الأربعاء، 2 سبتمبر 2009

طالب علم في ورطة

سألت شاباً سوري الجنسية عن آخر أخبار رسالة الدكتوراه التي يعدها منذ بضع سنين، فأجابني بلهجة أهل حلب: 'يا خاي والله العظيم أنا في ورطة'! سألته من جديد عن طبيعة هذه 'الورطة'، فأخبرني أنه سافر من بريطانيا إلى سورية لجمع بعض البيانات المتعلقة بموضوع بحثه العلمي، وبعد عودته إلى مكان دراسته في بريطانيا، قام بتحليل تلك البيانات على ضوء النظرية العلمية التي يتبناها في بحثه، لكنه اكتشف أن أغلب البيانات جاءت متناقضة مع مبادئ النظرية، وهي نظرية تحظى بشعبية كبيرة في أحد ميادين العلم وصاحبها مفكر أميركي مشهور!
أعترف بأني لم أفهم أين تكمن الورطة، ذلك أن من الطبيعي أن تكون قدرة كل نظرية علمية على التفسير نسبية ومحدودة، كما أن هناك مبدأ عاما في فلسفة العلم يشير إلى أن النظرية التي تدّعي تفسير كل شيء لا تفسر أي شيء، ولعلّ هذا المبدأ ينطبق بشكل ملحوظ على كتابات الدكتور زغلول النجار وغيره من المهتمين بكتب ما يسمى بالإعجاز العلمي.
طلبت من صاحبي أن يأخذني 'على قد عقلي' كي يوضّح لي أين تكمن المشكلة، فأشار إلى أنه لا يستطيع إنجاز الرسالة من دون أن تأتي البيانات منسجمة مع النظرية، لذا فإن جهده الآن منصبّ على كيفية 'تعديل' البيانات بطريقة تضمن انسجامها مع الجانب النظري للرسالة!
استغربت من هذا الحرص الشديد على إثبات صحة نظرية لمجرد أنها تحظى بشعبية كبيرة، وأن من يقف وراءها عالم أميركي مشهور! لم يكن هناك أشهر من 'أرسطو' في القرون الوسطى، ورغم ذلك جاء 'جاليليو' ليقلب الطاولة على التعاليم البالية لأرسطو في مجال الفيزياء! لولا أن أظهر 'نيوتن' تحديا لفلسفة 'ديكارت' الميكانيكية، لما أصرّ على التمسك بمبدأ 'التأثير عن بعد' الذي يرتكز عليه قانون الجاذبية، ولولا مبادرة 'آينشتين' إلى الشك في مبدأ 'نيوتن' لما تعرّفنا على أعظم نظرية في القرن العشرين، ولولا تحدّي 'داروين' لتعاليم الكنيسة حول أصل الإنسان لما تعرّفنا على جذورنا الطبيعية!
اقترحت على صاحبي أن يتمسك بالنتائج التي تناقض صحة النظرية، فبهذه الطريقة سيكون موضوع رسالة الدكتوراه أكثر إمتاعاً من الناحية العلمية الصرفة، فبدلا من التسليم السلبي بصحة النظرية، لابد من إظهار نوع من التحدي الإيجابي، وهنا تحديداً تكمن متعة البحث العلمي! لكن جاء ردّ صاحبي مخيبا للآمال، وباللهجة الحلبية أيضا: 'يا خاي شو هل العلاق الفاضي، بدنا نخلص ونمشي'!
لم يبق في جعبتي سوى سلاح واحد، لذا حاولت أن أذكّر صاحبي بأن هناك بعض الشروط لإنجاز رسالة الدكتوراه، أهمها الالتزام بالنزاهة العلمية، لذا فإن إصراره على التغاضي عن تلك النتائج المناقضة للنظرية يعدّ خرقاً واضحاً لمفهوم النزاهة العلمية!
أجاب صاحبي بنبرة غاضبة بأنه لم يسرق كي أتهمه في عدم التقيد بالنزاهة العلمية!
إجابة صاحبي تدل بوضوح على المستوى المؤسف للبحث العلمي في عالمنا العربي، فالنزاهة العلمية أصبحت مقتصرة فقط على عدم سرقة جهد الآخرين، ومع تزايد عدد السرقات واللصوص، اختفى المعنى العميق لمفهوم النزاهة العلمية، وهذا موضوع مهم أرجو أن تسمح لي الظروف في أن أتطرّق إليه في مقال قادم.

ليست هناك تعليقات: