الأربعاء، 29 يوليو 2009

الدين والدولة في إسبانيا 1-2

تطرقنا في المقال السابق إلى القضية التي أثيرت أخيراً في الساحة السياسية الإسبانية، حيث أصدر رجال الكنيسة الكاثوليكية توصية تهدف إلى توجيه إرادة الناخبين قبل حلول الانتخابات البرلمانية في مارس المقبل، واستعرضنا ردود الفعل التي صاحبت هذه القضية وانقسام الرأي العام الإسباني بشأن علاقة الدين بالدولة، ونريد في هذا المقال أن نتعرف على جذور هذه العلاقة من خلال النظر إلى السياق التاريخي التي نشأت فيه وإلى الظروف الموضوعية التي ساهمت في تطورها.
يرجع تاريخ علاقة الدين بالدولة في شبه الجزيرة الإيبيرية إلى أواخر القرن الرابع الميلادي، وهو التاريخ الذي أصبحت فيه المسيحية الدين الرسمي لإسبانيا بفضل الإمبراطور الروماني «تيودوسيو»، ومع صدور أول دستور إسباني في عام 1808، المعروف باسم «قانون بايونا»، تم توثيق العلاقة التاريخية بين المسيحية ونظام الدولة عن طريق المادة الأولى من هذا الدستور التي نصّت على أن الدين الكاثوليكي هو «دين الملك والأمة، ولن يُسمح بوجود دين آخر غير هذا الدين»! استمرت العلاقة الوثيقة بين «الدين الأوحد» ونظام الدولة في الدساتير اللاحقة طوال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لكن مع قيام الجمهورية الثانية في إسبانيا وإرسال الملك ألفونسو الثالث عشر إلى المنفى، صدر دستور 1931 الذي ينص في مادته الثالثة على أن «الدولة الإسبانية ليس لها دين رسمي»، ولكن هذا الطلاق الأول والأخير بين الدين والدولة في إسبانيا لم يدم سوى بضعة أعوام فقط، ليعود بعدها الدين المسيحي بقوة إلى الحياة السياسية الإسبانية عبر بوابة الحرب الأهلية، وهي حرب انتصر فيها الدكتاتور «فرانكو» وأنصاره من رجال الكنيسة! بعد رحيل الدكتاتور وعودة الملكية إلى إسبانيا، صدر دستور 1978 المعمول به حالياً، وعلى الرغم من تأكيد هذا الدستور على قيم الديموقراطية والحرية والمساواة، فإنه لم يستطع أن يتخلص من هذه العلاقة الوثيقة بين المسيحية ونظام الدولة. لنقرأ، على سبيل المثال، ماذا تقول إحدى مواد هذا الدستور.
الفقرة 3 من المادة 16 في الدستور الإسباني تنص على ما يلي: «لا يجوز لأي معتقد ديني أن يكتسب صفة تشريعية. السلطة التشريعية، (ممثلة بالشعب)، تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني وتحافظ على علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية والمعتقدات الأخرى». هذه الصيغة لا تخلو من إشكالية، فهي تدل بوضوح على عدم استناد قوانين الدولة إلى تعاليم الدين، لكنها تشير مع ذلك إلى التمسك بالعلاقة التاريخية بين الكنيسة الكاثوليكية والنظام السياسي، وهو أمر يفتح الباب أمام تداخل المصالح بين رجال الكنيسة ورجال الدولة، فالدعم المادي للكنيسة من قبل السلطة السياسية، والتأثير الديني على بعض التشريعات البرلمانية، وتدخل رجال الكنيسة بالعملية التربوية، كلها أمور يمكن إدراجها ضمن محافظة الدولة «على علاقة تعاون مع الكنيسة الكاثوليكية»!
لعلّي لا أبالغ إن قلت إني لا أجد اختلافاً كبيراً بين هذه المادة من الدستور الإسباني وتلك المادة التي تحدد طبيعة العلاقة بين الشريعة الإسلامية ونظام الدولة في أغلب الدساتير العربية، ووجه التشابه هنا يشير إلى الفشل الذريع في تحديد هوية الدولة بصورة واضحة، بدلاً من محاولة التوفيق بين قوانين وضعية من جانب وقوانين ميتافيزيقية من جانب آخر! هذا الفشل في تحديد هوية الدولة هو المسؤول عن هذا التدخل المستمر لرجال الكنيسة في الشأن السياسي الإسباني، وهو المسؤول أيضاً عن تلاشي الخط الفاصل بين الدين والدولة في معظم الأقطار العربية.

ليست هناك تعليقات: