الاثنين، 14 سبتمبر 2009

الهداية المتبادلة

ينتابني أحياناً شعور غريب بأني شيطان ذو قرنين، خصوصا بعد أن أقرأ الرسائل الواردة في بريدي الإلكتروني، فأغلب تلك الرسائل تأتي من أشخاص يدعون لي بالهداية، وبالرغم من أني أبادلهم الشعور نفسه، أي أني أتمنى لهم أيضاً ما يتمنونه لي، إلا أن من الواضح أننا نختلف حول تعريف مفهوم 'الهداية': مصدر الهداية التي يعنون يقطن في مكان بعيد وراء النجوم، ومصدر الهداية التي أعني يكمن في مكان قريب تحت فروة شعر الرأس!
هناك ممن لا يكتفي بالدعوة إلى الهداية، بل يستعين أيضاً بخليط عجيب من الشتائم، لكن يبدو أن أخلاقي 'الشيطانية' تأبى أن أبادل الشتيمة بالشتيمة، لذا أراني من حيث لا أدري مُعرضاً عن الإساءة ومكتفيا بالصمت، وقبل أن أقذف بالرسالة إلى مكانها الطبيعي في سلة المهملات، أتساءل بيني وبين نفسي: كيف تستقيم الدعوة إلى الهداية مع التفنن في اختيار الألفاظ الساقطة؟!
البعض الآخر لا يلجأ إلى الشتيمة، بل يجرّب حظّه في محاولة الإقناع، وعادة ما تأتي هذه المحاولة عن طريق تضمين الرسالة بعض الروابط الإلكترونية لخطب وبرامج دينية لمشاهدتها، أي أن محاولة الإقناع ليست أصيلة، بل هي مجرد إحالة إلى جهات أخرى كي تقوم بعملية الإقناع! هنا يكمن السبب الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال، حيث أريد أن أوضح لماذا لا يستسيغ عقلي الخطاب الديني، فمن يدري؟ لعل هذا المقال يساهم أخيراً في تقليص عدد الروابط الإلكترونية التي تصلني بشكل مستمر!
بشكل عام، يحتوي الخطاب الديني على نوعين من المقولات: هناك مقولات لا أستطيع التحقق من مدى صحتها بأي وسيلة كانت، فهي لا تخضع لشروط التجربة العلمية ولا تعبّر عن نتائج منطقية، لذا لا أملك سوى أن أقف حائراً أمامها! النوع الثاني من المقولات يشير إلى معلومات قابلة للاختبار، إما بشكل مباشر عن طريق إجراء تجرية علمية، وإما بشكل غير مباشر من خلال فحص ما ينتج عنها، وفي كلتا الحالتين أجدني مضطراً لرفضها، لأنها تخفق دائماً في تجاوز الاختبار! سأتجاوز النوع الأول من المقولات لأني لا أريد أن أكلّف القائمين على 'الجريدة' ما لا يطيقون، خصوصاً في ظل قانون المطبوعات السخيف، لكن سأكتفي بمثال واحد بخصوص النوع الثاني من المقولات.
قبل فترة قصيرة، بعثت لي قارئة برابط إلكتروني لبرنامج ديني، وطلبت مني أن أدلي برأيي حول مضمونه، والبرنامج من تقديم أحد الذين اشتهروا بالتهريج وحب الإثارة، وأما الموضوع فيتعلق بفوائد الحجاب بالنسبة للمرأة، ومن ضمن الحجج التي استعان بها مقدم البرنامج تلك التي وردت في درس ديني لأحد مشايخ الأزهر، ومضمون الحجة كالتالي:
'في مجتمع مسلم محافظ، حيث تلتزم جميع النساء باللباس الشرعي، لا يشعر الرجل بأن الدهر قد أفسد جمال امرأته، فهي تبدو دائما في عينيه المرأة الأجمل، لأنه لا يرى جمال النساء الأخريات نظراً لارتدائهن اللباس الشرعي، لذا فإن فرصة إخلاصه لزوجته ستكون كبيرة جدا!'
ليس بوسعي أن أختبر صحة هذه الحجة بطريقة مباشرة، فليست هناك دراسة علمية تثبت صحتها، كما أني لا أملك مقياسا أقيس بواسطته معدل إخلاص الزوج لزوجته! لكن لحسن الحظ، بإمكاني أن أختبر صحة هذه الحجة بطريقة غير مباشرة، وهي طريقة تعرف باسم 'البرهان غير المباشر' أو reductio ad absurdum، أي أني سأسلّم بصحة الحجة كي أتمكن من فحص ما يترتب على القبول بصحتها.
حسنا، لنفرض أنك تعيش في مجتمع مسلم وأنك متزوج من امرأة ترتدي اللباس الشرعي، ثم تقول لها: يا زوجتي العزيزة، ما رأيك في إخلاصي لك؟ حمدا لله يا زوجتي العزيزة أننا نعيش في مجتمع مسلم لا يقبل بوجود امرأة لا ترتدي اللباس الشرعي، وإلا فإن إخلاصي لك لن يساوي فلساً واحداً، وسترينني أقفز كالذئب على أول امرأة أراها في الشارع!
هذا بالضبط ما سينتج عن هذه الحجة المتهافتة لو كانت صحيحة، وهي إن دلت على شيء فإنها تدل بلا شك على أن مفهوم الإخلاص رخيص جداً! لاحظ أيضا أن القبول بصحة هذه الحجة العقيمة يعني استحالة إخلاص الزوج لزوجته في مجتمع غير مسلم، وهو أمر ينافي الواقع، بل لعلّ الأقرب إلى الحقيقة هو أن الإخلاص من هذا النوع يوجد في المجتمعات غير المسلمة أكثر من وجوده في المجتمعات المسلمة، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار مسألة تعدد الزوجات.
أخيراً، لست أدعو أحداً إلى عدم الاستماع إلى الخطاب الديني، فكل شخص حر في اختيار طريقة استغلال وقت فراغه، لكني أدعو فقط إلى اختبار صحة المقولات التي يتضمها هذا الخطاب، وهنا تحديدا يكمن معنى الهداية التي أتمناها بصدق لبعض القراء ممن أغرقوا بريدي الخاص بروابطهم الإلكترونية!

ليست هناك تعليقات: