الأربعاء، 13 مايو 2015

اللغة وحدود المعرفة


يقولون إنّ الإنسان هو سيّد الكائنات، ولست أدري ما مدى اعتراض الكائنات الأخرى على هذه المقولة، لكن إذا كان ما يقولون صحيحا فإنّ سرّ هذه الزعامة يكمن في اللغة، وعندما يتعلّق الأمر باللغة فإنّ أغبى إنسان أمهر من أذكى حيوان، ولا تنحصر أفضال اللغة على الإنسان في كونها مقصورة عليه، بل إنّ لها الفضل أيضا في كلّ شيء مقصور على فصيلة الإنسان، فلسبب ما لم نسمع عن فيل يدين بالمسيحية، أو ثعلب جاء بنظرية، أو قرد كتب سيمفونية، إذ لولا اللغة لما عرف الإنسان الأديان أو العلوم أو الفنون، وهذه كلها أشياء مقصورة على الإنسان وتتطلب درجة عالية من الوعي لا تتيحها إلاّ اللغة، وهناك مَن ذهب إلى أبعد من ذلك ليؤكّد أن اختلاف اللغات يستلزم بالضرورة اختلاف أنماط التفكير، أي أنّ اللغة التي يتحدثها الإنسان تحدّد طريقة تفكيره، وهذا ما يُعرف بفرضية "النسبية اللغوية".
اللغة أيضا هي المسؤولة عن تحديد حجم المعرفة الممكنة لدى الإنسان، ذلك لأنّ اللغة هي التي تحدّد ما يمكن أن يطرحه الإنسان من أسئلة، ولعلّ هذه النقطة هي ما دفعت "تشومسكي" إلى القول إنّ من المستحيل أن ينشغل فأر– مثلا– بسؤال حول الجذر التربيعي للعدد 2، وبالتالي فإنّ من المنطقي أيضا أن نستنتج وجود أسئلة من المستحيل أن يطرحها الإنسان على نفسه، لكن إذا كان ما يقوله "تشومسكي" صحيحا، فإنّ من الضروري ملاحظة ما يترتبّ على هذا القول، وهو أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد المدرك لقصوره المعرفي، ذلك أنه الكائن الوحيد المدرك لوجود أسئلة لا يمكن أن تخطر له على بال.
لكن ماذا عن الأسئلة التي من الممكن أن تخطر على بال الإنسان؟ هي أسئلة لا حصر لها بطبيعة الحال، ولعلّ ظاهرة اللغة من أشد الظواهر الطبيعية إلحاحاً على الفضول العقلي لدى الإنسان، فاللغة في جوهرها– كما يقول أرسطو– صوت ومعنى، وهذه الثنائية تطرح أسئلة عديدة، فعلى سبيل المثال هناك سؤال متعلق بظاهرة الإبهام في اللغة، والمقصود بالإبهام هنا هو تعدد المعنى، والسؤال المطروح هو: ما الذي يجعل جملة مثل "اشتريت السهم" جملة مبهمة؟ قد يقول قائل إنّ معنى الجملة يتعدّد بحسب تعدّد المعنى في مفرداتها، فكلمة "سهم" قد تشير إلى قطعة من الخشب يُرمى بها عن القوس، وقد تشير إلى جزء معيّن في رأس مال شركة ما، وهذا الإبهام اللفظي هو المسؤول عن إبهام الجملة بأكملها، لكن من جهة أخرى، لا يبدو هذا التفسير مقنعا عندما نتأمل جملة مثل "أمي تحبني أكثر منك"، فعلى الرغم من عدم احتواء هذه الجملة على كلمة مبهمة، فإنها مع ذلك تبقى مبهمة، فمعنى هذه الجملة عندما تتوجه بها إلى أبيك يختلف عن معناها عندما تتوجه بها إلى أخيك، وهذا ما نسميه في علم اللغة الإبهام التركيبي، أي الإبهام غير المرتبط بمفردات الجملة بقدر ارتباطه بعلاقة هذه المفردات مع بعضها.  
إلى جانب تعدّد المعاني المرتبطة بكلمة واحدة (أي الإبهام)، هناك أيضا ظاهرة معاكسة، وهي ظاهرة تعدّد الكلمات المرتبطة بمعنى واحد (أي الترادف)، والمشتغلون في الترجمة بين اللغات يعرفون هذه الظاهرة أكثر من غيرهم، فالترجمة ليست سوى محاولة استبدال رموز برموز أخرى مع الاحتفاظ بالمعنى، وهذه عملية شاقة إنْ لم تكن مستحيلة، فإذا كان الترادف الكلّي بين المفردات داخل اللغة الواحدة لا وجود له، فإنّ من الطبيعي أن يتعذّر وجوده أيضا بين المفردات التي تنتمي إلى لغات مختلفة، مما يعني أنّ كلّ نص مترجم من لغة إلى أخرى يتضمّن تشويها قسريّا للمعنى، وهذا هو السبب في الممانعة التاريخية لترجمة الكتب المقدّسة من لغاتها الأصلية إلى لغات أو لهجات أخرى.
 أخيرا، لعلّ من أجمل أفضال اللغة على الإنسان هي منحها إيّاه فرصة أن يكون أكثر مدنيّة، فإذا كان العنف هو الخيار الوحيد المتاح أمام فصائل الحيوان لحسم صراع البقاء، فإنّ اللغة تمنح الإنسان خيارا آخر، إنه خيار الحوار المفضي إلى حلّ سلمي، وبالنظر إلى التاريخ الطويل للحروب عبر التاريخ، قلّما يلجأ الإنسان إلى هذا الخيار الأخير مع الأسف الشديد.

الاثنين، 11 مايو 2015

التعليم الديني وعلمانية التعليم

الدين دين والعلم علم، واحترام الخط الفاصل بين الاثنين شرط ضروري لإصلاح التعليم، فالدين– في مجتمعاتنا على الأقل– عبارة عن معرفة غير قابلة للنقض أو الشك، في حين أنّ العلم لا يتقدّم إلاّ من خلال إخضاع كل معرفة مكتسبة إلى النقض أو الشك، ومع ذلك فإنّ التدريس الديني في مراحل التعليم كافة لا يقتصر على المناهج المتعلقة بالدين، بل يتعدّاها إلى معظم المناهج الأخرى ومن ضمنها المناهج العلمية الصرفة، بل إنّ جامعاتنا تحوي أقساما توصف بأنها أقسام علمية مثل "قسم التربية الإسلامية" أو "قسم الشريعة الإسلامية"، وهي أقسام لا تشبه الأقسام العلمية في الجامعات العالمية لا من قريب ولا من بعيد، فهي لا تدرّس الدين دراسة علمية ولا تقارن بين الأديان بطريقة موضوعية، بل إنّ جلّ اهتمامها ينصبّ على تدريس تقليديّ يعتمد على تلقين معرفة لا تخضع لشروط البحث العلمي، ومع ذلك تسمى أقساماً علمية!
لا يترتب على ما تقدّم استحالة أن يكون الدين موضوعا للبحث العلمي، ولكن البحث العلمي له شروط غير متوافرة في التدريس الديني المقرّر في مراحل التعليم كلّها، فالبحث العلمي الرصين لا يعترف بسلطة غير سلطة العقل، وهذه الحقيقة كافية لإثبات عدم ملاءمة التدريس الديني التقليدي للبحث العلمي، كما لا يترتب على ما تقدّم أدنى اعتراض على وصف بعض الأقسام بالعلمية لمجرّد أنّ موضوع بحثها غير علمي، فهناك أقسام علمية تُعنى بدراسة الآداب والفنون، ولكنّ الفرق الجوهري هنا هو أنّ الآداب والفنون، على العكس من الدين، لا تضع قيودا على حرية البحث العلمي ولا تتعارض دراستها بالضرورة مع السلطة المطلقة للعقل الإنساني.
لكن ما المشكلة في وجود تدريس ديني جنبا إلى جنب مع التدريس العلمي؟ بمعنى آخر، ما الضرر في عدم احترام عِلمانية التعليم؟ سأحاول الإجابة عن هذا السؤال بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال طرح مثال من واقع تجربتي القصيرة في مجال التدريس، فمن حسن حظي أنّي أقوم بتدريس إحدى المواد التي ترتبط ارتباطا وثيقا بعلم المنطق، وهي مادة "علم الدلالة"، وأغلب الطلّاب المقيدين في هذه المادة هم طلاب قسم التربية الإسلامية، ومهما أنس فلن أنسى تلك المحاضرة التي حاولت من خلالها شرح مفهوم "الجملة التحليلية"، حيث قلت إنها جملة صحيحة دائما، مثل جملة "أخي الأكبر أكبر مني"، وهي جملة صحيحة دائما لأنّ صحتها لا تعتمد على مدى توافقها مع معطيات الواقع، بل تعتمد فقط على التحليل المنطقي لمفردات الجملة، وكي أطمئن إلى أنّ الطلاب قد فهموا المقصود بهذا المفهوم، طلبت منهم أن يأتوني بمثال آخر على الجملة التحليلية، فإذا بأحدهم يجيب: "الخمر حرام"!
الجدير بالاهتمام في هذه الواقعة لا يكمن في عجز الطالب عن فهم أحد المصطلحات العلمية، بل يكمن في معرفة السبب وراء هذا العجز، وفي ظني أن السبب يعود إلى التمازج الشديد بين التدريس الديني والتدريس العلمي في مؤسساتنا التعليمية، وهذا التمازج هو المسؤول عن عدم قدرة معظم الطلاب على التفريق بين اليقين الديني واليقين المنطقي، أو بين الدليل الفقهي والدليل العلمي، أو بين الحجة الدينية والحجة العلمية، أو بين المُسلّمات الغيبية والمُسلّمات المنطقية، وغيرها الكثير من الفروق الجوهرية بين ميدان التلقين الديني وميدان البحث العلمي.
علمانية التعليم مجرّد حالة خاصة من علمانية الدولة، وهي لهذا السبب تبقى مجرّد ظاهرة افتراضية في دولة تمزج بين الدين والسياسة، لكن لا ننسى أن التغيير– إلى الأفضل أو إلى الأسوأ– في أي مجتمع يبدأ عادة في قاعة الدرس.

الاثنين، 4 مايو 2015

تسويق الأيديولوجيا: الصحوة الإسلامية مثالا (4)


إلى جانب تسويق أيديولوجيا "الصحوة" في السبعينيات من خلال ابتداع ظاهرة "الاقتصاد الإسلامي"، ابتُدعت في الفترة نفسها ظاهرة جديدة عُرفت باسم "الإعجاز العلمي"، ونشأة هذه الظاهرة الأخيرة تعود إلى نشر كتاب "الإنجيل والقرآن والعلم"، الكتاب الذي حقّق بفضل البترو-إسلام مبيعات ضخمة بلغت ملايين النسخ وتمت ترجمته إلى أكثر من لغة، وأمّا مؤلفه فهو "موريس بوكاي"، جرّاح فرنسي عمل طبيبا خاصا للملك فيصل بن عبدالعزيز تارة، وللريئس أنور السادات تارة أخرى، وهذه السيرة الموجزة عن هذا الطبيب تكفي للتنبؤ بفحوى القضية الجوهرية في كتابه، وهي أنّ القرآن، على العكس من الإنجيل، سبق العلم الحديث فيما توصل إليه هذا الأخير من اكتشافات، وبطبيعة الحال فإنّ المقصود هنا بالاكتشافات هي تلك التي توصّل إليها العلماء على مدى العصور إلى غاية عام 1976، وهو العام الذي نشر فيه "بوكاي" كتابه، وأمّا الاكتشافات العلمية التي جاءت بعد ذلك التاريخ فقد تصدّى لها زغلول النجّار وغيره من المهتمين بظاهرة "الإعجاز العلمي"!
المتاجرة بالدين تعتمد على الاستثمار في الجهل، ويبدو أنّ "بوكاي" لم يكن الأجنبي الوحيد الذي فطن إلى هذه الحقيقة، فهناك أيضا "كيث مور"، باحث كندي في علم الأجنة تلقّى دعوة لقضاء ثلاثة أعوام في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، والهدف من تلك الدعوة– حسب قوله– هو "مساعدة المسؤولين هناك في تفسير نصوصهم الدينية التي تشير إلى مراحل تطور الجنين"، وساهم مساهمة فعّالة في التعاون مع "باحثين" هناك في نشر "أبحاث علمية" ضمن منشورات الجامعة التي استضافته، والجدير بالذكر هنا– من باب الطرافة على الأقل– أنّ الطبعة الثالثة من كتاب "مور" الشهير والذي حمل عنوان "The Developing Human"، نُشرت بنسختين مختلفتين، نسخة للعالم الغربي لا تتضمن الإشارة إطلاقا إلى "الإعجاز العلمي" حول موضوع الأجنة، ونسخة للعالم الإسلامي تتضمن هذه الإشارة!
لكن من الذي قام بالإضافات المتعلقة بالإعجاز العلمي إلى كتاب "مور" بنسخته الإسلامية؟ لم يكن سوى عبدالمجيد الزنداني، العضو البارز في حركة الإخوان المسلمين في اليمن ومؤسس "الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنّة"، والمسؤول الأول عن الفضيحة الشهيرة والمتمثلة بتجنيد علماء أجانب لدعم ظاهرة "الإعجاز العلمي"، وقد اعترف بعض العلماء الأجانب ممن تورّطوا في تلك الفضيحة باستلام مبالغ مالية وهدايا ثمينة نظير جهودهم، في حين اكتفى البعض الآخر بالقول إنهم كانوا ضحايا عملية احتيال!
أخيرا، تنبغي ملاحظة التشابه بين ظاهرة "الإعجاز العلمي" وظاهرة "الاقتصاد الإسلامي"، ولهذا التشابه أوجه متعددة، فمن حيث الهدف، كلتا الظاهرتين تهدف إلى تسويق أيديولوجيا "الصحوة"، ومن حيث التمويل، حظيت الظاهرتان بدعم البترو-إسلام، ومن حيث الوسيلة، تعتمد الظاهرتان على التحايل في زمن الجهل، ومن حيث المنهج، ترتكز كلتاهما على لَيّ النصوص الدينية بطريقة تضمن توافقها مع علم الاقتصاد من جهة، والعلوم الطبيعية من جهة أخرى.