الاثنين، 17 أغسطس 2009

عصر التنوير في إسبانيا- 3

لا تخلو من سخرية تلك الكلمات التي جاءت في مقدمة كتاب Cartas Marruecas (رسائل مغربية)، من تأليف «كدالسو»، أحد أشهر أدباء القرن الثامن عشر في إسبانيا. كتب هذا الأديب يقول: «لقد تشجعت كثيرا في نشر رسائلي هذه، لا سيما أنها لا تتطرق إلى الدين أو الملك»! هذه الكلمات تكشف عن وجود رقابة ذاتية كنتيجة منطقية للقمع الذي عاناه الكتّاب والأدباء الإسبان طوال تلك الفترة، ولقد ساهم هذا القمع في تدهور أغلب الأجناس الأدبية مثل الشعر والمسرح والرواية.
في ما يتعلق بالشعر، كانت الرقابة تتمحور حول ثلاثة أمور رئيسة: الإباحية، والسخرية، والعيوب المتعلقة بالأسلوب. بالنسبة للشعر الإباحي، لم تسمح الرقابة بنشر هذا اللون من الشعر طوال فترة القرن الثامن عشر، فأشعار مثل «حديقة فينوس» أو «قبلات الحب» كانت توصف من قبل الرقابة بأنها أشعار «غير مفيدة وغير لائقة بالنسبة إلى أدبنا، فضلا عن كونها غير أخلاقية بشكل فاضح». أما الشعر الساخر فقد استطاع تجاوز الخطوط الحمراء بفضل ما يعرف بـPliegos de cordel، وهي عبارة عن أوراق سميكة ومثبّتة بحبل في منتصفها، وبالرغم من كونها مطبوعات غير رسمية، فإن سهولة تداولها ساهمت في تجاوز مقص الرقيب وانتشارها بين عامة الناس.
الجدير بالذكر أن جريدة «الرقيب» الإسبانية قامت بنشر قصيدتين فيهما سخرية مبطّنة من علاقة الملك بالسلطة الدينية، وأدّى ذلك إلى إيقاف الجريدة لبعض الوقت! بالنسبة للعيوب المتعلقة بالأسلوب، كانت أحكام الرقابة في معظمها أحكاما اعتباطية، ففي عام 1769 منعت الرقابة قصيدة «حكم أبولو» لأنها، حسب رأي الرقابة، «تفتقد الى القوة الشعرية وخالية من الحس الحماسي»! في بعض الأحيان، قد توثر أيديولوجية الرقيب في حكمه على أسلوب القصيدة، ويمكن أن ندلل على ذلك من خلال تلك الحالة التي منعت الرقابة فيها «أشعار مقدسة» للماركيز «دي بلاثيوس»، و جاء المنع ملخّصا في جملة واحدة: «حين يتعلق الأمر بقضية في قمة السمو والقداسة، فإن الخطأ لا يغتفر، والمحاكاة غير مسموح بها»!
إذا كانت هذه هي حال الشعر مع الرقابة، فإن من الطبيعي جدا أن يتضاعف حجم الرقابة حين يتعلق الأمر بالمسرح، فمن جهة هناك عرض حي، ومن جهة أخرى هناك جمهور، وفي تلاقي هذين العنصرين تكمن الخطورة! على خشبة المسرح، كان من الضروري احترام كلّ من: الدين، والملك، والقوانين، والذوق الرفيع، والأخلاق، والعادات والتقاليد الحميدة، وقواعد أرسطو المسرحية! من ضمن الإجراءات المتعسفة التي قاسى منها المسرح تلك التي تتعلق بالحصول على ترخيص لعرض أي مسرحية، إذ كان لا بد من الحصول على ستة تواقيع لمسؤولين عدة، من بينهم اثنان من رجال الدين!
هناك أسباب عديدة لمنع بعض العروض المسرحية أو مقاطع منها، فعلى سبيل المثال، عندما عرضت مسرحية «سانشو غارثيا»، لم يستطع الجمهور سماع البيت الشعري الذي يقول: «أشك في أن السماء ترعى الإنسان»، وذلك لتعارضه مع تعاليم الدين. قامت الرقابة أيضا، ولأسباب أخلاقية هذه المرّة، بشطب مشهد كامل من إحدى المسرحيات لأنه تضمّن وجود امرأة حامل، وجاء تعليق الرقابة على إجراء المنع مختصرا كالعادة: «مثل هذه القضايا لا علاقة لها بالمسرح»! في عام 1794، اشتد الجدل بين أعضاء الرقابة حول مدى أخلاقية عرض مشهد من مشاهد الانتحار على خشبة المسرح، فبينما أصرّ بعضهم على عدم جواز عرض المشهد لتعارضه مع تعاليم الدين، ذهب البعض الآخر إلى القول بأهمية عرض مثل هذه المشاهد «كي يتعظ الناس ويحمدوا خالقهم على نعمة الإيمان»! رجحت كفة الرأي الأول وتم منع عرض المشهد!
«لاراكيل» مسرحية شعرية تتألف من 2300 بيت، منعت الرقابة منها 735 بيتاً لأسباب سياسية. الأبيات الشعرية الممنوعة تدور في مجملها حول ضعف شخصية أحد الملوك وعدم قدرته على إدارة شؤون الدولة! لا يخلو المنع في بعض الأحيان من أسباب تتعلق بضعف الأسلوب، أو الإخلال بمفهوم الذوق العام، أو حتى أمور شكلية ونظرية مثل عدم التقيد بتعاليم أرسطو المسرحية! يرى أرسطو في كتابه Poetica أن من المستحسن في العمل الأدبي أن يحتوي على أحداث «قابلة للتصديق»، وكان لهذا الرأي صدى كبير بين الكلاسيكيين الجدد في القرن الثامن عشر، ومن ضمنهم الأديب الإسباني «دييث غونثالث»، الذي انفجر غاضبا عند قراءته مسرحية كان البطل فيها يحلم بصوت مسموع، ذلك أنه من المستحيل، حسب رأيه، أن يأتي الحلم في سياق منطقي ومحكم!
ليس هناك جنس من بين الأجناس الأدبية أكثر شمولية من جنس الرواية، ولعل هذه الحقيقة تفسر السبب وراء القرار الصادر في 27 مايو من عام 1799 من قبل مجلس الشورى في إقليم قشتالة، والذي يقضي بحظر طباعة الروايات بشكل عام! لا شك في أن الأحداث التي نجمت عن الثورة الفرنسية كانت وراء ذلك الحكم الجائر بحق الرواية، ومن المؤسف أن يلجأ بعض الكتّاب الإسبان إلى تملّق أعضاء محاكم التفتيش كي يسمحوا لهم على الأقل بترجمة بعض الروايات الأجنبية! فعلى سبيل المثال، في مقدمة الطبعة الإسبانية لـ«Pamela Andrews»، يؤكد مترجم الكتاب أنه «بهذا العمل يقدم خدمات جليلة للعادات والتقاليد الإسبانية الحميدة»، بينما يصرح مترجم آخر بأن «هذا العمل الرائع يساعد على تصحيح العادات السيئة للشعب الإسباني»! على الرغم من كل هذا القدر من الإذلال والمهانة، لم تتوقف الرقابة عن عملها فحظرت نشر العديد من الروايات الأجنبية لأنها «مليئة بالعشق والغزل، ومن شأن ذلك الإضرار بأخلاق الشباب، خصوصا الآنسات، فقد اعتدن قراءة هذا النوع من الروايات»!
(يتبع،،،)

ليست هناك تعليقات: