الثلاثاء، 22 مارس 2016

قبل أن يُؤكل الثور الأبيض


إزاء بوادر الهجمة النيوليبرالية الشرسة على القطاع العام، بات شبح الإضرابات يلوح في الأفق، والإضراب حقّ أصيل ومشروع وفق ما أقرّته المواثيق والاتفاقيات الدولية، بل إنّ بعض الدول ذهبت إلى حدّ الاعتراف بحق "الإضراب التضامني"، أي إضراب العاملين في مؤسسة غير متضررة لمجرّد التضامن مع العاملين في مؤسسة متضررة، وهو أمر يشير إلى إحساس عميق بالمصير المشترك من جهة، وإلى أهمية تكاتف الجهود وتوحيد الصفوف من جهة أخرى.
حتى هذه اللحظة، لا يزال صوت النقابات النفطية هو الأعلى في التصدي للنهج الحكومي المتمثل بسياسة  "التقشف"، وحتى هذه اللحظة، لا يزال الدفاع عن حقوق العاملين في القطاع العام مقتصرا على نقابة هنا وتجمّع هناك، وحتى هذه اللحظة، ما زال الصمت المخجل يسود مؤسسات المجتمع المدني، وهو صمت له أسبابه الموضوعية التي يتعلق بعضها بدوران المجتمع المدني في فلك السلطة بشقّيها السياسي والاقتصادي.
بالرغم من أنّ سياسة "التقشف" تمسّ مؤسسات القطاع العام كافة، فإنّ ردة فعل العاملين في هذا القطاع ما زالت تتصف بالخصوصية المؤسسية في أحسن الأحوال، وباللامبالاة العملية في أسوئها، ومن الضروري في هذه المرحلة على وجه الخصوص عدم الوقوع في فخ التشرذم الذي عكسته البيانات الصادرة من بعض الجهات النقابية، فالخطاب النقابي ينبغي أن يتجاوز الفضاء المؤسسي الضيق ليشمل كل مؤسسات القطاع العام، كما ينبغي أن نسعى جميعا إلى توحيد الجهود الرامية إلى خلق جبهة مدنية واسعة، نصدّ من خلالها هذه السياسة الاقتصادية المنحازة، ونذود بواسطتها عن حقوق كفلها لنا الدستور، فجميع العاملين في مختلف جهات القطاع العام مستهدفون، وجميعهم ضحايا لجلاّد "البديل الاستراتيجي"، وإذا كان الجلاّد لا يفرّق بين ضحاياه، فإن من الحماقة أن تلوذ كلّ ضحية بالصمت بحجة أنّ دورها لم يحن بعد!
أخيرا، ينبغي الأخذ بالاعتبار هذه الحالة من عدم التكافؤ بين طرفي النزاع، وعدم التكافؤ هنا لا يقتصر على الموارد المادية والإعلامية، بل يشمل أيضا مفردات الخطاب بشكل عام، فعلى سبيل المثال، في حين يتمتع مصطلح "القطاع الخاص" برواج كبير ويحظى باحترام شديد، يبعث مصطلح "طبقة العمّال" على السخرية ولا يكاد يظهر وإلّا وهو مقرون بتهمة اجترار الماضي، ولكن مهما يكن من أمر، وبصرف النظر عن هذا التباين في سُمعة المصطلحات ومدى مطابقتها لذوق العصر، فإنّ جوهر الاختلاف الطبقي كان ولم يزل متعلقا بمصدر الدّخل لا بمقداره، فالأجير أجير مهما علا أجره، والبرجوازي برجوازي مهما تضاءلت أرباحه، وعلى هذا الأساس يجب التفريق بين القطاع العام والقطاع الخاص، وعلى هذا الأساس أيضا ينبغي أن تتكاتف جهود النقابات العُمّالية قبل أن يُؤكل الثور الأبيض!

الاثنين، 21 مارس 2016

فتات الكعكة


في الأسبوع الماضي، أجرت وكالة الأنباء الكويتية "كونا" لقاء مع الدكتور فراس رعد، مدير مكتب البنك الدولي في الكويت، وقد دار اللقاء حول موضوع الساعة والمتمثل بما يسمى "الإصلاح المالي والاقتصادي"، وكما هو متوقّع، جاءت تصريحات الدكتور "رعد" داعمة للنهج الاقتصادي الحكومي الذي لا يخرج في خطوطه العريضة عن "روشتة البنك الدولي"، حيث وصف الإصلاحات الاقتصادية التي تنوي الحكومة القيام بها بأنها "ضرورية في إعادة رسم دور القطاع العام في الحياة الاقتصادية الوطنية وتهيئة الدولة والمجتمع للتعاطي ضمن بيئة اقتصادية جديدة"، وهي بيئة أبطالها رجال الأعمال ممن يؤيدون سياسة الحكومة في دعم "التخصيص وريادة الأعمال وسوق العمل وبيئة الاستثمار".
 الطريف في تصريحات الدكتور "رعد" إشارته إلى مبدأ "العدالة الاجتماعية" وآلية "توزيع الثروة الوطنية"، فمن ضمن القضايا التي دافع عنها في اللقاء الذي أُجري معه هاتان القضيتان: القضية الأولى مفادها أنّ الإنفاق الحكومي على الدعوم "لا يخدم غاية العدالة الاجتماعية"، ذلك "أنّ السياسات الداعمة للسلع والخدمات لا تفيد الطبقات الاقتصادية الأقل حظا بقدر ما تفيد الطبقات المتوسطة والعليا"، وأمّا القضية الثانية فتشير إلى أنّ سياسة التوظيف في القطاع الحكومي لم تعد تمثّل آلية صالحة لإعادة توزيع الثروة النفطية على المواطنين، إذ لا بدّ من "استحداث آلية جديدة" من خلال "حث المواطنين على الدخول في صفوف القطاع الخاص".
جاءت تصريحات الدكتور "رعد" متزامنة مع اعتماد مجلس الوزراء ما يسمى "وثيقة الإصلاح المالي والاقتصادي"، وهي وثيقة تضمنت سياسة اقتصادية نيوليبرالية ومنسجمة مع توصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومن المؤسف أن يعطي مدير مكتب البنك الدولي دروسا في العدالة الاجتماعية للشعب الكويتي، خصوصا أنّ المؤسسة التي ينتمي إليها تتعّرض وما زالت إلى انتقادات شديدة حول دورها في انتهاك مبدأ العدالة الاجتماعية في العديد من الدول النامية والفقيرة، فمن المعروف أنّ الحلول التي يفرضها البنك الدولي على الدول المدينة لضمان سداد ديونها تنحصر في ما يُعرف ببرامج التكيّف الهيكلي، وهي برامج تفرض على الحكومات تقليص الإنفاق العام على الصحة والتعليم وغيرهما من القطاعات الحيوية في مقابل زيادة الدعم المقدّم للقطاع الخاص، كما أنها برامج تهدف إلى توجيه اقتصاد الدولة بطريقة تضمن زيادة معدّل التصدير الخارجي في مقابل خفض معدّل الاستهلاك المحلي، وهناك العديد من الدراسات الأكاديمية المنشورة التي تؤكّد مسؤولية هذه البرامج الاقتصادية عن انهيار نُظم مالية لدول بأكملها، وتزايد حجم الهوة بين الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية، وتفشي البطالة وسوء التغذية، وتزايد معدّل الوفيات في صفوف الطبقة العاملة على وجه الخصوص.
أمّا فيما يتعلق بالقضية الأخرى والمتمثلة بسياسة التوظيف في القطاع الحكومي، فقد سبق أن كتبنا مرارا وتكرارا حول الوظيفة الحكومية بوصفها مجرد آلية لمعرفة نصيب المواطن من الثروة النفطية، ومع ذلك فإنّ الدعوة إلى "استحداث آلية جديدة لتوزيع الثروة" ليست سوى دعوة إلى الاستجارة من الرمضاء بالنار، ذلك أنّ "حثّ المواطنين على الدخول في صفوف القطاع الخاص"، حتى مع افتراض مبدأ تكافؤ الفرص في هذا القطاع القائم أساسا على العلاقات داخل منظومة السلطة، لن يساهم في تخفيف العبء على الميزانية العامة، فمن المعروف أنّ القطاع الخاص طفيلي في مجمله وغير منتج، كما أنّ استفادة هذا القطاع من الإنفاق العام أكبر بكثير من استفادة المواطن العادي، وبدلا من معالجة هذا التوزيع غير العادل للثروة، تأتي الحكومة لتزيد الطين بلّة من خلال اعتماد وثيقة مُنحازة اجتماعيا وبشكل سافر.
العوائد النفطية في دول الخليج أشبه بكعكة كبيرة، لا يصل فُتاتها إلى المواطنين والوافدين إلّا بعد أن ينقضّ عليها الآخرون قضما ونهشا، ومن ضمنهم "العم سام" والمستفيد الأكبر من الصناديق السيادية، وتجار السلاح، وأصحاب الوظائف العليا في الدولة، وأرباب القطاع الخاص، وبالرغم من ذلك كله، يأتي مَن يطالب المواطن والوافد بالاقتصاد في تناول فُتات الكعكة!

الثلاثاء، 15 مارس 2016

الأرباح قبل الأرواح



الإنسان غاية في ذاته، والمال مجرّد وسيلة، لكن من شأن الجشع أن يقلب الموازين ليصبح المال غاية في ذاته، والإنسان مجرّد وسيلة، كما أنّ الجشع ينطوي على مفارقة تكشف عن عمق الهوّة بين الأخلاق والاقتصاد، فالجشع رذيلة أخلاقية وفضيلة اقتصادية، وإذا كان الجشع هو إحدى الخطايا السبع المميتة في التراث المسيحي، فإنه يشكّل أيضا الأساس الذي تقوم عليه عقيدة السوق، وهي سوق تنعم بالحرية بالقدر الذي يزداد فيه الإنسان عبودية، وهذه نتيجة طبيعية لنظام اقتصادي يضفي قيمة اقتصادية على رذيلة أخلاقية.

هناك فرق كبير بين طلب الرزق وطلب الربح، فالأوّل وسيلة يعتاش منها المرء، والثاني غاية يُدمن عليها المريض، وإحدى أهم مشكلات عصرنا الحاضر على وجه الخصوص هي أنّ العالم بأكمله تديره أقلية مريضة، أقلية تعبد إله الرومان "ميركوريوس" (إله التجارة واللصوص)، وتتفانى في أداء طقوس الجشع، حيث تطغى المادة على الروح، وحيث لا صوت يعلو فوق صوت رنين الدراهم!


نستطيع أن نفهم حرص عبيد "ميركوريوس" على جني الأرباح، ولكن ما يثير الاشمئزاز هو أن تُجنى الأرباح على حساب الحفاظ على أرواح البشر، وملامح هذا الجشع الذي لا يقيم وزنا لقيمة الإنسان أكثر من أنْ تُحصى، منها عقد صفقات بيع الأسلحة في مناطق متخمة بالنزاعات والحروب، وفرض سياسات اقتصادية على دول بأكملها لنهب ثرواتها والإمعان في إفقارها، وعدم التورّع عن إشعال الحروب للسيطرة على موارد الطبيعة، وعدم احترام الحدّ الأدنى الذي يضمن كرامة الإنسان في بيئة العمل، وتسهيل حركة رؤوس الأموال عبر القارات في الوقت الذي لا يستطيع فيه لاجئ أن يعبر الحدود من دولة إلى أخرى!

كثيرة هي أدبيات اليمين السياسي التي تؤكّد علاقة الاعتماد المتبادل بين الرأسمالية والديمقراطية، فكلّما اشتدّ عود إحداهما قَوِيَ ظهر الأخرى، ولكن الحقائق التاريخية تشير، أولا، إلى أنّ الديمقراطية الحديثة لم تزد على أنْ استبدلت سلطة الجاه بسلطة المال، وبذلك تكون البلوتقراطية (حُكم الأثرياء) هي ثمرة التزاوج غير الشرعي بين الرأسمالية والديمقراطية، كما أنّ الحقائق التاريخية تشير، ثانيا، إلى أنّ فرصة ازدهار الديمقراطية في ظلّ نظام رأسمالي منضبط أكبر بكثير من فرصة ازدهارها تحت وطأة نظام رأسمالي منفلت.

الجدير بالذكر أنّ "انضباط" الرأسمالية قبل انفلاتها في العقود الأخيرة، وبالأخص ظهور "دولة الرفاهية"، لم يكن ناتجا عن إعادة النظر في القيم العليا للنظام الرأسمالي، بل جاء ضمن محاولات تاريخية لجعل الانضمام إلى الاتحادات العُمالية أقلّ جاذبية، كما أنّ أغلب المكاسب التي ينعم بها الموظفون والعمّال اليوم، مثل الحدّ الأدنى للأجور والحدّ الأقصى لساعات العمل، هي ثمرة كفاح أجيال رفضت أن تقدّم أرواحها قُرباناً لجشع أقلية لا إنسانية، وما أصدق "خوان كارلوس مونيديرو" حين كتب يقول: "صراعات الأمس هي حقوق اليوم، وصراعات اليوم هي حقوق الغد"!  

الاثنين، 7 مارس 2016

إمّا مُنشقّ وإمّا مُنصاع


في الكويت، وبفضل مرسوم "الصوت الواحد"، فضاءان سياسيان، أحدهما ناشط ويزداد اتساعا، والآخر خامل ويزداد انحسارا، وقد جرت العادة في أن نرصد الاختلاف بين الناشطين والخاملين من حيث قرار المشاركة في الانتخابات النيابية أو قرار مقاطعتها، لكن يبدو لي أنّ الوضع العام يبلغ من السوء بحيث لم يعد الموقف من انتخابات نيابية كافيا لرصد الخطّ الفاصل بين الفريقين، فعندما تتأصّل ثقافة الامتثال في كل مناحي الحياة، من البيت إلى العمل، ومن الشارع إلى البرلمان، فإنّنا نكون بذلك أمام موقف من كلّ أنواع السلطة، وهو موقف لا يقبل القسمة إلاّ على اثنين: إمّا مُنشقّ، وإما مُنصاع.
نحن، إذاً، أمام ظاهرة تناقص أعداد المنشقّين في مقابل تزايد أعداد المنصاعين، ولسنا في حاجة إلى تبيان السبب وراء جاذبية الانصياع عندما يكون مقدار الاستفادة من السلطة بكلّ تجلياتها هو معيار الربح أو الخسارة، ولكننا في حاجة إلى الوقوف عند مظاهر هذا الانصياع بعد أن وصل إلى مرحلة متقدمة من حيث المستوى، ومقززة من حيث المضمون.
إذا كنتَ مُنشقّا، فلن تكون مؤهّلا للقيام بوظيفة تتطلّب قدرا كبيرا من الانصياع، والغالبية العظمى من الوظائف الحكومية في هذه الأيام هي من هذا الصنف، خصوصا وظيفة العمل في إحدى إدارات العلاقات العامة التابعة لأي وزراة أو مؤسسة حكومية، ومن الملاحظ أنّ تحوّلا كبيرا قد طرأ على وظيفة هذا النوع من الإدارات، فبدلا من الاكتفاء بإبراز عمل وزارة هنا أو مؤسسة هناك، أصبح الاهتمام منصبّا على تلميع صورة مَن يتربّع على هرم هذه الوزارة أو تلك المؤسسة، ولا يُخدم بخيل في ثقافة "حاضر طال عمرك"!  
لعلّ القارئ يتذكّر فيلم "مجتمع الشعراء الأموات" Dead Poets Society، وبالتحديد عندما طلب الأستاذ من تلاميذه في أوّل محاضرة أن يقف كلّ واحد منهم على الطاولة التي أمامه بدلا من الجلوس على الكرسي، فهذه الروح المتمرّدة والخلاّقة في آن واحد، هذه الروح التي تسمو بالإنسان إلى مرتبة احترام الذات، وتربأ به أن ينحدر إلى مهانة العبودية للآخر، هي الروح التي تحتضر في أيامنا هذه، وما إنْ تموت هذه الروح المتمرّدة حتى يسود فضاء الانصياع، حيث لا يُسمح بقول "لا" أو بالوقوف فوق الطاولة، وحيث لا خلاف ولا اختلاف، وعندها، عندها فقط، تموت السياسة بمعناها العميق، فما السياسة من دون اختلاف؟