الاثنين، 23 يوليو 2012

بريطانيا العظمى والأسرة الحاكمة (3)

ضمن الوثائق البريطانية، هناك تقرير مطوّل حول الأوضاع الداخلية للإمارات الخليجية، أعدّه مكتب وزير الخارجية البريطاني في 7 يونيو من عام 1957، والفقرة التالية هي من ضمن ما جاء فيه: “عاجلا أو آجلا، ستصبح المطالبات الشعبية بالإصلاح أكثر قوة وإلحاحا بحيث تفرض تغييراً في النظام الأبوي الحالي الذي يسود نظم الحكم في المنطقة، ونأمل أن تتحلّى الأسر الحاكمة بقدر من الشجاعة والحكمة للتوصل إلى رأي معتدل يتيح لها التعامل مع تلك المطالب الشعبية، وبهذه الطريقة ستتمكن من تفويت الفرصة على قوى المعارضة ومنعها من محاولة قلب أنظمة الحكم في المنطقة، وهو احتمال قائم سيستدعي في حالة حدوثه التدخل الفوري من جانبنا، وسيكون الخيار عندها صعبا جدا. ينبغى التذكير أن مقيمنا السياسي في المنطقة يعتقد أن الكويت هي المرشحة الأولى لمثل هذا السيناريو”.   ثم يشرح التقرير كيفية التعامل مع هذه المشكلة في الفقرة التالية: “لا بدّ من تشجيع حكّام الخليج على تأسيس حكمهم على قبول شعبي واسع بقدر الإمكان لضمان بقائهم في سدة الحكم، مع التأكيد طبعا على ضرورة تجنب أي تدخل بريطاني مكشوف في الشؤون الداخلية، كما لا بدّ من اقتناص أي فرصة سانحة في استخدام علاقتنا مع هؤلاء الحكّام باتجاه دفعهم إلى تبني سياسات تضمن كفاءة الحكومة إلى جانب مشاركة شعبية نسبية في شؤون الحكم”. تؤكد الوثائق البريطانية أيضا حقيقة أنّ الكويت قامت فعلا بخطوات عملية في هذا الاتجاه تحت قيادة الشيخ عبدالله السالم، فهناك إشارة إلى دعوة وجّهها الشيخ في عام 1959 إلى رجل القانون الشهير عبدالرزاق السنهوري لزيارة الكويت والمساهمة في تطوير نظامها القانوني ووضع دستور للكويت، كما تشير الوثائق أيضا إلى مباركة البريطانيين لنهج عبدالله السالم في إنشاء “دولة رفاه حديثة” وإتاحة الفرصة في إقامة مجلس تأسيسي، وبالرغم من أهمية مثل هذه الخطوات العملية في استقرار نظام الحكم في الكويت، فإنها لم تكن لتزيل خشية البريطانيين من عدم استقرار الوضع الداخلي بعد انتقال الكويت من الحماية إلى الاستقلال، ففي وثيقة بريطانية مؤرخة بتاريخ 2 أكتوبر من عام 1961، أي بعد استقلال الكويت بأشهر معدودة، هناك قلق بريطاني واضح من عدم استقرار نظام الحكم: “المسار السياسي الوحيد الذي أمام الأمير (الشيخ عبدالله السالم) كي يقلل من التهديدات التي تحيق بالكويت هو أن يتبنّى سياسة من شأنها تعزيز قوة نظام حكمه داخليا، وجعله مقبولا لدى الرأي العام في داخل الكويت وخارجها. بالرغم من أنّ الكويت تحوّلت فعلا إلى دولة رفاه، فإنّ إدارتها لشؤون الدولة مازالت قريبة من الإدارة الإقطاعية، لكنّ الأمير الآن مصمم على تحديث إدارته للبلاد بالتعاون مع بعثة البنك الدولي التي وصلت إلى الكويت مؤخرا. إنّ المحاولات السابقة في إرساء دعائم الديمقراطية لم تسفر عن نتائج ملحوظة، لكن تم الإعلان مؤخرا عن نبأ إقامة انتخابات لمجلس تأسيسي في ديسمبر المقبل”. ثم تنتقل الوثيقة البريطانية إلى مناقشة تأمين الوضع الخارجي للكويت بعد استقلالها، خصوصا تلك المتعلقة بالخطر القومي: “إن سياسة الكويت الاستثمارية في الدول العربية أمر بالغ الأهمية، ففي الوقت الراهن (1961) تتمركز معظم استثمارات الكويت في سوق لندن، والقليل المتبقي منها يذهب إلى أميركا وغرب أوروبا، وأما الدول العربية فلا تستفيد من هذه الاستثمارات إلا بالقدر الضئيل جدا. لطالما كانت هذه الحقيقة محلّ عتب شديد من قبل الأنظمة العربية، ومن الواضح أن السلطات الكويتية تفكر جديا الآن في زيادة حجم استثماراتها في الدول العربية. إن تعزيز مثل هذا البرنامج الاستثماري بأموال كويتية ضخمة من شأنه دعم استقرار الكويت، خصوصا من جهة الجمهورية العربية المتحدة والأردن اللتين هما في حاجة ماسة إلى تمويل خارجي، وبالتالي من شأن هذا البرنامج الاستثماري الحد من خطر المد القومي على الكويت وتقليص التذمر العربي من مصالحنا الاقتصادية والنفطية في الكويت”. إلى جانب الأفكار الوقائية السابقة التي تهدف إلى تأمين انتقال الكويت من الحماية إلى الاستقلال تحت حكم أسرة الصباح، تشير الوثائق البريطانية أيضا إلى خطة توفير قوة عسكرية بريطانية قادرة على ردع أي عدوان خارجي على الكويت، خصوصا في ظل التهديدات العراقية بعد نجاح ثورة عبدالكريم قاسم في 14 يوليو من عام 1958، والمساهمة أيضا في تدريب عناصر الجيش الكويتي بطريقة تضمن صموده لمدة 36 ساعة فقط أمام أي عدوان عراقي محتمل، وهي المدة اللازمة قبل جلب القوة البريطانية المرابطة في البحرين. أخيرا، ينبغي الإشارة إلى أن كل هذه الأفكار الوقائية تحققت على أرض الواقع، وهو أمر لا يكشف فقط عن حجم المنفعة المتبادلة بين أسرة الحكم وبريطانيا، بل يشير أيضا إلى صورة مغايرة عن الشيخ عبدالله السالم، صورة تختلف كثيرا عن تلك التي نجدها في كتب التاريخ المحلية، وسنحاول أن نستكشف ملامح هذه الصورة في مقال قادم تحت عنوان: “عبدالله السالم: الوجه الآخر”.

الأربعاء، 18 يوليو 2012

بريطانيا العظمى والأسرة الحاكمة (2)


في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كانت بريطانيا تتعرض لضغوط هائلة للتخلّي عن سياستها الاحتكارية في منطقة الخليج، فمن جهة هناك الولايات المتحدة الأميركية التي لم تكن لترضى بأقل من نصيب الأسد في خيرات الخليج، ومن جهة أخرى هناك المد القومي الذي اجتاح دول المنطقة ولامس قلوب شعوبها، وقد عبّر عن هذه الضغوط الخارجية وزير الخارجية البريطاني آنذاك “سلوين لويد” بقوله: “إذا لم نخط إلى الأمام، فسيجبرنا الآخرون على فعل ذلك”، والخطوة إلى الأمام كانت تعني التفكير المتعمق بمستقبل المنطقة، أي بكيفية الانتقال من مرحلة الحماية البريطانية إلى مرحلة استقلال الإمارات الخليجية، وتكشف الوثائق البريطانية عن انقسام حاد حول هذه النقطة، فبينما كان يرى ممثلا بريطانيا في بغداد وطهران أن الوقت قد حان لمنح الإمارات الخليجية استقلالها من خلال إقامة فدرالية خليجية، كان المقيم البريطاني في البحرين مخالفاً لهذا التوجه، لكن الطرفين اتفقا على أنه إذا كان لا بد من منح هذه الدويلات استقلالها، فعلى بريطانيا أن تحافظ على بقاء هذه الدويلات بطريقة تضمن استمرار التأثير البريطاني وحماية مصالح “حكومة جلالة الملكة”، الأمر الذي يعني- حسب الوثائق البريطانية- حماية هذه الدويلات بعد استقلالها من الأخطار الخارجية، كأن يتم ضمها إلى دول مجاورة مثل العراق والمملكة العربية السعودية، ومن الأخطار الداخلية، كأن تتعرض الأسر الحاكمة إلى محاولات انقلاب تحت تأثير المد القومي.
أمام هذا الاختلاف في الرأي حول مستقبل الإمارات الخليجية، حاول وزير الخارجية “سلوين لويد” أن يقدم رأياً متوازناً، ولعل من المفيد أن أنقل وجهة نظره هنا من الإنكليزية إلى العربية مع مقدار بسيط من التصرف لضرورات الترجمة:
“في رأيي، لا بد أن نتخذ منهجاً وسطاً مع ميل بسيط إلى وجهة نظر المقيم السياسي في البحرين. أنا لست مع فكرة إقامة فدرالية خليجية لأن حكام الخليج أنفسهم ضد هذه الفكرة، كما أني ضد أن تنضم هذه الدويلات بعد استقلالها إلى “معاهدة بغداد” للسبب نفسه، بالإضافة أيضاً إلى أننا لا نريد أن نواجه ردّة فعل في الكويت كتلك التي واجهناها في الأردن في عام 1955. لكن، من جهة أخرى، أعتقد أن علينا أن نكون أكثر واقعية، فالعالم يتغير من حولنا، ولهذا السبب علينا أن نكون مستعدين لإحداث تغييرات في سياستنا في المنطقة بطريقة تتناسب مع حجم التغيرات العالمية”.
كان مستقبل العلاقات البريطانية مع الكويت أكثر إلحاحاً من مستقبل علاقات بريطانيا مع الإمارات الخليجية الأخرى، ففي عام 1957 كانت الكويت تنتج حوالي 54 مليون طن من النفط، أي ثمانية أضعاف حصة كل من البحرين وقطر من إنتاج النفط، وأما ما كانت تسمى آنذاك بـ”دول المعاهدة” (الإمارات العربية المتحدة) فلم تكن منتجة للنفط. كانت حصة الكويت من إنتاج النفط تذهب مناصفة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وأما الإيرادات فكانت توازي 109 ملايين جنيه إسترليني، أي خمسة أضعاف إيرادات النفط في كل من البحرين وقطر.
كانت بريطانيا تخشى من توتر علاقاتها مع الشيخ عبدالله السالم بعد مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر، لكن تبين لها أن خشيتها لم يكن لها ما يبررها، فها هو المقيم البريطاني يؤكد في وثيقة سرية بتاريخ 7 يونيو من عام 1957 ما يلي: “لا يبدو أن مشاركتنا في التدخل في مصر أثرت كثيراً على علاقتنا مع حكام الخليج، وقد قدم حاكم الكويت (الشيخ عبدالله السالم) دليلاً على ذلك من خلال مقابلتنا معه في الآونة الأخيرة، فقد طلب منّا النصيحة حول مسألة توارث الإمارة واستعرضنا معه عدداً من المرشحين في خلافته في الحكم، كما أنه أبدى ارتياحه من طريقة استثمار الأموال الكويتية في لندن”.
كانت بريطانيا تخشى من الفشل في تأمين انتقال الكويت من الحماية إلى الاستقلال، والوثائق البريطانية تكشف عن مجموعة من الأفكار الوقائية لتأمين هذا الانتقال، مثل فكرة إنشاء صندوق كويتي للتنمية العربية لكسب ودّ الحكومات العربية وشعوبها، والحرص على دعم حكم أسرة الصباح من خلال تعزيز صورة الكويت كدولة رفاه لتفويت الفرصة على “البروباغندا القومية” من استمالة قلوب الكويتيين، والسماح بوجود ديمقراطية محدودة من خلال إنشاء مجلس للأمة، وتوفير قوة عسكرية بريطانية قادرة على ردع أي عدوان خارجي على الكويت. سوف نتطرق إلى هذه الأفكار وغيرها في المقال القادم.
يتبع،،،

الثلاثاء، 17 يوليو 2012

بريطانيا العظمى والأسرة الحاكمة (1)

لبريطانيا العظمى أسلوبها المعروف في السيطرة على أيّ موقع جغرافي، فهي تبدأ أولاً بتحديد القيمة الاستراتيجية للبلد الذي تنوي السيطرة عليه، ثم تسعى بعد ذلك إلى إقامة علاقة وطيدة مع حاكم ذلك البلد، وقوام هذه العلاقة هو المنفعة المتبادلة بين الطرفين، فالحاكم سيضمن بقاءه في سدّة الحكم بالقدر الذي يتجاوب فيه مع المصالح البريطانية. أغلب البلدان التي دارت حول الفلك البريطاني استجابت لشروط هذه العلاقة، والكويت لم تكن استثناء.
كانت المصالح البريطانية في منطقة الخليج مجرّد مصالح تجارية في الأساس، وهذا ما تكشفه فحوى أولى الاتفاقيات التي وقعتها بريطانيا العظمى مع بعض الأسر الحاكمة في الخليج، فأعمال القرصنة التي اتخذت من ساحل الخليج مركزاً لها كانت تهدّد خط التجارة البحرية بين الهند وأوروبا، ممّا دفع البريطانيين إلى إرسال قوّة عسكرية إلى الساحل الإماراتي لتجفيف منابع القرصنة وحثّ حكّام المناطق المجاورة على التعاون معهم في التصدّي لهذه المشكلة. بعد أن أدركت بريطانيا أن دولاً استعمارية غيرها تهدف إلى بسط نفوذها على منطقة الخليج، تبدّل الطابع التجاري للمصالح البريطانية إلى طابع استراتيجي، فلجأت إلى نوع آخر من الاتفاقيات مع الأسر الحاكمة في المنطقة، وهي اتفاقيات تضمن جميعها بسط نفوذ بريطانيا وحدها على منطقة الخليج، ومن الجدير بالذكر أن الاتفاقيات التي وقّعها الشيخ مبارك الصباح مع بريطانيا العظمى تصب جميعها في هذا الاتجاه، فعلى سبيل المثال، تضمنت اتفاقية عام 1899 تعهّد الشيخ مبارك “بالالتزام في عدم السماح لأي ممثل عن أي سلطة أو حكومة خارجية بدخول الكويت، أو الإقامة ضمن حدودها، من دون إذن مسبق من طرف الحكومة البريطانية”، كما تضمنت اتفاقية عام 1907 حقّ بريطانيا في رفض فكرة أن تكون الكويت امتداداً لمشروع خط سكة الحديد بين برلين وبغداد، وهو الأمر الذي يكشف حرص بريطانيا على قطع الطريق أمام ألمانيا كي لا تجد موضع قدم لها في منطقة الخليج.
بطبيعة الحال، لم تكن السياسة الاحتكارية التي انتهجتها بريطانيا في الخليج من دون مقابل، فالأسر الحاكمة حصلت على وعود بريطانية بضمان بقائها في السلطة، وبالرغم من أنّ اتفاقية عام 1899 خلت من أيّ تعهّد بريطاني في حماية الكويت أو حكّامها، فإنّ هذه الحماية كانت متوافرة بصورة ضمنية من خلال التعهد الذي قدمه الشيخ مبارك للبريطانيين وإعطائهم مطلق الحرية في إدارة شؤون الكويت الخارجية، وفي مقابل ذلك تعزّز حكم الشيخ مبارك، ففي ظلّ الحماية البريطانية لم يعد يخشى من ردّة فعل الإمبراطورية العثمانية إزاء الطريقة التي وثب بواسطتها إلى السلطة.
بعد اكتشاف النفط في الكويت في العقد الثاني من القرن العشرين، تعزّزت السياسة الاحتكارية البريطانية، وتعزّزت معها الرغبة البريطانية في المحافظة على استمرار الأسرة الحاكمة في البقاء على رأس السلطة في مقابل الامتيازات النفطية المعروفة واحتفاظ الكويت بكميات كبيرة من الجنيه الإسترليني لدعم الاقتصاد البريطاني، بالإضافة أيضا إلى استثمارات هائلة في العاصمة البريطانية بأموال كويتية، ولم يعكّر صفو هذه العلاقة القائمة على المنفعة المتبادلة سوى وصول المد القومي إلى الكويت بعد الثورة الناصريّة في مصر، وهذا ما تؤكده الفقرة التالية التي جاءت في إحدى المراسلات السرية البريطانية ضمن الأرشيف البريطاني:
“ليس لدينا خيار سوى محاولة انتهاج سياسة حذرة في الوقت الراهن. إذا جاءت رياح التغيير إلى هنا (الكويت)، فعلينا أن نبذل كل ما بوسعنا لضمان مصالحنا، مما يجعل لزاما علينا أن نحرص على وقاية الأسرة الحاكمة من رياح التغيير في المنطقة، أو من احتمالية تبنّي الأسرة الحاكمة للأفكار القومية على حساب تقاربها معنا”.
يتبع،،،

الأربعاء، 11 يوليو 2012

التاريخ لا يعيد إنتاج الملوك


قراءة التاريخ السياسي العالمي تجلب الاكتئاب لذوي الدماء الزرقاء، فعدد الأنظمة الملكية في تناقص عبر التاريخ، وهذه هي سنّة الحياة، فالتاريخ لا يعيد إنتاج الملوك (ربما تكون إسبانيا الاستثناء الوحيد، وأما حالة البحرين فلا تعدو أن تكون مجرّد إعادة صياغة للألقاب)، وهذه الحقيقة ما فتئت تطرح سؤالاً ملحّاً أمام من تبقّى من ملوك العصر الحاضر: كيف يمكن الاستمرار في البقاء على قمة الهرم؟
في أوروبا، كان هناك من الملوك ممن أرادوا البقاء على قمة الهرم بأيّ ثمن، فكان لهم ما أرادوا بعد أن تنازلوا عن السلطة السياسية مع الاحتفاظ بالوجاهة الشكلية، وأمّا أولئك الملوك الذين طغوا واستكبروا، فكان مصيرهم أنْ لفظهم الشعب، وطواهم التاريخ، وصاروا نسياً منسيّا! تلك كانت نتيجة طبيعية لعملية تاريخية بدأت مع زلزال “التنوير الأوروبي” ومازالت مستمرة إلى عصرنا الحاضر، فالعقل الأوروبي شبّ عن الطوق منذ القرن الثامن عشر ولم يعد مستعدّا للخضوع لأيّ سلطة من دون تبرير مقنع، والتبريرات التقليدية لم تعد تنفع، فالحق الإلهي للملوك في الاحتفاظ بالسلطة أصبح مجرّد أسطورة لا تتناسب مع عقل ذي مزاج علماني، وخصال “الفروسية” و”الشهامة” و”الشجاعة”، أي خصال الملوك المؤسسين، ربما وافقت مزاج المجتمعات البدائية التي هي دوماً في حاجة إلى راعٍ يرعاها، لكنها لم تعد تصلح كمبرّرات مقنعة لاعتلاء السلطة في مجتمع مدنيّ حرّ ومتحضّر.
نعم، ربّما أزعجت قراءة تاريخ الأمس ملوك اليوم، لكنهم سيحسنون صنعا لأنفسهم ولشعوبهم لو أنهم تحاملوا على أنفسهم قليلاً وقرؤوا تاريخ الأنظمة الملكية، ولعلّ الأسر الملكيّة في منطقة الشرق الأوسط هي المعنيّة أكثر من غيرها في قراءة هذا التاريخ، ذلك أنّ بقاءها في السلطة هو إلى اللغز أقرب منه إلى أيّ شيء آخر، فهو بقاء يكاد يتحدّى حركة التاريخ!
لننظر، على سبيل المثال، إلى دول الخليج، ولنطرح السؤال التالي: كيف تمكنت الأسر الحاكمة في هذه الدول من الاستمرار في البقاء على هرم السلطة؟ هذا سؤال شائك جدّا، فالإجابة عنه تتطلّب أولاً النظر إلى الظروف الداخلية لكل دولة على حدة، وتتطلّب ثانياً تقسيم الحقبة الزمنية إلى ما قبل اكتشاف النفط وما بعده، وتتطلّب ثالثاً الوقوف على علاقة كل أسرة حاكمة على حدة مع القوى الكبرى التي هيمنت على منطقة الخليج لفترة زمنية طويلة، وبالأخص الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا العظمى، لكن بإمكاننا أن نعثر على إجابة جزئية عن هذا السؤال من خلال التركيز على حالة الكويت في محاولة للتعرّف على الظروف الموضوعية التي ساهمت ولا تزال في بقاء الأسرة الحاكمة على قمة هرم الحكم طوال القرون الماضية، وهذا هو موضوعنا في المقال القادم.

الثلاثاء، 10 يوليو 2012

الإمارة الدستورية ولغة التخوين


يبدو أن لغة التخوين هي السائدة في الساحة السياسية المحلية، فالمطالبة المشروعة بإمارة دستورية حقيقية لا يُنظر إليها بوصفها خطوة مهمة على طريق الإصلاح السياسي، بل مجرّد مطالبة مشبوهة باغتصاب الحكم من أسياده! لكن من هم أسياد الحكم حسب الدستور؟ المادة (6) من الدستور تنص على أنّ الشعب “مصدر السلطات جميعا”، والشعب هو أنت وأنا، إنه نحن! إذا كان هذا صحيحاً، وهو صحيح من الناحية النظرية على الأقل، فإنّ المنطق لا يقف إلى جانب أصحاب لغة التخوين (وما أكثرهم هذه الأيام!)، ذلك أنّ من يطالبون اليوم بإمارة دستورية حقيقية يمثّلون شريحة كبيرة نسبياً من الشعب، والشعب هو السلطة، ومن يملك السلطة لا يطلبها، فمثلما أنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فإنّ مالك الشيء لا يطلبه.
لكن لو نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، أي من ناحية عمليّة محضة، فإن لغة التخوين تبدو منطقية جدّا! إنّ اتهام المطالبين بإمارة دستورية بالسعي إلى انتزاع السلطة يتضمّن افتراضا مفاده أنّ الشعب لا يحكم، وهو افتراض صحيح، فنحن في واقع الأمر لا نحكم إلاّ من خلال البرلمان، وسلطة البرلمان محدودة جدّا إذا ما قيست بسلطة البرلمان في النظم الديمقراطية الحقيقية، بل إنّ الدستور الكويتي نفسه يضفي مشروعية على ضعف سلطة البرلمان من خلال الاستدراك الذي تحتويه المادة (6) من الدستور، والذي يشير إلى أنّ ممارسة الشعب لسلطته يجب أن تكون حسب الوجه المبيّن بالدستور، ولا حاجة إلى تذكير القارئ بالحجم المتواضع للسلطة التي يمنحها الدستور للشعب!
إذا كانت لغة التخوين تستند إلى افتراض صحيح، فهل هذا يعني أنّ أصحابها على صواب؟ السؤال نفسه بصيغة أخرى: إذا كان الشعب لا يحكم، فهل المطالبة بإمارة دستورية خيانة عظمى؟ لنفترض أنّ ثمّة خيانة فعلاً، ولنطرح السؤال البسيط التالي: خيانة بحقّ من تحديداً؟ بحقّ الوطن؟ ما الوطن إلاّ نحن، وبالتالي إذا كان ثمّة خيانة، فلا بدّ أن تكون خيانة بحقّ الذات، لكن هناك فرق شاسع بين خيانة الذات وتطويرها، فالمطالبة بإمارة دستورية حقيقية ليست سوى تطوير لذات الوطن، أي لذواتنا نحن أفراد الشعب! هل هي خيانة بحقّ الأجيال السابقة؟ لكن من تواضعوا على صياغة الدستور أقرّوا هم أنفسهم تطويره إلى المزيد من الحرّيات، والمطالبة بإمارة دستورية حقيقية تنسجم تماماً مع هذا المنحى، ثمّ من منحنا الحقّ في إجبار شباب اليوم على الالتزام باتفاق لم يكونوا أبداً طرفاً فيه؟
إنّ المطالبة بإمارة دستورية حقيقية خطوة مهمة على الطريق الصحيح، لكنها خطوة جبّارة تحتاج إلى المزيد من الجهد لتحقيقها، وهو جهد لا ينبغي أن يكتفي “برفع الشعارات السياسية”، بل يتجاوز ذلك إلى “المبادرة بالدعوة إلى نقاش عام جاد ومسؤول تشترك فيه القوى السياسية والشبابية كافة”، كما أشار زميلنا الفاضل الدكتور بدر الديحاني في مقال له هنا في “الجريدة” تحت عنوان “إمارة دستورية…كيف؟”، فمن يدري؟ ربمّا يتيح مثل هذا النقاش الفرصة أمامنا جميعاً إلى وضع تصوّر عام حول مفاهيم حيوية مثل “الإمارة الدستورية”، و”تداول السلطة”، وخصوصاً مفهوم “المجتمع المدني”، وهو المفهوم الذي يبدو أنّ أغلب التيارات الدينية لم تتمكن من استيعابه بعد!