الخميس، 30 يوليو 2009

عقل تتقاسمه الأفكار والأشباح

ما قيمة المعرفة العلمية التي ليس لها أثر في طريقة تفكيرنا، وبالتالي، على حياتنا بشكل عام؟ قد يقبل الإنسان الجاهل أن يشرب من إناء بصق فيه أحد المشعوذين لاستخراج الأرواح الشريرة، لكن ما معنى أن يقبل إنسان متعلم الإهانة ذاتها ويشرب من الإناء نفسه؟ ما معنى أن يتخرّج طالب من كلية العلوم ثم يكتب عبارة «عين الحسود فيها عود» على سيارته الجديدة؟ بعبارة مختصرة، كيف نفسر تعايش الخرافة والعلم في عقل الإنسان المتعلم؟ كي نجيب عن هذه الأسئلة بطريقة شافية، ينبغي أولا أن نتعرف على جانب من جوانب آلية المنهج العلمي، وسأحاول أن أشرح هذا الجانب عن طريق تقديم مثال بسيط ومحدد.
لنفرض أني حاولت تشغيل جهاز الكمبيوتر ثم اكتشفت أنه لا يعمل. للوهلة الأولى، اعتقدت أن الجهاز غير متصل بالدائرة الكهربائية، لكن بعد معاينة السلك الكهربائي، تبين لي أنه متصل بالكهرباء، واستنتجت أن الدائرة الكهربائية غير مسؤولة عن المشكلة. لعل السبب يكمن في أن الكهرباء منقطعة عن المنزل كله، ولكي أتأكد من ذلك ضغطت على زر المصباح وإذا بالنور يغمر أرجاء الغرفة، فاستنتجت من جديد أن اعتقادي خاطئ. ماذا لو كان البيت «مسكونا» وكانت «الجن» هي المسؤولة عن عدم قدرتي على تشغيل جهاز الكمبيوتر؟! صرفت النظر عن هذا الاعتقاد لأني لا أملك طريقة محددة أختبر فيها صحة هذا الاعتقاد. أخيراً، خمّنت أن سبب المشكلة يكمن في السلك الكهربائي نفسه، لذا بحثت عن البطارية، وبعد أن وضعتها في مكانها المناسب داخل جهاز الكمبيوتر، شغلت الجهاز وإذا به يعمل على أكمل وجه! دعنا الآن نحلل هذا المثال الافتراضي على النحو التالي.
واجهتني في البداية مشكلة محددة، ثم قدمت فرضية لتفسير هذه المشكلة، وبعد اختبار صحة هذه الفرضية بشكل مباشر، تبين لي أن الفرضية خاطئة. الخطوة الثانية هي تقديم فرضية أخرى، وبعد اختبار صحتها بشكل غير مباشر، تبين لي أيضا أنها فرضية خاطئة. الخطوة الثالثة بدأت بفرضية جديدة، لكن نظرا إلى عدم وجود طريقة أختبر من خلالها مدى صحتها، صرفت النظر عنها واهملتها! الخطوة الأخيرة أسفرت عن فرضية رابعة، وبعد إجراء اختبار غير مباشر لمدى صحتها، تبين لي أنها فرضية صحيحة.
احتوى هذا المثال الافتراضي على ثلاثة أنواع من الفرضية العلمية؛ النوع الأول، فرضية يمكن اختبارها بشكل مباشر، والنوع الثاني، فرضية يمكن اختبارها بشكل غير مباشر، والنوع الثالث، فرضية لا يمكن اختبارها بأي شكل من الأشكال. بإمكاننا أيضا أن نضع تصنيفا مختلفا من حيث نتيجة كل فرضية لنقول إن هناك فرضية صحيحة، وفرضية خاطئة، وفرضية عقيمة. لاحظ أيضا أن الفرضية الخاطئة أفضل بكثير من الفرضية العقيمة، فهي على الأقل سمحت لنا باختبار مدى صحتها، على العكس من الفرضية العقيمة.
لنفرض الآن وقوع زلزال في مكان معين من الكرة الأرضية، ولنفرض أني أمام إحدى فرضيتين: الأولى، هي أن سبب الزلزال يكمن في «الغضب الإلهي»، والثانية، هي أن السبب يكمن في الانبثاق المفاجئ للطاقة الكامنة في القشرة الأرضية. إذا كنت متسقاً مع نفسي، فينبغي أن أفضّل الفرضية الثانية على الفرضية الأولى، للأسباب نفسها التي قادتني إلى التعامل مع جهاز الكمبيوتر في المثال السابق. قد يعترض القارئ ليقول: ما الذي يمنعك من قبول الفرضيتين معاً؟!
صحيح، ما الذي يمنعني من قبول تفسيرين، أحدهما علمي والآخر ميتافيزيقي، لنفس الظاهرة؟ ما الذي يمنعني، مثلاً، من مراجعة الطبيب النفسي عندما أعاني آلاما نفسية، ومن الذهاب في الوقت نفسه إلى مشعوذ كي أشرب من الإناء الذي بصق فيه؟! ما الذي يمنعني، مثلا، من الالتحاق بكلية العلوم كي أتعلم أن للطبيعة قوانين تحكمها، ومن الاصرار في الوقت نفسه على وضع ملصق «عين الحسود فيها عود» على سيارتي الجديدة؟!
لعل الجواب الأمثل عن كل هذه الأسئلة يكمن في السؤال الذي بدأت به هذا المقال: ما قيمة المعرفة العلمية التي ليس لها أثر في طريقة تفكيرنا، وبالتالي، على حياتنا بشكل عام؟ إذا فشل العلم المكتسب في القضاء على الخرافة الموروثة، فلا خير في عقل تتقاسمه الأفكار والأشباح!

ليست هناك تعليقات: