الجمعة، 31 يوليو 2009

جاري العنصري

لدي جار فرنسي في الخمسين من عمره، يعمل استاذاً في الجامعة، ويسكن في شقة واسعة وجميلة، لا يشاطره فيها سوى قط أبيض اللون. اعتاد هذا الجار أن يدعوني إلى منزله في بعض عطل نهاية الأسبوع لمزاولة لعبة الشطرنج. جاري هذا غريب الأطوار، ففي إحدى المرات، استغرق وقتاً طويلاً ليقنعني بمدى ذكاء قطه الأبيض! لم أستطع أن أكبح رغبتي في الضحك عندما سمعته يقول: 'عندما أخرج للتنزه مع 'بلانك' (هذا هو اسم القط)، فإنني ألاحظ قدرته الفائقة على مطاردة الفئران واصطيادها، وهذا دليل واضح على الذكاء! بالطبع، هناك شيء اسمه 'مصيدة الفئران'، ولكن هذا دليل على ذكائنا نحن البشر، وربما هو دليل أيضا على غباء الفئران!'.
لكن أبرز صفة في جاري هي أنه إنسان عنصري، وهو يعترف بذلك من دون تردد، ومن دون أن يصاحب هذا الاعتراف شعور بالخجل! عنصرية جاري لها مستويات مختلفة، فهو يرى أن 'الأمم الأوروبية' هي الوحيدة القادرة على صنع حضارة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ويرى أيضاً أن الشعب الفرنسي أرقى الشعوب الأوروبية، أما إقليم 'الألزاس' فهو أفضل الأقاليم الفرنسية! ليس عندي شك في أن جاري مقتنع تماماً بما يقول، لكن هل هي مجرد مصادفة أن يرتبط هذا الاقتناع بحقيقة أن جاري أوروبي، فرنسي، ألزاسي؟ بمعنى آخر، لو كان جاري صينياً من مدينة شانغهاي، فهل ستتغير قناعاته العنصرية حسب إحداثيات الموقع الجغرافي الذي ينتمي إليه؟!
أعترف بأن السبب وراء حرصي على تلبية دعوة جاري لممارسة لعبة الشطرنج لا يرتبط بعشقي لهذه اللعبة الجميلة بقدر ارتباطه برغبتي الصادقة في فهم ذهنية الإنسان العنصري! أريد، مثلاً، أن أعرف كيف لإنسان مثله أن يكون عنصرياً، ذلك أننا لو افترضنا أن أي استاذ جامعي يمتاز بالحد الأدنى من التفكير العقلاني، فإن السؤال الطبيعي في هذه الحالة سيكون: هل من الممكن أن تجتمع العقلانية والعنصرية في جوف واحد؟ أشك في ذلك، فالآراء العنصرية، مثل كل الآراء غير العقلانية، تستمد قوتها من غياب التفكير النقدي! طلبت من جاري أن يحدد ماذا يقصد بقوله إن الشعب الفرنسي أرقى شعوب أوروبا، فمن دون تعريف واضح لمعنى اسم التفضيل 'أرقى'، لن يكون بوسعي التحقق من مدى صحة رأيه. لم أحصل، مع الأسف، على تعريف واضح، إنما جاءت إجابته مبهمة ولا تدل على شيء ذي معنى! عندما يزعم جاري أن شعبه أرقى الشعوب فإن هذا الزعم بالنسبة إليه بمنزلة قانون عام، لكن عندما أقوم بلفت انتباهه إلى وجود ثغرات في هذا القانون من خلال الإشارة إلى نماذج سيئة من بعض أفراد شعبه، فإنه يسارع إلى التأكيد على أن تلك النماذج السيئة لا تعدو أن تكون مجرد استثناءات من القانون العام، أما القانون ذاته فيبقى قائماً على الدوام! هذا النمط من التفكير يدل بوضوح على استحالة الجمع بين العقلانية والعنصرية.
الإنسان العنصري مريض نفسيّ، فالعنصرية تمنحه شعوراً زائفاً بالأهمية من خلال تضخيم الذات على حساب تحجيم الآخر، ذلك أن تضخيم الذات يؤدي تلقائياً إلى تحجيم الآخر! لنأخذ، على سبيل المثال، فكرة التفاخر بالأصل، فعندما يفتخر أحدهم بأصله، فإنه يفترض وجود خصلة حميدة في أصله تفتقر إليها بقية الأصول، كما أن فكرة التفاخر بالأصل تستمد قوتها من افتراض وجود أصول شريفة وأخرى وضيعة، ولولا هذا الافتراض لفقدت هذه الفكرة قيمتها الاجتماعية! لو آمن الجميع بالحقيقة العلمية التي تقول إن هناك اختلافاً طفيفاً جداً من حيث التركيب الجيني بين فصيلة الإنسان وفصيلة الشامبانزي، لأصبحت فكرة التفاخر بالأصل مدعاة للضحك والسخرية!

ليست هناك تعليقات: