الأربعاء، 12 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا- 2

في كتاب «مدخل إلى القرن الثامن عشر»، يتحدث الباحث الإسباني «فرانسيسكو أغيلار» عن وجود رقابة ثنائية كانت سائدة طوال فترة القرن الثامن عشر حتى صدور دستور عام 1812، وإعلان الحريات الذي قام على أنقاض النظام القديم (للمرة الأولى في تاريخ إسبانيا، نصّت المادة 131 من ذلك الدستور بشكل واضح وصريح على حرية النشر والتعبير). كانت تلك الرقابة الثنائية عبارة عن رقابة مدنية وأخرى دينية، لكن من المهم التأكيد هنا على أن الأساس الذي بني عليه هذا التقسيم الثنائي يتعلق بنوع السلطة التي تنتمي إليها كل رقابة على حدة؛ فثمة رقابة مدنية تُمارس من قبل السلطة السياسية من جهة، ورقابة دينية منوطة بمحاكم التفتيش من جهة أخرى. لذا فإن صفة «الثنائية» تشير الى مصدر الرقابة، لا إلى موضوعها، الأمر الذي يفسر حظر الكثير من الكتب التي تنتقد الدين من قبل رقابة مدنية ليست لها علاقة إطلاقا مع أي مؤسسة دينية.
في عام 1752، أصدر مجلس الشورى في إقليم قشتالة، وهو عبارة عن هيئة مدنية، قانونا يقضي بإنزال أقسى العقوبة بحق كل من يقوم بطباعة كتاب من دون ترخيص مسبق. هذه العقوبة تتلخص في فرض غرامة مالية والنفي لمدة 6 سنوات بالنسبة لصاحب المطبعة، والنفي إلى الأبد بالنسبة لصاحب المكتبة، وأما المؤلف ففي حال تعرضه بالنقد للكنيسة أو العرش، فيمكن أن يعتبر نفسه محظوظا جدا إن نجا من عقوبة الإعدام! في التاسع عشر من يونيو من عام 1756، بعث القاضي «خوان كورلير»، وهو الشخص المسؤول عن صدور القانون السالف الذكر، برسالة الى إدارة رقابة المطبوعات يحث من خلالها العاملين هناك على ضرورة أخذ الحيطة والحذر في عملهم الرقابي، داعيا إياهم أن «ينتبهوا لإصرار أعداء الدين ومكرهم في نشر أفكارهم الشريرة ودس السم بكل حذر من خلال دعوتهم الناس إلى المجون»! في الفترة ما بين 1746 و1800، امتنعت الأكاديمية الملكية للتاريخ عن نشر 392 كتاباً من أصل 930 مؤلفاً، أي بنسبة تقدر بحوالي %42، و في الفترة نفسها أيضا، بعثت رابطة الأطباء في مدريد بتقرير الى مجلس الشورى بإقليم قشتالة جاء فيه: «لا يكفي أن يحتوي كتاب ما على حقائق كي نسمح بنشره، بل يجب أيضا أن يحتوي على حقائق مفيدة للقرّاء ولا تتعارض مع قيم الدين وقوانين للدولة».
على ضوء ما تقدم، يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: إذا كان هذا الحس الديني المتشدد صادرا عن رقابة مدنية لا تخضع إطلاقا لأي مؤسسة دينية، فماذا بقي، إذن، لمحاكم التفتيش ورقابتها الدينية؟ في واقع الأمر، كانت محاكم التفتيش أشبه ما تكون بـ«حرس الحدود»، خصوصا الحدود مع فرنسا، ذلك أن دورها الرقابي اقتصر على منع دخول الكتب الأجنبية المحظورة إلى الأراضي الإسبانية، ففي الأعوام 1707 و1747 و1790، قامت محاكم التفتيش، أو «العمل المقدس» كما كانت تسمى في ذلك الوقت، بنشر «فهرس الكتب الممنوعة»، وقد كان للكتب الفرنسية نصيب الأسد في ذلك الفهرس، وعلى الأخص كتب «فولتير»، والذي كان يعد من ألد أعداء رجال الدين الإسبان!
لم تكتف محاكم التفتيش بدورها في مراقبة الكتب الأجنبية، بل جعلت تضيّق الخناق على بعض الكتاب والمفكرين الإسبان ممن تشك في توجهاتهم الأيديولوجية، ولقد بلغ الأمر بهؤلاء الكتاب والمفكرين الى حد اللجوء إلى الملك واستئذانه كي يقوم بنفيهم خارج إسبانيا، هربا بجلودهم مما يلاقونه من ذل وتعذيب على أيدي رجال الكنيسة! في عام 1790، أي بعد سنة واحدة فقط من قيام الثورة الفرنسية، كشفت محاكم التفتيش، التي كانت في تلك الفترة على علاقة حميمية مع السلطة السياسية، عن الهدف من دورها الرقابي بكل صراحة ووضوح، وذلك حين أصدرت بيانا تؤكد فيه عزمها على الدفاع «عن النظام السياسي - الاجتماعي القائم»، والجدير بالذكر أن البيان لم يتطرق إلى موضوع حماية الأخلاق كما جرت العادة، ويعد ذلك سابقة في تاريخ محاكم التفتيش الإسبانية.
يتبع،،،

ليست هناك تعليقات: