الاثنين، 26 أكتوبر 2009

الشيخ مبارك والاتفاقية السرية

ما حقيقة الاتفاقية التي أبرمها الشيخ مبارك الصباح مع البريطانيين؟ وما أهداف تلك الاتفاقية؟ وما ظروف نشأتها؟ ولماذا ظلت الاتفاقية طي الكتمان لسنوات طويلة؟ وما أثر الطريقة التي وصل من خلالها الشيخ مبارك إلى الحكم في تحديد شكل الاتفاقية؟ وهل كان لبريطانيا دور في عملية الاغتيال الشهيرة؟ هذه أسئلة دارت في ذهني بينما كنت على وشك الدخول إلى مبنى 'الأرشيف الوطني' في أطراف العاصمة البريطانية، وبعد الاطلاع على بعض الوثائق البريطانية حول هذا الموضوع، سأحاول من خلال هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة.

إن أول ما يثير الانتباه حول هذه الاتفاقية هو هذا التباين في تسميتها، فنحن ككويتيين نشترك جميعاً في وصفها بـ'معاهدة الحماية البريطانية'، ولكن من يطّلع على الوثائق البريطانية سيجد أن الاتفاقية تسمى Exclusive agreement، أي 'الاتفاق الحصري'، ومن الواضح أن التسمية البريطانية هي الأدق والأصح أيضاً، ذلك أن نص الاتفاقية لم يتطرق إطلاقاً إلى فكرة حماية الكويت، ولعلّي لا أبالغ إن قلت إنها من أغرب الاتفاقيات بين طرفين، فهي ملزمة لطرف واحد فقط، بينما لا يتحمّل الطرف الآخر أي نوع من الالتزام أو المسؤولية!

تم توقيع الاتفاقية بين الشيخ مبارك الصباح والكابتن 'م. جي ميد' في العاشر من رمضان من عام 1316 للهجرة، الموافق يوم الثالث والعشرين من يناير من عام 1899 للميلاد، ونصّت على ما يلي:

'يتعهّد الشيخ مبارك بن الشيخ صباح، بكامل إرادته الذاتية ورغبته الشخصية، هو ومن يأتي بعده من ورثة الحكم، بالالتزام في عدم السماح لأي ممثل عن أي سلطة أو حكومة خارجية بدخول الكويت، أو الإقامة ضمن حدودها، من دون إذن مسبق من طرف الحكومة البريطانية، كما يتعهد الشيخ مبارك أيضاً، هو ومن يأتي بعده من ورثة الحكم، بعدم التنازل عن أي جزء من أراضيه لأي سلطة أو حكومة خارجية'.

(ملاحظة: حاولت قدر الإمكان الالتزام بالنص الحرفي للاتفاقية أثناء ترجمتي للنسخة الإنكليزية).

بعد توقيع 'الاتفاقية'، التي لم تكن في واقع الأمر سوى تعهّد من طرف واحد فقط، استجاب المقيم البريطاني في الخليج إلى إلحاح الشيخ مبارك الصباح على تقديم ضمانات بريطانية لحماية الكويت وممتلكات الأسرة الحاكمة من أراض زراعية في منطقة 'الفاو'، وهي استجابة جاءت على شكل رسالة مشروطة بالمحافظة على سرّية 'الاتفاق الحصري' الذي تم توقيعه سابقا!

السبب وراء الحرص البريطاني على سرية 'الاتفاق الحصري' يكمن في عدم رغبة بريطانيا في إثارة مشكلة دبلوماسية مع حكومة 'إسطنبول' من جانب، ومع قوى أجنبية لها أطماع في منطقة الخليج مثل روسيا وألمانيا من جانب آخر، لكن التردد الذي أبدته بريطانيا في تقديم التزام خطي بحماية الكويت يحتاج إلى تفسير، فمن المعروف أن البريطانيين سبق أن حاولوا إقناع الشيخ عبدالله الصباح (عبدالله الثاني) في توقيع معاهدة حماية مع بريطانيا، ولكن ولاء الشيخ عبدالله لحكومة 'إسطنبول' جعله يرفض توقيع أي معاهدة من هذا القبيل، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نتساءل: لو تمت معاهدة الحماية في عهد الشيخ عبدالله الصباح، فهل ستأتي بالشكل الذي جاءت به أثناء فترة حكم الشيخ مبارك؟

من الواضح أن البريطانيين استفادوا من الرغبة الملحة التي أبداها الشيخ مبارك في توقيع اتفاقية حماية مع بريطانيا في أسرع وقت ممكن، فبعد هروب السيد يوسف الإبراهيم وأبناء الأخوين المقتولين محمد وجراح إلى العراق، وبعد مطالبة هؤلاء الحكومة التركية بالتدخل لتصحيح الوضع في الكويت، لجأ الشيخ مبارك إلى بريطانيا للمحافظة على الحكم، وقد استثمر البريطانيون نقطة الضعف هذه لمصلحتهم عن طريق توقيع اتفاقية غير ملزمة للطرف البريطاني، وبالتالي عدم الوقوع في حرج مع القوى الاستعمارية الأخرى في حال تم الكشف عن الاتفاق مع حاكم الكويت.

الأمر المؤكد هو أن بريطانيا كانت مصممة على حماية مصالحها في الكويت حتى لو تطلّب الأمر تدخلاً عسكرياً، بل حتى لو لم تكن هناك معاهدة حماية، ولكن الظروف التي وصل من خلالها الشيخ مبارك إلى الحكم ساهمت في بسط الهيمنة البريطانية على الكويت من دون مقابل! هذه النقطة تدفعنا إلى التساؤل حول ما إذا كان لبريطانيا دور في عملية الانقلاب على الحكم في الكويت؟ الحكومة البريطانية نفت مسؤوليتها عن عملية الانقلاب، ولكن هناك وثائق صادرة عن السفارة البريطانية في 'إسطنبول' تفيد بأنه قبل عملية الانقلاب، قضى الشيخ مبارك شهراً كاملاً في مدينة 'بوشهر' في ضيافة المقيم البريطاني في الخليج الكابتن 'ف.إي.ويلسون'!

أخيراً، وبالنظر إلى 'الاتفاق الحصري' الذي ألزم الكويت بعدم التنازل عن أي شبر من أراضيها لأي سلطة خارجية، لعل من سخرية الأقدار أن يكون الطرف البريطاني تحديدا هو المسؤول عن التفريط بهذا الالتزام، فأثناء توقيع معاهدة 'العقير' التي تمت في عام 1922 بغرض ترسيم الحدود بين الكويت والعراق والممكلة العربية السعودية، لم يتورع 'السير بيرسي كوكس'، الذي كان ممثلاً عن الكويت في إدارة شؤونها الخارجية، عن التضحية بمساحات شاسعة من الأراضي الكويتية للأطراف المتنازعة، وقد ذكر 'ديكسون' تفاصيل هذه المعاهدة في كتابه 'الكويت وجيرانها'. لم أقرأ كتاب 'ديكسون' في نسخته العربية، لكني على يقين أن كل كويتي قرأ الكتاب في طبعته الإنكليزية، خصوصا الصفحة 279، لابد أنه شعر، تماماً مثلما شعرت، بمزيج بغيض من الظلم والخزي!

الاثنين، 19 أكتوبر 2009

مجموعة الـ26... الرسالة الخطأ إلى العنوان الصحيح

تباينت ردود الفعل حول زيارة 26 مواطناً لسمو الأمير، فهناك مَن يرى أن الزيارة لم تكن مشروعة لأنها تضعف من سلطة البرلمان، وهناك في المقابل من يرى في تلك الزيارة أمراً طبيعياً ومنسجماً مع آليات النظام الديمقراطي. سأحاول من خلال هذا المقال أن أدلل على الحقيقة التالية، وهي أن مجموعة الـ26 حملت الرسالة الخطأ إلى العنوان الصحيح.

لو تواضعنا قليلاً واعترفنا بمحدودية نظامنا الديمقراطي، فسنرى بوضوح أن الثقل الحقيقي للسلطة السياسية في الكويت كان ولايزال في يد الأسرة الحاكمة، وقد جاء الدستور ليكرّس هذه الحقيقة من خلال العديد من المواد، ولعل أبسط مؤشر على هذه الحقيقة هو وجود حالة من عدم التكافؤ بين مصدري السلطة التشريعية، فالتشريعات التي تصدر عن البرلمان محدودة زمنياً وتحتاج إلى أغلبية برلمانية لتمريرها قبل أن تحظى بمصادقة سمو الأمير، بينما التشريعات التي تصدر عن القصر غير محدودة زمنياً ولا تحتاج إلّا إلى أقلية برلمانية منتخبة لتمريرها. هنا تحديداً تكمن محدودية نظامنا الديمقراطي، ذلك أن فرصة تمرير التشريعات الأكثر ديمقراطية أضعف بكثير من فرصة تمرير التشريعات الأقل ديمقراطية.

لعل أحدث مثال على هذه الحقيقة هو ما نقلته مجموعة الـ26 من تصريحات على لسان سمو الأمير بعد الزيارة مباشرة، وهي تصريحات أفادت بعدم المصادقة الأميرية على أي تشريع برلماني حول موضوع القروض، والتأكيد أيضاً على تمرير المشاريع التنموية الكبرى. هذه التصريحات تأتي منسجمة مع حجم السلطة السياسية التي أتاحها الدستور لرئيس الدولة (حسب التعبير الوارد في المادة 54)، فموضوع القروض يمكن رفضه بسهولة من خلال الامتناع عن توفير المصادقة الأميرية، بينما موضوع المشروعات الكبرى لا يمكن إيقافه إلا من خلال أكثر من 25 صوتاً نيابياً تحت قبة البرلمان.

إذا كان هذا هو واقع الحال، فإن مجموعة الـ26 لم تخطئ العنوان، فهي أرادت حلّا جذرياً لمشكلة تتعلق بالشأن العام، وإيجاد حل جذري لأي مشكلة من هذا النوع يستدعي اللجوء إلى السلطة الحقيقية في البلاد (ربما يعترض القارئ على كلامي هذا من خلال التذكير بما تقوله المادة 6 من الدستور، ولكني أطلب من القارئ أن يكمل قراءة هذه المادة إلى نهايتها!).

على ضوء ما تقدم، يمكن تفنيد الحجج التي لجأ إليها كلا الطرفين في تأييد الزيارة أو معارضتها، فالنوّاب الذين اعترضوا على الزيارة بحجة أنها تضعف من سلطة البرلمان لم يقرؤوا مواد الدستور جيداً، ولو فعلوا لعلموا أن إضعاف سلطة البرلمان مستمد من نصوص الدستور نفسه! أما بعض الكتّاب ورؤساء الصحف ممن أيدوا الزيارة، فقد لجؤوا إلى حجج واهية لتبرير مثل هذه الزيارة. أحدهم، مثلا، كتب يقول إن زيارة مواطنين كويتيين لقصر سلوى لا تختلف عن زيارة مواطنين بريطانيين لمنزل رقم 10 في شارع 'داونينغ ستريت'، وهذه حجة تتضمن استخفافاً كبيراً بعقول القرّاء، فهي تفترض أن القرّاء جاهلين بحقيقة أن شروط الإقامة في منزل رقم 10 في شارع 'داونينغ ستريت' مرهونة بإرادة زوّاره من المواطنين! كاتب آخر يقول إن الزيارة تمت في مكان الإقامة الشخصية لسمو الأمير وليس في قصر الحكم، وهذه حجة تخلط بين مكان الزيارة وموضوعها، فأساس الاحتجاج على الزيارة هو أن المجموعة جاءت لتناقش أمراً يتعلق بالشأن العام، وأما مكان الزيارة فلا يلغي هذه الحقيقة!

مجموعة الـ26 لم تخطئ العنوان، لكنها حملت الرسالة الخطأ، وقد عبّر الأستاذ أحمد الديين عن هذه الحقيقة بشكل دقيق، حيث يقول:

'لابد من القول إنّ الموقف الوطني المسؤول تجاه قضية مستقبل الثروة الوطنية ومسؤولية الحفاظ عليها، يفترض أن يكون متوازناً وألا يتركز فقط ضد ما يسمى المشروعات 'الشعبوية'، وقضية 'شراء فوائد قروض المواطنين'، مثلما هو الاهتمام الأبرز عند هذه المجموعة، وإنما كان يفترض أن يبرز أيضاً في الموقف تجاه مشروعات تنفيع بعض الكبار والمتنفذين، والمحاولات المتكررة للالتفاف على قانون المناقصات العامة، وما كان يحدث من محاولات للاستيلاء على أملاك الدولة تحت مسمى «المبادرات»، وكذلك الموقف تجاه بعض القوانين والإجراءات، التي لم تراع حرمة المال العام وتجاهلت اعتبارات العدالة الاجتماعية مثل القانون الملياري لشراء المديونيات الصعبة الصادر في أوائل التسعينيات!'

هذه النقطة التي أثارها 'الديين' يتبناها الكثير من معارضي الزيارة، ومن المؤسف أن البيان الذي صدر عن مجموعة الـ26 لم يتضمن تطمينات واضحة بهذا الخصوص، كما أن التصريحات التي نقلتها المجموعة عن سمو الأمير تصب في خانة التأكيد على أن ما يسمى 'المشروعات الشعبوية' هي جوهر الموضوع، وقد عبّر أحد أعضاء المجموعة بشكل صريح عن القصد من الزيارة بقوله إن موضوع قروض المواطنين فيه هدر للمال العام!

ليس لدي شك في أن إسقاط القروض فيه هدر للمال العام، ولكن ينبغي الاعتراف أيضاً بأن هناك أشكالاً متعددة لهدر المال العام وتبديد الثروة. ليس لدي شك أيضا في حقيقة استغلال بعض النواب موضوع القروض لأغراض انتخابية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: لماذا أضحت مسألة القروض فريسة سهلة للتكسّب الانتخابي؟ عندما تتراكم الثروة في أيدي حفنة قليلة من أبناء الوطن، فإن شعار 'العدالة الاجتماعية' يتحوّل تلقائياً إلى شعار جذّاب، بل له أيضا ما يبرّره!

الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

لعنة الغوص

قبل عشر سنوات تقريبا، وفي أحد المقاهي الشعبية المجاورة للبحر، سألت رجلا عجوزا أن يحكي لي عن ذلك الزمن الذي يحلو للبعض أن يسمونه بـ«الزمن الجميل»، وطلبت منه تحديدا أن يسهب في وصف تجربته بوصفه غوّاصا (أو «غيص» في اللهجة المحلية). جاءت إجابة ذلك العجوز الطيب في غاية الاختصار، حيث اكتفى بكلمة واحدة فقط: شقاء! ظننت وقتها أني فهمت ما يعني، لكني لم أدرك المعنى العميق لتلك الكلمة إلاّ بعد أن فتحت ملف «تاريخ الكويت» في رحاب مدينة الضباب، وهو ملف غني بالمعلومات، وسأتناول هذا الملف في مقالات لاحقة، لكني أعد القارئ بعدم ذكر معلومة لا يرغب في سماعها، فنحن في نهاية المطاف في الكويت، حيث اعتاد الناس سماع ما يرغبون سماعه فقط! أضف إلى ذلك أن لدينا نظاما تعليميا قائما على فكرة استبعاد أي معلومة غير مرغوب فيها، ليس لأنها معلومة خاطئة، بل لأنها غير منسجمة مع «الذوق العام»، كما أن أغلب الصحف يملكها أشخاص لهم ألف سبب «وجيه» يدفعهم إلى حجب بعض المعلومات التي قد لا تنسجم و مصالحهم الخاصة! رغم كل هذه الحقائق، مازال البعض يعتقد أن بإمكانه سرد تاريخ الكويت بكل موضوعية، لكن لا يهم، لنرجع إلى موضوع المقال!
ضمن كتابات «ريتشارد لو بارون» حول زيارته لمنطقة الخليج في النصف الأول من القرن الماضي، هناك وصف دقيق لمعاناة الرعيل الأول في مهنة الغوص. لنقرأ ما ذكره الكاتب: «بعد نهاية موسم الغوص يكون الغطاس قد تحمّل المستحيل، فهو على الأرجح أكمل أكثر من 3000 غطسة في عمق يترواح ما بين 30 إلى 50 قدم تحت الماء، مما يعني أنه مكث تحت مياه الخليج الفارسي من دون هواء مدة تتجاوز الأربعين ساعة في الأسبوع الواحد. ليس من المستغرب أن يكون هناك مكان شاغر في كل سفينة، فهذا المكان الشاغر تم حجزه لجثة غواص أعياه التعب قبل أن يفارق الحياة»!
لم تقتصر معاناة الغواص على الجانب البدني، فهناك أيضا الجانب النفسي، فالغواص مدين دائما لربّان السفينة (النوخذة)، وربّان السفينة مدين عادة للتاجر الذي قام بتمويل صناعة السفينة ومؤونتها، وقد لاحظ هذه الحقيقة «آلان فيليير» في كتابه «أبناء السندباد»، حيث يقول إن «مهنة الغوص واستخراج اللؤلؤ لم تكن سوى تجارة قائمة على الديون» (صفحة 353). كما أن من المعروف أن الديون كانت تلاحق الغوّاص حتى بعد مماته، فالأبناء لا يرثون عادة سوى ديون أبيهم المتراكمة كما سنرى لاحقا!
قبل صدور قانون الغوص في فترة حكم الأمير الراحل أحمد الجابر، كانت هناك محكمة تعقد جلساتها سنويا للنظر في المنازعات المتعلقة بشؤون الغوص، وكانت أغلب تلك المنازعات تتعلق بمشكلات الدائن والمدين في ذلك «الزمن الجميل»! أعضاء المحكمة معينون من قبل الأمير، وهم عبارة عن أشخاص يمثلون شريحتي التجار والنواخذة، أما شريحة البحّارة البسطاء فلم يكن لهم تمثيل ضمن طاقم أعضاء المحكمة (انظر كتاب الباحثة الكندية «جاكلين إسماعيل» عن الكويت، صفحة 64).
بعد صدور قانون الغوص في عام 1940، والذي كان من المفترض أن يخفّف من معاناة البحّارة البسطاء، لم تتحسّن الصورة كثيرا. لنقارن، مثلا، بين المادة 19 والمادة 34 من ذلك القانون كما وردتا في كتاب «سيف مرزوق الشملان» حول تاريخ الغوص:
المادة 19: إذا مات البحّار وهو لا يملك غير بيت سكناه وله أولاد صغار وثبت أن البيت داخل عليه من دراهم الغوص فعلى النوخذة أن يصبر حتى يبلغ الأولاد رشدهم وحينئذ يخيرون بين دفع الطلب للنوخذة أو إذا ثبت أن البيت داخل عليهم من غير دراهم الغوص فبعد بلوغ الأولاد سن الرشد يخيرون بين بيع البيت ودفع قيمته لجميع الدائنين أو يبقي البيت لهم وهم يتعهدون بدفع جميع ما على والدهم من الدين.
المادة 34: كل تاجر يعطي دينا لنوخذة الغوص على حاصل الغوص ولم يدرك النواخذة ما يسد الدين وأراد الدائن وفاء دينه، فليس له أن يطلب الوفاء من العقار، بل يأخذ جميع البحارة والسفن، فإن لم تف بالدين كله فله أن يأخذ بعد ذلك من العقار عدا بيت سكناه.
لاحظ التمييز غير العادل بين البحّار البسيط والنوخذة! لاحظ أيضا أن المادة 34 جعلت الجماد في مرتبة أرقى من مرتبة الإنسان، فهي توفّر للعقار الخاص بالنوخذة حماية أكبر من تلك التي توفّرها للبحّارة التابعين له، فهؤلاء ليسوا سوى متاع تنتقل ملكيته بين النوخذة والتاجر!
أسفرت مهنة الغوص في الكويت عن نظام تمويلي يمسك بزمامه ويحدد قوانينه طبقة واحدة فقط، وهي طبقة التجار، فالنواخذة لم يكونوا في الأغلب قادرين على تمويل بناء سفنهم، فضلا عن تمويل الرحلة بأكملها. أدّى هذا النظام التمويلي إلى تراكم الثروة في أيدى مجموعة قليلة من أبناء البلد، وتراكم الثروة يعني تراكما في السلطة السياسية، وهو أمر أدركه الشيخ «مبارك» منذ وصوله إلى السلطة في عام 1896!
قبل سنة، عدت من جديد إلى المقهى نفسه، وعلمت أن العجوز الطيّب انتقل إلى العالم الآخر. رحل من دون أن يفصح عن سرّ شقائه، لكنه ترك وراءه أحفادا بعضهم مدين لأحد البنوك، وصاحب البنك حفيد أحد أبرز التجار المموّلين لرحلات الغوص! إذا كان ثمة خطأ في نظرية «ماركس»، فلابد أن نعثر عليه بين سطور تاريخ الكويت، ذلك أن التغير في قوى الإنتاج بعد ظهور النفط لم يصاحبه تغيّر في علاقات الإنتاج، فالأفراد الذين كانوا يحددون قواعد اللعبة بقوا كما هم، ولكن هذا موضوع يطول، وقد أتطرق إليه في مقال لاحق.

الأربعاء، 7 أكتوبر 2009

العلاقة التاريخية بين العلم والدين (2)

قبل أن ينشر 'كوبرنيكوس' كتابه الشهير حول حركة الأجرام السماوية، بعث برسالة إلى صديق يستشيره فيها حول كيفية نشر الكتاب من دون إثارة غضب رجال الكنيسة، فجاءه الرد بأن عليه أن يؤكد في مقدمة الكتاب أن فكرة دوران الأرض حول الشمس لا تعكس بالضرورة حقيقة النظام الشمسي، بل هي مجرد فرضية ستقود، في حال تم تبنيها، إلى نتائج فلكية دقيقة! تم نشر الكتاب في عام 1543 من دون أن يحدث ضجة كبيرة، لكن المواجهة الحقيقية بدأت عندما دافع 'غاليليو' عن فكرة 'كوبرنيكوس' حول مركزية الشمس، وقد بدأت هذه المواجهة مع الكنيسة على شكل سلسلة من المحاكمات، ثم انتهت بمنع نشر كتب 'غاليليو' وإرغامه على الإقامة الجبرية في منزله إلى يوم وفاته في الثامن من يناير من عام 1642.
'ديكارت' كان أشد حرصاً على عدم إثارة غضب محاكم التفتيش، فهو يعترف في أحد كتبه أنه انتهى من كتابة مخطوطة حول العلوم الطبيعية، لكنه آثر عدم نشرها بعد معرفته بما حلّ بـ'غاليليو' (انظر كتابه 'خطاب في المنهج'، الفقرة الأولى من الفصل السادس). 'ديكارت' أيضا كان حريصاً على حياته، حيث اختار أن يهجر المجتمع الفرنسي الكاثوليكي المتعصب ليقيم في رحاب المجتمع الهولندي البروتستانتي المتسامح! لكن أبرز ملامح هذا الحذر من غضب الكنيسة نجده في فلسفة 'ديكارت' حول ثنائية الجسد والروح، فحسب هذه الفلسفة، خاصية التمدد في المكان هي أبرز ما يميز الجسد (أو المادة)، وخاصية التفكير هي أبرز ما يميز الروح (أو العقل)، لذا فإن مجال كل منهما منفصل تماماً عن الآخر، وتأكيد 'ديكارت' على هذا الانفصال بين مجالي الروح والجسد يؤدي غرضين: الغرض الأول، هو طمأنة رجال الكنيسة بأن العلوم المتعلقة بالمادة لا تتضمن تشكيكاً بعالم الروحانيات أو تهديداً لجوهر الدين، والغرض الثاني، هو تمهيد الطريق إلى تأسيس رؤية جديدة للكون لتحل مكان المنظور الأرسطي القديم، وهذه الرؤية تعرف اليوم باسم 'الفلسفة الميكانيكية' للكون، حيث يرى 'ديكارت' أن الكون أشبه بآلة ضخمة، لا يتحرك جزء منها إلاّ تحت تأثير مباشر من قِبل جزيء آخر، أي أن سبب كل ظاهرة طبيعية هو سبب فيزيائي محض.
من الواضح أن 'ديكارت' أراد تطهير العلم الحديث من عالم الأشباح، لكن مجيء 'نيوتن' أحدث إرباكا كبيرا لفلسفة 'ديكارت' الميكانيكية، فبالرغم من النجاح الباهر الذي حققه 'نيوتن' في التوحيد بين حركة الأجرام السماوية وحركة الأجسام الأرضية، (أي بين قوانين 'كبلر' وقوانين 'غاليلو')، فإن مفهوم 'التأثير عن بعد' الذي تضمنه قانون الجاذبية لم يكن منسجماً مع فلسفة ديكارت الميكانيكية، وقد رأى الكثير من معاصري 'نيوتن' في هذا المفهوم عودة جديدة إلى عالم الأشباح وعقلية الإنسان البدائي، بينما وجد رجال الدين في قانون الجاذبية انتصاراً لإرادة الخالق وتكذيباً لمادية العلم التي جاء بها 'ديكارت'!
مع مجيء 'آينشتين'، اختفى مفهوم 'التأثير عن بعد' ليحل مكانه تفسير هندسي لقانون الجاذبية، لكن رجال الدين وأنصار الفلسفة المثالية استمروا في محاولة إيجاد مكان للروح في عالم المادة، ومع عودة مفهوم 'التأثير عن بعد' في نظرية الكم الفيزيائية، عادت من جديد محاولات تفسير نتائج العلم الحديث على أساس ديني!
قدّمت للقارئ لمحة سريعة عن تاريخ العلاقة بين العلم والدين، حيث رأينا كيف خرج العلم من رحم الدين، ثم ما لبث أن تحرّر تدريجياً من عباءة الدين، ليستمر شيئاً فشيئاً في تناول موضوعات كانت تقع ضمن اختصاص الدين! في فجر التاريخ، كان العلم في خدمة الدين، وأما اليوم فليس بوسع رجال الدين سوى مراقبة نتائج العلم الحديث، إمّا بغرض استخدام تلك النتائج للتأكيد على صحة مقولات الدين، وإما بغرض تشويهها للحط من قدر العلم والتقليل من شأنه، ولعل أحدث عمليات التشويه تلك التي جاءت ضمن خبر نشرته إحدى القنوات العربية حول نظرية 'داروين'، وفي يقيني أن تشويه العلم سيستمر إلى أن ينجلي ظلام الجهل!

الاثنين، 5 أكتوبر 2009

العلاقة التاريخية بين العلم والدين 1

جذور العلاقة التاريخية بين العلم والدين تمتد إلى فجر الحضارات القديمة، فالعلم خرج من رحم الدين، ومن المعروف أن الحضارات القديمة، مثل الحضارتين البابلية والمصرية، استعانت بقوانين الحساب والهندسة في مجال علم الفلك، ولكن بالرغم من لجوء الأقدمين إلى العلم في وصفهم لظواهر الطبيعة، فإنهم احتفظوا بالتفسير الديني لتلك الظواهر، فالآلهة كانت دوماً تقدم إجابات جاهزة عن طريق الكهنة ورجال الدين، وأما العلم فلم يكن سوى أداة في خدمة الدين، فالعمليات الحسابية كانت تساعد، مثلاً، على تحديد مواعيد الطقوس الدينية المرتبطة بمواسم الحرث والحصاد.
لكن مع بزوغ نجم الحضارة الإغريقية، وفي القرن السادس قبل الميلاد تحديداً، ظهرت على السطح ملامح أول انفصال حقيقي بين العلم والدين، وذلك على أيدي مجموعة من الفلاسفة المنتمين إلى مدينة Miletus الإغريقية (وهي تقع الآن ضمن حدود تركيا). لم يلجأ أولئك الفلاسفة إلى الآلهة في محاولة إيجاد تفسير لظواهر الطبيعة، بل اعتمدوا بدلاً من ذلك على قوى الطبيعة في تفسيرهم لتلك الظواهر. مثلا، 'طاليس' لاحظ تحوّل الماء من الحالة الصلبة، مروراً بالحالة السائلة، إلى الحالة الغازية، وقادته تلك الملاحظة إلى القول إن جميع الظواهر الطبيعة يرجع أصلها إلى مادة واحدة، وهي الماء! في المقابل، 'أنكساغوراس' تبنّى تفسيراً كيميائياً، حيث رأى أن أصل جميع المواد يعود إلى أربعة عناصر: الماء، والهواء، والتراب، والنار.
في فترة القرون الوسطى، كانت هناك محاولات دؤوبة إلى إيجاد توافق بين الإيمان والعقل، وأبرز مَن سلكوا هذا الطريق هما 'ابن رشد' و'سان توماس أكويناس'، فكلاهما كان يرى أن الدين والعلم يكمّل أحدهما الآخر ولا تناقض بينهما. هذا الرأي استند في المقام الأول إلى تعاليم 'أرسطو'، الذي لم يكن أساساً يؤمن بوجود إله، لكنه كان يرى أن هناك أربعة أسباب لأي ظاهرة طبيعية، أحدها هو ما يعرف بالسبب 'الغائي'، أي أن لكل عملية طبيعية غاية أو هدفا نهائيا تصبو إليه، فالقلب، مثلاً، غايته ضخ الدم في أنحاء الجسم، والأذن غايتها سماع الأصوات، إلى آخره! إذا كانت لكل عملية بيولوجية أو ظاهرة طبيعية غاية خاصة بها، فإن من الطبيعي افتراض أن الكون بمجمله له غاية أيضاً، وإذا كان للكون غاية، فلابد من وجود خالق يحدد طبيعة هذه الغاية. هنا تحديداً تكمن استفادة 'أكويناس' من تعاليم 'أرسطو' في محاولة التوفيق بين الدين المسيحي والعلم.
مع بدايات عصر النهضة وظهور ثورات علمية متتالية على أيدي 'كوبرنيكوس' و'كبلر' و'غاليليو' و'نيوتن'، برزت الحاجة إلى استبدال المنظور الأرسطي للكون بمنظور جديد، وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى التخلي عن التفكير الغائي في فهم ظواهر الطبيعة، حيث برز على السطح رأي يقول: وظيفة العلم تنحصر في تفسير ظواهر الطبيعة، وليس من اختصاص العلم أن يحدد هدف الرب من خلقه للكون. إقصاء التفكير الغائي عن المنهج العلمي كان بمنزلة مقدمة لانفصال جديد بين الدين والعلم، لكن ينبغي التأكيد هنا أن هذا الانفصال لم يكن ينطوي على رفض للدين، فالعلماء الذين أشرت إليهم منذ قليل كانوا جميعاً مخلصين في إيمانهم بوجود خالق، على سبيل المثال، 'نيوتن' كتب حول الدين المسيحي أكثر مما كتب في مجال الفيزياء، و'ديكارت' بنى فلسفته على فكرة وجود خالق (انظر كتابه 'التأملات'، الفصلين الثالث والخامس). من هنا فإن رفض التفكير الغائي شيء، والإيمان بوجود خالق للكون شيء آخر، فالغائية فكرة سخيفة لا تساعدنا على فهم ظواهر الطبيعة، ولعل 'فولتير' كان محقاً عندما سخر من التفكير الغائي بقوله: 'غاية الأنف هي إسناد النظارات'!
في المقال القادم، سنتطرق إلى ذورة الانفصال بين الدين والعلم، والتي جاءت على شكل تصادم بين تعاليم الكنيسة واكتشافات العلم الحديث، وسنرى كيف أدى هذا التصادم إلى إعادة صياغة العلاقة التاريخية بين العلم والدين.
يتبع،،،