الأربعاء، 26 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا-4

بعد هذا العرض الموجز لبعض ملامح عصر التنوير في إسباينا، يصبح من العسير القول بوجود حركة تنوير حقيقية في تلك الفترة من تاريخ إسبانيا، ففي ظل التدخل الدائم للكنيسة في شؤون الدولة والحياة العامة، وفي ظل حراسة محاكم التفتيش الدائمة لحدود الدولة من 'خطر' التنوير، لم يكن من الممكن أن تمتد النزعة العقلية الأوروبية إلى ما وراء جبال البيرينيس الإسبانية. يؤكد الباحث والبروفيسور الإسباني 'آلبورغ' أن 'السبب وراء الكثير من المصائب اللاحقة التي أعاقت تطور إسبانيا يكمن في حقيقة أننا لم ننعم بقرن ثامن عشر حقيقي'.
لكن لماذا نجحت الكنيسة في صد موجة التنوير في إسبانيا بالذات؟ لعل الإجابة تكمن في طبيعة العلاقة التاريخية بين الكنيسة والدولة في إسبانيا، ومن المهم هنا التعرف على جذور هذه العلاقة من خلال النظر إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه وإلى الظروف الموضوعية التي ساهمت في تطورها.
يرجع تاريخ العلاقة بين الكنيسة والدولة في إسبانيا إلى أواخر القرن الرابع الميلادي، فمنذ ذلك التاريخ أصبحت المسيحية دينا رسميا لإسبانيا، ويرجع الفضل في ذلك إلى الإمبراطور الروماني 'تيودوسيو'. في عام 1808، صدر أول دستور إسباني، والمعروف باسم 'قانون بايونا'، وفيه تم توثيق العلاقة التاريخية بين المسيحية ونظام الدولة، فالمادة الأولى من ذلك الدستور نصّت على أن الدين الكاثوليكي هو 'دين الملك والأمة، ولن يُسمح بوجود دين آخر غير هذا الدين'! حافظت الدساتير اللاحقة على هذه العلاقة الوثيقة بين 'الدين الكاثوليكي الأوحد' ونظام الدولة، لكن مع قيام الجمهورية الثانية في إسبانيا وإرسال الملك ألفونسو الثالث عشر إلى المنفى، صدر دستور 1931 الذي نصّ في مادته الثالثة على أن 'الدولة الإسبانية ليس لها دين رسمي'، ولكن هذا الطلاق الأول والأخير بين الدين والدولة في إسبانيا لم يدم سوى بضعة أعوام فقط، ليعود بعدها الدين المسيحي بقوة إلى الحياة السياسية الإسبانية عبر بوابة الحرب الأهلية، وهي حرب انتصر فيها الدكتاتور 'فرانكو' وأنصاره من رجال الكنيسة.
بعد رحيل الدكتاتور وعودة الملكية إلى إسبانيا، صدر دستور 1978 المعمول به حالياً، وعلى الرغم من تأكيد هذا الدستور على قيم الديمقراطية والحرية والمساواة، فإنه لم يستطع أن يتخلص من هذه العلاقة الوثيقة بين المسيحية ونظام الدولة. لنقرأ، على سبيل المثال، ماذا تقول الفقرة 3 من المادة 16 من الدستور الإسباني:
'لا يجوز لأي معتقد ديني أن يكتسب صفة تشريعية. السلطة التشريعية، (ممثلة في الشعب)، تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني وتحافظ على علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية والمعتقدات الأخرى'.
لا تخلو هذه الصيغة من إشكالية، فهي تدل بوضوح على عدم استناد قوانين الدولة إلى تعاليم الدين، لكنها تشير مع ذلك إلى التمسك بالعلاقة التاريخية بين الكنيسة الكاثوليكية والنظام السياسي، وهو أمر يفتح الباب على مصراعيه أمام تداخل المصالح بين رجال الكنيسة ورجال الدولة، فالدعم المادي للكنيسة من قبل السلطة السياسية، والتأثير الديني على بعض التشريعات البرلمانية، وتدخل رجال الكنيسة بالعملية التربوية، ومحاولاتهم المستمرة في التأثير على نتائج الانتخابات الإسبانية، كلها أمور يمكن إدراجها ضمن محافظة الدولة 'على علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية'!
لعلّي لا أبالغ إن قلت إني لا أجد اختلافاً كبيراً بين هذه المادة من الدستور الإسباني وتلك المادة التي تحدد طبيعة العلاقة بين الشريعة الإسلامية ونظام الدولة في أغلب الدساتير العربية، ووجه التشابه هنا يشير إلى الفشل الذريع في تحديد هوية الدولة بصورة واضحة، بدلاً من محاولة التوفيق بين قوانين وضعية من جانب وقوانين ميتافيزيقية من جانب آخر. هذا الفشل في تحديد هوية الدولة هو المسؤول عن هذا التدخل المستمر لرجال الكنيسة في الشأن السياسي الإسباني، وهو المسؤول أيضاً عن تلاشي الخط الفاصل بين الدين والدولة في معظم الأقطار العربية.
المراجع الرئيسة
- كتابHistoria Literaria de Espana en el siglo xviii، للكاتب 'أغيلار بنيال'، مدريد، 1996.
- كتابHistoria de la literatura espanola، للكاتب 'خي إل ألبورغ'، مدريد، 1992.
- كتاب The Enlightenment World، لمجموعة من المؤلفين، لندن، 2007.

ليست هناك تعليقات: