهامات استنساخ نموذج الاتحاد السوفياتي في إدارة اقتصاد الدولة، والتعاطف مع أعضاء حزب "إيتا" الإرهابي، والانسحاب من منطقة "اليورو"، وغيرها من الاتهامات التي رفضها أعضاء الحزب جملة وتفصيلا، ولعلّ ما ساعد على مقاومة حملات التشويه والتضليل هو اعتماد أعضاء "بوديموس" على شفافية مطلقة عند الحديث حول أهداف الحزب ومصادر تمويله التي اقتصرت على تبرعات الأعضاء، وبعيدا عن مساهمة القطاع البنكي على وجه التحديد.
"بوديموس" تعني بالعربية "نستطيع" أو "قادرين"، وفي ظني أنه اسم موفّق إلى حدّ كبير، فهو يعبّر عن تحدي الواقع والأمل في تغييره، كما أنّ "نون الجمع" تحمل دلالة روح الفريق التي يفتخر بها أعضاء الحزب، ومن يدري؟ لعلّ الشباب العربي يستفيد من ظاهرة "بوديموس" في خدمة شعوبهم كما استفاد الشباب الإسباني من "الربيع العربي" في خدمة بلادهم!

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

الانتخابات الإسبانية ونهاية القطبية الثنائية


في يناير من عام 2014 شهدت الحياة السياسية الإسبانبة ميلاد حزب سياسي جديد حمل اسم Podemos أو "بوديموس"، وفي أقل من عامين حقق هذا الحزب الفتيّ انتصارات تجاوزت توقعات معظم المراقبين، منها حصوله على 5 مقاعد في الانتحابات الأوروبية التي جرت في مايو من عام 2014، أي بعد أربعة أشهر فقط من الإعلان عن تشكيل الحزب، وحصوله على المركز الأول من حيث عدد المنتسبين الرسميين إلى عضويته من بين الناخبين الإسبان حسب استطلاعات الرأي الأخيرة، وأخيراً حصوله على المركز الثالث بعد أن حصد 69 مقعدا في الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرا في إسبانيا.
 بعد إعلان النتائج الرسمية بات من الواضح أن الانتخابات الإسبانية الأخيرة أسفرت عن وأد القطبية الثنائية التقليدية بعد أن كان الحزب الشعبي (يمين) وحزب العُمّال الاشتراكي (يسار) يهيمنان على الساحة السياسية في إسبانيا منذ عام 1978، فإلى جانب "بوديموس" استطاع حزب Ciudadanos أو "مواطنون" حصد 40 مقعدا، ومع تأكيد هذا الحزب الأخير وقوفه في صف المعارضة أصبحت مهمة زعيم اليمين الإسباني "ماريانو راخوي" في تشكيل حكومة ائتلافية شبه مستحيلة، فالحزب الشعبي الذي يرأسه فشل في تحقيق الأغلبية المطلقة التي تتيح له حكم البلاد بعيدا عن تقديم تنازلات كبيرة لخصومه في صفوف المعارضة، ويبدو أن السيناريو القادم يسير في اتجاه عقد انتخابات مبكرة في ظل الاختلافات الحادة بين الأحزاب الأربعة الكبرى حول قضايا شديدة التعقيد، من ضمنها قضايا الاستفتاء العام في إقليم كاتالونيا وإصلاح الجهاز القضائي وتعديل النظام الانتخابي.
لم تكن عملية كسر هيمنة الحزبين التقليديين على نتائج الانتخابات الإسبانية أمرا سهلا، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار النظام الانتخابي غير العادل الذي ساهم في تكريس هذه القطبية الثنائية، فمن بين مثالب هذا النظام وجود تباين شديد بين الأحزاب الكبيرة والأحزاب الصغيرة من حيث عدد أصوات الناخبين التي ينبغي لكل حزب الحصول عليها نظير حجز مقعد في البرلمان، فعلى سبيل المثال، عدد الأصوات التي حصل عليها "بوديموس" يعادل نسبة 72 في المئة من عدد الأصوات التي حصل عليها الحزب الشعبي، في حين أنّ عدد مقاعد "بوديموس" في البرلمان يوازي نسبة 56 في المئة من عدد مقاعد الحزب الشعبي، وهذه نتيجة متوقعة وغير عادلة في ظلّ وجود نظام انتخابي يكرّس من زيادة الفروق بين الدوائر الانتخابية من حيث الوزن النسبي للمقعد النيابي من جهة، ويرتكز على المعادلة الرياضية المعروفة بمعادلة "دهوندت" والتي من شأنها تفضيل الأحزاب الكبيرة على الأحزاب الصغيرة من جهة أخرى.
لكن ما حقيقة حزب "بوديموس" ومن يقف وراءه؟ وما الأسباب التي دعت إلى نشأة هذا الحزب؟ وما العوامل التي ساهمت في النجاح الباهر الذي حققه هذا الحزب في فترة وجيزة من عمره السياسي؟ ثم ما طبيعة العلاقة التي تربطه بأحزاب اليسار التقليدي في إسبانيا؟ وما أوجه الشبه بين "بوديموس" الإسباني و"سيريزا" اليوناني؟ وأخيرا، كيف استطاع هذا الحزب الفتيّ تجاوز هجمات التضليل والتشهير التي شنها ضده اليمين الإسباني من خلال ما يمتلكه من وسائل إعلامية ضخمة؟ سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في المقال القادم.  

الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

لماذا باريس وليس «س»؟


حظيت أحداث باريس الإجرامية باهتمام واسع من وسائل الإعلام العالمية، ومن بين كلّ المآسي الإنسانية في اليمن وسورية وليبيا وغزة والقدس المحتلة وأوكرانيا ولبنان والعراق والنيجر ونيجريا وتشاد وغيرها من بقاع الأرض، استقطبت مأساة باريس أنظار العالم أكثر من أي مأساة أخرى، الأمر الذي أدّى– بطبيعة الحال– إلى بروز السؤال الاستنكاري: لماذا باريس وليس "س"؟ أما قيمة "س" فتعتمد على ميولك الأيديولوجية، فهي تشير إلى سورية أو غزة إذا كنت ممن يقبضون أيديهم في الصلاة، وهي بيروت أو اليمن إذا كنت ممن يُسدلونها.
لماذا يتباكون على فرنسا ولا يبكون على سورية؟ هذا سؤال ملغوم، ولكنّ اللغم من النوع المغشوش، فالاختلاف في تصريف الفعل "بكى" يفضح تمايزا غير موضوعي بين مشاعر توصف بأنها مزيفة وأخرى توصف بأنها حقيقية، كما أنّ هذا السؤال– عندما يكون موجها لبني جلدتنا- ينطوي على افتراض ضمني مفاده أنّ سورية تنبغي أن تكون أولوية بالنسبة إلى كل عربي أو مسلم، وبهذا نكون قد نهينا عن خلق وأتينا مثله، فحرام على الغرب المسيحي أن يجعل من أحداث باريس أولوية، وحلال علينا أن نجعل من أحداث سورية أولوية، وهنا لا بدّ أن نتساءل: ألا يشي هذا التناقض بأننا نعوّل كثيرا على إنسانية الإنسان الغربي من جهة، وعلى أيديولوجية الإنسان الشرقي من جهة أخرى؟   
ليس هناك أدنى شك في أن مآسي سورية واليمن– مثلا– أشد قسوة على النفوس من مأساة باريس، ولكن المعضلة تكمن في أنّ غالبية المطالبين بتسليط الأضواء على ما يجري في سورية لا يكترثون بما يجري في اليمن، كما أنّ غالبية المطالبين بفضح ما يجري في اليمن لا يحفلون بما يجري في سورية، وبذلك أصبحت الإنسانية مجرد بضاعة معروضة في سوق الأيديولوجية، نختار منها فقط ما يتناسب مع معتقداتنا الدينية.
لا تحفل حكومات العالم الأول بمصير شعوب العالم الثالث، وكفى بتاريخ الاستعمار شاهدا على هذه الحقيقة، لكنّ في العالم الأول شعوبا خرجت في مسيرات عارمة نصرة لقضايانا، في حين أننا لم نشهد حتى هذه اللحظة مظاهرة واحدة فقط ضد حرب لسنا فيها الضحية، أو لا تربطنا مع الضحية رابطة دم أو دين، فنحن– مع الأسف– لا ندين حربا إلا إذا كنا ضحاياها، ذلك أن مبدأ الخروج إلى الشارع لا يبدو مرتبطاً برفض الحرب كمفهوم لا إنساني، بل لنصرة ضحية تنتمي إلى المربع ذاته.
التعاطف الإنساني مع مأساة الأقرباء أشدّ من التعاطف الإنساني مع مأساة الغرباء، وهذه هي طبيعة البشر، لكنّ الذي ليس من طبيعة البشر هو أن نقصر مثل هذا التعاطف على المقرّبين منا، وقد تبلغ الحالة المرضية ببعضنا درجة النشوة والتشفّي بمصاب الآخرين، وهذا لعمري انحدار إلى أدنى دركات الدناءة الروحية!