الاثنين، 30 مارس 2015

الفهم قبل الحزم

إذا كان الهدف من الديمقراطية هو ضمان انسجام القرار السياسي مع إرادة الشعب، فإن شعوب الخليج أثبتت مؤخرا أنها في غنى عن الديمقراطية، وليس أدلّ على ذلك من هذا التأييد واسع النطاق الذي عبرّت عنه أغلب شعوب المنطقة تجاه قرار لم يكن لها دور في اتخاذه، ونعني به قرار التدخل العسكري في اليمن وبداية "عاصفة الحزم"، بل إنّ مِن المؤيدين مَن تعدّى مجرّد التأييد إلى تخوين كلّ مَن يقف في الطرف الآخر، حتى لو كان الوقوف في الطرف الآخر ناتجاً عن موقف مبدئي من الحرب وويلاتها.

"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"... جملة عُمرها نصف قرن وما زال لها وقع على الأسماع والنفوس، ويبدو أنّ صوت العقل هو من بين الأصوات التي لا ينبغي أن تعلوَ فوق صوت المعركة، فليس من الضروري أن نفكّر بعد أن أصبح التفكير فرض كفاية في غياب الديمقراطية، وليس من المطلوب أن نفهم قبل الضغط على الزناد، بل لا ينبغي إبداء رأي غير منسجم مع التوجّه العام.
اليمن بلد يعيش أكثر من نصف سكّانه تحت خط الفقر، ونسبة الأمية فيه جعلته يحتلّ المرتبة الخامسة على مستوى العالم العربي، وسوء التغذية الذي يعانيه الشعب اليمني بشكل عام جعلته يحتلّ المرتبة الثانية على مستوى العالم، كما أنّ نسبة البطالة في صفوف الشباب بلغت 60%، وكلّ هذه الإحصائيات الخطيرة لم تردع أحد المنظّرين الطائفيين من الحديث عن "حلاوة" الضربات الجوية وضرورة "تطهير" اليمن من "التطرّف الحوثي"، وكأنّ التطرّف الحوثي لم يأتِ كردّة فعل على محاولات حثيثة في تسعينيات القرن الماضي إلى إدماج الحوثيين في المنظومة الثقافية للجزيرة العربية، تارة بالترغيب، وتارة بالترهيب.
ترتفع الأصوات من كلّ حدب وصوب مستنكرة "التدخّل الصفوي في الشأن اليمني"، ومع افتراص صحة هذا الزعم الذي لم تتطوّع جهة دولية لإثبات صحته حتى هذه اللحظة، فإنّ الحقيقة تشير إلى أنّ الشأن اليمني يفتقر إلى الخصوصية منذ عقود من الزمن، والدلائل على انعدام الخصوصية اليمنية أكثر من أن تُحصى، منها على سبيل المثال الدعم الخليجي للتيار السلفي في اليمن منذ تسعينيات القرن الماضي، والدعم الأميركي لحكومة الرئيس اليمني السابق في حُكم البلاد، وإطلاق مبادرة خليجية لاحتواء الثورة اليمنية.
اليمنيون يدفعون ضريبة وجودهم على بقعة جغرافية ذات أهمية استراتيجية، واختطاف ثورتهم لا ينبغي أن يتحمّل وِزرها الحوثيون وحدهم.

الثلاثاء، 24 مارس 2015

لا للعنف يا سُلطة

منذ مدّة ونحن نسير على طريق تقويض النظام شبه الديمقراطي في الكويت، ومنذ مدّة ونحن نشهد تهافت شعارات دولة المؤسسات وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، ومنذ مدّة ونحن نرى الفساد ينخر في مؤسسات الدولة من دون رقيب أو حسيب، لكن أن يصل الأمر إلى أن تعود حليمة إلى عادتها القديمة في القمع والتعسّف في استخدام السلطة فهذا كثير، كثير جدا.

سبق أن كتبنا مرارا وتكرارا أنّ القمع قد يكون أسلوباً ناجحا على المدى القصير، لكنّه بلا شكّ أسلوب فاشل على المدى الطويل، فمن يسمترئ كسر العظام لا يفلح أبدا في جبر القلوب، ثمّ إنّ التدرج في استخدام القوة يُعدّ من أبسط الواجبات الملقاة على عاتق السلطة، في حين أنّ التعسف في استخدام القوة ينزع عن أي سلطة شرعيتها، لكن يبدو أنّ الحكومة لدينا غير مكترثة بالعلاقة الطردية بين استخدام العنف ضد المواطنين وتدهور شعبية الحكومة، فالحكومات الديمقراطية هي وحدها من يحفل بالرأي العام لضمان الاستمرار في إدارة الدولة، وأمّا حكومتنا فأشبه بالأخ الأكبر، فهي مسؤولة عنّا، ونحن مسؤولون أمامها، كما أنّ بقاءها لا يعتمد على بقائنا إلّا بالقدر الذي يجعل من مفهوم "الحُكم" ممكنا من الناحية المنطقية، ففي نهاية المطاف لابدّ للأخ الأكبر من أخٍ أصغر!
أصبحت أوطاننا– مع الأسف الشديد– مثل شوارعنا المزدحمة، فهي من جهة تخلق لديك إحساساً بأنّك شخص غير مرغوب في وجوده، وهي من جهة أخرى تدفعك إلى الرغبة في الطيران بعيداً كخيار أوحد! هي أشبه بأقدارٍ عاقت عن أوطار، وفي "مدن الملح" على وجه الخصوص، لطالما عاقت أقدارنا عن أوطارنا، وكما سبق أن كتبنا هنا في "الجريدة" قبل سنوات، قدرنا في الكويت أننا لا نستطيع التمتع في الوقت نفسه بنوعين من الحقوق: حقوق مدنية وحقوق سياسية، ففي فترات التمسّك بالدستور والنهج الديمقراطي، تعيش الأقلية تحت وطأة استبداد الأغلبية، فتضيع بذلك حقوق الفرد المدنية، مثل حريات الاعتقاد والتعبير عن الرأي والسلوك الفردي، لكن في المقابل، عندما تنقلب السلطة على الدستور والنهج الديمقراطي، نعود من جديد لنعاني استبداداً من نوع آخر، وأعني به استبداد الأقلية لأغلبية مغلوبة على أمرها، وأول ضحية لهذا الاستبداد هو ضياع أبسط حقوق الفرد السياسية، وأهمها حقّ المشاركة الفاعلة في السلطة.
بالرغم من حقيقة أنّ مِن بين أبرز المطالبين بالحريات هذه الأيام هم في حقيقة الأمر مِن ألّد أعدائها، وبالرغم مِن حقيقة أنّ الديمقراطية على الطريقة الإسلامية تعني التكبير أربعاً على آخر ما تبقّى في مجتمعنا الصغير من مدنية، وبالرغم من حقيقة أنّ المتسلّقين على تضحيات الشباب الوطني أشبه بالضباع تنتظر نهاية العراك لِتقتات، فإنّه لا مناص من قول "لا" للعنف ضد المواطنين يا سُلطة!

الاثنين، 23 مارس 2015

الربيع العربي والعقلانية الغائبة

ثورات الربيع العربي– إن صحّت تسميتها بالثورات وإن صحّ وصفها بالربيع– لم تكن تجسّد أفكاراً مدروسة بقدر تجسيدها لمشاعر مكبوتة، مشاعر القهر والظلم والمهانة، فالشعارات التي رُفعت في الساحات والميادين، والتي كانت تشير إلى مفاهيم مثل الحرية والعدالة والكرامة، لم تكن سوى شعارات ثائرة على نقائض تلك المفاهيم، فشعار الحرية كان يعني فقط رفض العبودية من دون تحديد معنى الحرية المنشودة، وشعار العدالة كان يعني فقط رفض الظلم من دون توضيح نوع العدالة المبتغاة، وشعار الكرامة كان يعني فقط رفض المهانة من دون تبيان ملامح الكرامة التي تهفو إليها النفوس.
لقد كشفت ثوارت الربيع العربي عن قوّة الحراك الشعبي وضعف الناتج الفكري، كما كشفت أيضا عن حقيقة أننا كنّا ضائقين ببشاعة الماضي من دون أن نكون مستعدّين لتحدّيات المستقبل، هي ثورات ردّة فعل لم تعقبها خطوات مدروسة، ولهذا فقد عبّرت عن رغبة عنيفة في الهدم، لا عن رؤية عميقة للبناء، ولا ننسى أنّ الشعار الشهير لكل الثورات العربية كان يشير إلى إسقاط الأنظمة من دون أدنى تصوّر لبناء أنظمة جديدة على أنقاضها، لكن ماذا حدث بعد سقوط بعض الأنظمة العربية؟ إذا كنّا عاجزين عن التنبؤ بقيام ثورات الربيع العربي فما كان ينبغي– على الأقل– أن نعجز عن التنبؤ بما ستؤول إليه، فالشعوب التي لا تملك جديداً ليس بوسعها أن تأتيَ إلاّ بما هو قديم، وقديمنا تلخّصه كلمة واحدة: اللاعقلانية.
من جهة، جاء الربيع العربي مبكّرا جدا، جاء قبل أن نتمكّن من إرساء دعائم المجتمع المدني، ومن جهة أخرى، جاء الربيع العربي بعد فوات الأوان، جاء بعد أن فشلنا طوال قرون بأكملها في إحداث قطيعة مع السلطة المعرفية للتراث، فكانت النتيجة أنْ أسفرت الثورات عن حروب طائفية وقتل على الهوية وإبادة جماعية، وهي نتيجة طبيعية لكسر أغلال الحاضر قبل كسر أغلال الماضي، ولتحرير الإنسان العربي قبل تحرير العقل العربي.
كتب "برتراند رسل" يقول إنّه لن يموت أبداً من أجل أفكاره لأنها قد تكون أفكاراً خاطئة، وقبله كتب أبو بكر الرازي يقول في رسائله الفلسفية "إنّ الذي ينبغي أن يُشكّ في صحته هو ما اجتمع عليه كلّ الناس أو أكثرهم أو أحكمهم"! لم تسد مقولة "رسل" في ثقافتنا المعاصرة فصدّرنا إلى العالم أسماء مثل "بن لادن" و"أبو مصعب الزرقاوي" و"أبو سيّاف الفلبيني"، في حين سادت مقولة "الرازي" في الثقافة الغربية حتى خرج من بينهم "كوبرنيكوس" و"داروين" و"آينشتاين"!