الاثنين، 28 أكتوبر 2013

إذا فشلت تطلّعاتك... فخفّض معاييرك

إنّ من النّصح ما أفسد، ولست أجد نصيحة أكثر إفساداً للتعليم من تلك التي قرأتها في مكتب صديق أجنبي يعمل أستاذا جامعيا، فعلى الجدار لوحة منقوش عليها العبارة التالية: "If your expectations fail, lower your standards"، وترجمتها الحرفية إلى العربية هي: "إذا فشلت تطلّعاتك، فخفّض معاييرك"!

في أيّ نظام تعليمي مرموق، جودة التعليم غاية، والمعايير الصارمة وسيلة، لكن في نظامنا التعليمي غير المرموق، الكم أهم من الكيف، فكل طالب لا بدّ أن يحصل في آخر العام الدراسي على شهادة مكتوب فيها: "ناجح ويُنقل إلى الصف الذي يليه"، فالغاية هي تحقيق أعلى نسبة نجاح، والوسيلة هي التساهل في تطبيق معايير جودة التعليم، ذلك أنّ المهم هو أن ينجح الطالب، لا كيف نجح!
من فساد الخُلق أن تقبل شيئا تُدرك في قرارة نفسك أنك لا تستحقه، ولهذا النوع من الفساد الأخلاقي مظاهر متعددة، منها حقيقة أنّ عددا كبيرا من الطلاب في المرحلة الجامعية لا يتورعون عن قبول درجة لا يستحقونها، بل إنّ منهم من يستجديها استجداء من دون أدنى خجل! فساد الخُلق هذا مستمدّ من نظامنا التعليمي، فعندما يحرص مسؤولو الوزارة على نسبة النجاح أكثر من حرصهم على مستوى التحصيل العلمي، كيف لا يحرص الطالب بدوره على نيل الشهادة أكثر من حرصه على مدى مشروعية الحصول عليها؟
 في المرحلة الجامعية، هناك سؤال يطرحه الطالب عادة على أستاذه، وهو سؤال يستحقّ أن نسميه "سؤال المليون"، ليس لأنه ذو أهمية، بل لأنّ عدد من يطرحونه من الطلّاب كبير جدا، والسؤال هو: "هل ما تقوله الآن جزء مما سنراه في الاختبار؟!". لا أدري ماذا تبقىّ من مفهوم "الاختبار" إذا بلغ مستوى الشفافية بين الطالب والأستاذ هذا الحد، وَلَيت شِعري ماذا تبقى من مفهوم "المحاضرة" إذا كان محتواها مقتصرا على محتوى الاختبار؟ لكن لا عجب ولا غرابة، فعندما يكون النجاح بأي ثمن أولى من التحصيل الدراسي، يتهاوى الفضول العلمي عند الطلاّب إلى مجرّد فضول حول معرفة محتوى الاختبار.
إلى جانب، الطلّاب، هناك أيضا ضحايا النظام التعليمي من بين صفوف الأساتذة، أولئك الذين إذا فشلت تطلعّاتهم حول مستوى التحصيل العلمي عند طلّابهم، سارعوا إلى التساهل في تطبيق معايير النجاح في المادة الدراسية، لترتفع بذلك نسبة النجاح على حساب جودة التعليم.

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

بابا نويل وقرية الأطفال

قرب الحدود بين إسبانيا والبرتغال، هناك مكان يسمّونه "لاس باتويكاس"، تحفّه الأشجار من كل جانب، ويمر به جدول صغير، لكن ما يميّز المكان هو الدير الذي يقع في قمة تل، حيث يعيش عدد من الرهبان في عزلة أبدية! للدير موردان من الرزق: هبات المحسنين، وتأجير بعض الغرف لمن أراد الهروب المؤقت من صخب الحياة ومشاغلها، وقد اعتدت الذهاب إلى هناك والمبيت ليلة أو ليلتين كلما سنحت الفرصة، وفي كل مرة أزور فيها الدير، يلفت انتباهي راهب ليس كبقية الرهبان، إذ كنت أراه دائماً جالساً وحده، وكأنه لم يكتف بهذه العزلة عن العالم الخارجي فجعل يعزل نفسه أيضاً عن أقرانه في الدير!

اقتربت منه متلطفاً يدفعني الفضول، وكم أدهشني بغزارة علمه، ودماثة خلقه، وبشاشة محيّاه! تحدثنا في كل شيء تقريباً، عدا الدين، إلى أن انتهينا إلى قصة "بابا نويل"، وما سمعته من الراهب حول تلك القصة يختلف تماماً عمّا قرأته من قبل. تحدّث الراهب قائلاً:

"كانت هناك قرية لا يسكنها إلا الأطفال، لكنهم أطفال يمتازون بخيال خصب، ولعل هذه الميزة هي السبب وراء المشكلات التي عانوها فيما بعد، ففي يوم من الأيام، دبّت الفُرقة بين أطفال القرية، واشتدت الخصومة بينهم فانقسموا إلى ثلاثة فرق: فريق يزعم أن بابا نويل لا يأتي بالهدايا إلا لهم وحدهم، وفريق ثان يؤكد أن لبابا نويل أشكالاً مختلفة، لكنه يأتي بالهدايا للجميع، أما الفريق الثالث من الأطفال فيصر على أن بابا نويل لا مثيل له، والهدايا هي من نصيبهم هم وحدهم"!

ثم يتابع الراهب:

"استمرت الخصومة بين الأطفال وقتاً طويلاً، ولم تزدهم تلك الخصومة إلا انقساماً على انقسام، وما اتحدوا قط إلا في شيء واحد: الجميع في انتظار بابا نويل وكيسه المليء بالهدايا، لكن الهدايا لم تصل بعد، وأحسب أنها لن تصل أبداً! أعظم هدية هي أن تدرك أن ليس ثمة هدية، وهذا بالضبط ما عجز الأطفال المساكين عن فهمه واستيعابه، فلو أدركوا هذه الحقيقة لاستحالت الخصومة فيما بينهم إلى صداقة دائمة، ولانقلبت عبودية الانتظار إلى حرية الاختيار"!

قام الراهب من مكانه ملقياً عليّ تحية الوداع، فأسرعت أسأله: "هل أنت أحد أفراد تلك القرية؟" تبسم الراهب وأجاب: "كنت!".

قبل أن يخفيه الظلام عائداً إلى مخدعه، توقف الراهب ليقول: "تذكر أنها قرية أطفال، وأنا لم أعد طفلاً"!

(إسبانيا، 1996)

الاثنين، 21 أكتوبر 2013

أحفاد بطليموس


لنبدأ بحكاية من التراث اليوناني: يُحكى أن بطليموس الأول، الحاكم اليوناني لمصر، حاول جاهداً أن يستوعب علم الهندسة من خلال قراءته لكتاب "العناصر" الذي وضعه الرياضي الشهير إقليدس، وعندما فشل في تحقيق غايته، ذهب إلى إقليدس يسأله عمّا إذا كانت هناك طريقة مختصرة لاستيعاب الكتاب، فأجابه الأخير قائلاً: ليس هناك طريق ملكيّ إلى الهندسة!
إجابة إقليدس حكيمة في معناها، صادقة في محتواها، ومع ذلك لا يبدو أنها تلقى صدى في زمننا الحاضر، فهناك من يعتقد أن بإمكانه أن يتعلم لغة أجنبية في غضون أسبوع واحد، وهناك من يظن أن بوسعه أن يفهم النظرية النسبية عن طريق مشاهدة "يو تيوب"، وهناك من يتخيل أن بمقدوره أن يستوعب الأزمة المالية من خلال متابعة النشرات الإخبارية، بل إن هناك من يتصور واهماً أن الغليون والعثنون هما كل ما يحتاجه المرء كي يصبح طبيباً نفسياً!
لعل أغلب العاملين في السلك الدبلوماسي هم ممن يعتقدون أن "الثقافة الموسوعية" ركن أساسي من أركان شخصية "الدبلوماسي الناجح"، فالمعرفة بالنسبة إلى هؤلاء هي أن "تقطف من كل بستان زهرة"، أي أن توهم محاورك بأن لديك إلماماً بحقول المعرفة كافة، ولا يهم أن تكون هذه المعرفة سطحية، شريطة ألا يكتشف محاورك ذلك، فمثلاً، إذا كان الموضوع يدور حول الفلسفة، ينبغي لك أن تذكر أسماء مثل "أرسطو"، و"هيغل"، وربما أيضا "فتغنشتاين"، لكن إذا تبين لك أن محاورك قد قرأ لهؤلاء، فلا بد من الانتقال إلى موضوع آخر! حسب القاموس الدبلوماسي، شكل المعرفة أهم من عمقها، فمن ذا الذي يهتم بالجذور بعد قطف الزهور؟
هل سمع القارئ بسلسلة Books for Dummies؟ الترجمة الحرفية لهذه السلسلة من المنشورات هي "كتب للأغبياء"، أو "كتب للمبتدئين" حسب الترجمة العربية المؤدّبة! يتناول هذا النوع من المطبوعات مواضيع شتى، فهناك عناوين مثل "الطبخ للأغبياء"، و"الجنس للأغبياء"، و"كرة القدم للأغبياء"، لكن هناك في المقابل عناوين مثل "الفيزياء للأغبياء"، و"الكيمياء للأغبياء"، و"الرياضيات للأغبياء"! لا شك أن معظم العناوين في هذه السلسلة موجهة إلى القراء المبتدئين بصرف النظر عن مستوى ذكائهم، فإذا كان للأغبياء هوس في معرفة تفاصيل الجنس، فإن من غير المعقول أن تثير الفيزياء اهتمامهم! لكن من الصعب أيضا إنكار السبب وراء المبيعات الضخمة لهذه السلسلة من المنشورات، فلولا اعتقاد عدد كبير من القراء بوجود طريق ملكي إلى المعرفة لما حظيت تلك الكتب برواج كبير.
في سورة "الزمر" نقرأ: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟ بصرف النظر عن نوع العلم المقصود هنا، فإن هذه الآية عبارة عن سؤال بلاغي، أي سؤال إجابته معروفة، وهي النفي، لكن أحفاد بطليموس الأول (وما أكثرهم) يظنون غير ذلك! كيف لا وقد ظنّ جَدّهم من قبل أن إقليدس الذي أفنى حياته في طلب العلم يُمكن اللحاق به في غضون ساعات!

الاثنين، 14 أكتوبر 2013

التعليم بين التلقين والتفكير النقدي

للتعليم ركنان: المعلومة والتفكير النقدي، هذان هما جناحا التعليم، فمن دونهما لا يستطيع الطالب أن يحلّق في سماء المعرفة. هناك تركيز شديد في مناهجنا الدراسية على المعلومة في مقابل إهمال كبير للتفكير النقدي، حتى عملية نقل المعلومة من الأستاذ إلى الطالب تشوبها عيوب كثيرة، أبرزها مشكلة الأدلجة التي أشرنا إليها في المقال السابق، فإذا كان التعليم عبارة عن عملية نقل لمعلومة من طرف إلى طرف آخر، فإنّه ليس من حقنا أن نجبر طالباً على تعلم معلومة لا نملك لها دليلاً منطقياً أو مادياً. لو طبقنا هذا المبدأ البسيط لتم اختزال مناهجنا الدراسية إلى العُشر أو أقل من ذلك بكثير، وهنا تحديداً تكمن كارثة التعليم.
النظام التعليمي عبارة عن مرحلة تأهيل لخوض معترك الحياة، وليس ثمة سلاح أكثر كفاءة لهذا الغرض من سلاح ملكة التفكير النقدي. نريد نظاماً تعليمياً ناجحاً لأننا نريد عقولاً حرة ومتحرّرة من كل أنواع الاستغلال والعبودية، فالتفكير النقدي، على العكس من التلقين، يتيح للطالب أن يختبر مفاهيم في غاية الحيوية كمفهوم الدولة، أو الدين، أو الوطنية، أو القبيلة، أو الأسرة، بدلاً من قبول هذه المفاهيم على علاتها. يقول برتراند رسل: "إنّ النظام التعليمي الذي يعتمد على التلقين ينتج نوعين من الأفراد، الخادم المطيع والسيد المستبد، ذلك أن هذا النوع من التعليم يقود إلى الاعتقاد الخاطئ بأن علاقة التعاون بين شخص وآخر ليست ممكنة إلا عندما يصدر أحدهم الأوامر، بينما يقوم الآخر بتنفيذها".
هناك أمثلة عديدة على النتائج السلبية لهذا المستوى المتواضع لنظامنا التعليمي، لكني سأكتفي بمثالين فقط. المثال الأول يشير إلى حقيقة أنّ مخرجات التعليم الرديئة لا تجبر أستاذ الجامعة على أن يرفع من مستوى أدائه الأكاديمي، فهو واثق أنه لن يتلقى من طلبته أسئلة من العيار الثقيل تجبره على إعادة النظر بهذا الكم الهائل من الدروس المكررة، والنتيجة المنطقية هي انتقال عدوى التعليم الرديء من المدرسة إلى الجامعة.
المثال الآخر يتعلق بحقيقة أن غياب النقاش العلمي داخل أروقة المدارس مرتبط بشكل وثيق بفقر الأبحاث العلمية على المستوى الجامعي، فالطالب الذي لم يتعوّد النقاش وطرح الأسئلة لن يكترث لاحقاً بالنقاش وطرح الأسئلة مهما بلغ مستواه التعليمي. لنأخذ مثالاً على غياب النقاش الفكري داخل الوسط العلمي، فمن المعروف أن الأستاذ صالح العجيري يصدر سنوياً تقويما يحمل اسمه، ومن يقرأ هذا التقويم يجد فيه تنبؤات بحالة الطقس خلال سنة كاملة• من جانب آخر، دأبت وزارة التعليم العالي في الكويت على إرسال العديد من الشباب الكويتي لدراسة علم الأرصاد الجوية في أعرق الجامعات الأجنبية، ورغم ذلك، لم نسمع أو نقرأ عن نقاش أو حتى اعتراض على تقويم الأستاذ العجيري من الناحية العلمية، فالمعروف علمياً أنه من الصعب التنبؤ بحالة الطقس لأكثر من خمسة أيام متتالية على أكثر تقدير، وإذا كان من السهل أن نلتمس العذر للأستاذ العجيري إن لم يسمع بالعالم "لورينز" أو بنظرية "الفوضى"، فما السبب وراء هذا الصمت لكل تلك الأجيال المتعاقبة ممن درسوا علم الطقس الحديث؟

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

التعليم والأدلجة

قبل أشهر، أدلى أحد المسؤولين في وزارة التربية بتصريح عن رداءة الوضع الحالي للتعليم في الكويت، وللتدليل على صحة كلامه ذكر أنّ الطالب في المرحلة الثانوية غير قادر على التعبير عن رأيه! يبدو لي أنّ هناك قدراً كبيراً من التفاؤل غير المبرر في كلام هذا المسؤول، حتى إن جاء هذا الكلام في سياق نقد الوضع التعليمي، فالطالب غير القادر على التعبير عن رأيه لديه على الأقل رأي خاص به، لكن الواقع يشير إلى أنّ أغلب الطلاب الذين يصلون إلى المرحلة الجامعية ليس لديهم في حقيقة الأمر آراء خاصة بهم، والسبب المباشر في ذلك هو أنهم ضحايا تعليم مؤدلج.

لكن ماذا نعني بالتعليم المؤدلج؟ للإجابة عن هذا السؤال، يكفي فقط أن ننظر إلى أمرين: الأول هو طبيعة الأفكار التي استقاها الطالب خلال 12 عاماً على مقاعد الدراسة، والثاني هو طريقة تعامل الطالب مع تلك الأفكار. ماذا يعني، مثلاً، أن يقف طالب جامعي ليقول بكل ثقة إنّ القوانين الوضعية قاصرة لأنّ العقل البشري قاصر؟!
من الواضح أنّ هذا الطالب لا يواجه مشكلة في التعبير عن رأيه كما يظن ذلك المسؤول التربوي، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن هذا الرأي ليس رأياً خاصاً بالطالب، وإلا ما معنى أن يتطوع بقية الطلاب في الدفاع عن الرأي ذاته؟ هل هذا التطابق في الرأي بين جميع الطلاب محض مصادفة، أم أنّه نتيجة عملية تلقين ممنهج ساهمت على مدى 12 عاما في شل قدرتهم على فحص مدى صحة الآراء التي تلقّوها ومقارنتها بوجهات نظر مغايرة.
هذا النوع من الطلاب ضحايا تعليم مؤدلج، وهذا الصنف من التعليم الرجعي لا يهتم بكيفية التعامل مع الآراء المتنافرة بقدر اهتمامه بسيادة الرأي الأوحد، ذلك الذي يعبّر عن الثقافة السائدة في المجتمع! هذا بالضبط هو المقصود من هدف استراتيجية التعليم في "إدماج الطالب في مجتمعه"، فالمطلوب هو خلق طالب ممتثل لشروط الوضع القائم، لا يطمح إلى "تطوير المجتمع إلى الأفضل" إلاّ أن يكون هذا "الأفضل" حسب ما يقرّره واضعو المناهج الدراسية، لا حسب ما ينتج من جراء نقاش حقيقي داخل أروقة المدارس.
في ظل هذه السياسة التعليمية الرجعية، أضحت شهادة الثانوية العامة مجرد دليل على نجاح التعليم المؤدلج في وضع قفل على عقل حامل الشهادة، وبذلك تصبح وظيفة الأستاذ الجامعي مجرد محاولة يائسة في تحطيم ذلك القفل، وهي محاولة تنجح حيناً، وتفشل أحياناً كثيرة!

الاثنين، 7 أكتوبر 2013

حول اليوم العالمي للمعلّم


المناسبات السنوية صنفان: أفراح وأتراح، فذكرى التحرير، مثلاً، تنتمي إلى الصنف الأول، وذكرى الاحتلال تنتمي إلى الصنف الثاني، والفرق الجوهري بينهما هو أنّ مناسبات الأفراح مدعاة إلى البهجة والترويح عن النفس، ومناسبات الأتراح مدعاة إلى التفكير ومراجعة الذات، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذه الأيام هو: كيف ينبغي لنا نحن في الكويت أن ننظر إلى مناسبة اليوم العالمي للمعلم؟ بمعنى آخر، إلى أيّ الصنفين السابقين تنتمي هذه المناسبة؟


ليس من الضروري أن نطرح هذا السؤال على المسؤولين في وزارة التربية، فإجابتهم واضحة من خلال التصريحات الصحافية المشيدة بدور المعلّم، ومن خلال التكريم السنوي لكوكبة من المعلمين المتميزين، بالإضافة أيضاً إلى بعض الاحتفالات الرسمية هنا وهناك، مما يعني أننا أمام مناسبة ينظر إليها المسؤولون في الوزارة بوصفها مناسبة من مناسبات الصنف الأول، تلك التي تستدعي البهجة والسرور، لكن هل هي كذلك فعلاً؟

الإشادة بدور المعلّم تفترض وجود معرفة مسبقة بطبيعة هذا الدور، وتكريم "المعلّم المتميّز" يفترض وجود معيار لقياس التميّز، وكلا الافتراضين لا يتحقق إلا في ظل وجود فلسفة للتعليم، فهل لدينا مثل هذه الفلسفة؟ ليس لديّ أدنى شك في أن لدينا فعلاً فلسفة للتعليم، ولكنها فلسفة رجعية، توارثناها جيلاً بعد جيل، وهي إلى إعادة إنتاج التعليم أقرب منها إلى تطويره أو إصلاحه.

 في ظل هذه الفلسفة الرجعية، يقتصر دور المعلّم على الامتثال إلى قوانين الوضع القائم والتقيّد بها، ومن هنا فإن معيار التميّز يشير إلى مدى امتثال المعلّم لتلك القوانين. إن تميّز المعلّم أشبه بتميّز خطيب المسجد، فكلاهما لا يخرج عن النص كي يبقى دائماً في الصدارة، والثمن هو نيل التكريم والتقدير، لكن النتيجة بطبيعة الحال هي الحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاج العقول بما يتناسب مع النظام العام.

إذا كان الأمر كذلك- وهو فعلاً كذلك كما سنرى في مقالات قادمة- أليس الأجدر بنا جميعا أن نتخذ من اليوم العالمي للمعلّم مناسبة للتفكير في الوضع المزري للتعليم ومراجعة الذات حول إخفاقاتنا المتلاحقة في إصلاحه؟ ليس من الحكمة أن نعوّل كثيراً على المسؤولين في الوزارة، فالمسؤولية العامة لا تتوافر إلا في نظام ديمقراطي حقيقي، كما لا يمكن أن نتأمل الكثير من "المعلّم المتميّز"، ففاقد الشيء لا يعطيه، لكننا ننتظر اليوم الذي يزداد فيه عدد "المتمردين" في سلك التعليم، أولئك الذين يرفضون الالتزام بالنص لرداءة ما يقرؤون! سننتظر طويلاً بلا شك، لكن لا بأس، فالقدرة على التعايش مع واقع مرير تتطلّب الأمل في غد أفضل.