الجمعة، 31 يوليو 2009

من يجب أن يحكم؟

من يجب أن يحكم؟ هذا هو السؤال التقليدي في ميدان الفلسفة السياسية، ولو تأملنا تاريخ هذه الفلسفة، لوجدنا أن الإجابة عن هذا السؤال لم تكن واحدة. أفلاطون، مثلا، كان يرى أن الحكم يجب أن يستقر في أيدي الفلاسفة، فالفيلسوف حسب رأيه هو أقدر الناس على اتخاذ قرارات حكيمة، وأما سان أوغستين فيزعم أن الحكم ينبغي أن يؤول إلى رجال الكنيسة، فهو يرى أن الرهبان هم أقرب الناس إلى الرب وأكثرهم معرفة بمشيئته! لو انتقلنا إلى بدايات عصر النهضة، فسنلاحظ أن إجابة ميكيافيللي عن هذا السؤال تعكس حجم الانحطاط الأخلاقي خلال فترة الحروب الإيطالية، وهي فترة سادت فيها رذائل الغدر والمكر والنفاق، فميكيافيللي لم يتردد أن يكون ملكيّاً في كتابه «الأمير»، وجمهوريّاً في كتابه «الخطابات»! بعد عصر النهضة، انقسمت آراء الفلاسفة السياسيين في مجملها بين شكلين من أشكال الحكم، فمنهم من دافع عن النظام الديمقراطي من أمثال «لوك» و«مونتسيكو» و«كانط»، ومنهم من برّر الدفاع عن النظام الشمولي تحت مسميات مختلفة مثل «هوبز» و«روسو» و«هيغل»، وأما «نيتشه» فظل يغرّد وحيدا، مطالباً أن يكون الحكم بيد أرستقراطية مكونة من مجموعة من الأبطال!
حينما ينتج عن سؤال واحد إجابات متعددة، فإن في ذلك إشارة إلى مدى صعوبة السؤال نفسه، ويبدو أن السؤال الذي نحن بصدده ينتمي إلى هذا الصنف من الأسئلة، لكن ماذا لو كانت صعوبة العثور على إجابة مقنعة عن هذا السؤال تكمن في حقيقة أنه سؤال تمت صياغته بطريقة خاطئة؟ هذا هو رأي المفكر النمساوي «كارل بوبر»، فهو يرى أن السؤال بصيغته الحالية يدفعنا إلى البحث عن إجابات سلطوية وسطحية، مثل «الأفضل»، أو «الأقوى»، أو «الشعب»، أو «الأغلبية». أعتقد أن «بوبر» صائب في ملاحظته، ذلك أن السؤال يربط بين مصدر الحكم وأهليّة الحاكم، من دون وجود سبب مقنع لمثل هذا الربط، فإذا كنّا نعتقد أن القوة، مثلاً، هي مصدر الحكم، فإننا سنميل إلى الاعتقاد بأن القوي هو الإنسان المؤهل للحكم، من دون أن نقدم أي نوع من التبرير المنطقي لهذا الربط بين حجم القوة ومشروعية الحكم.
لتفادي هذا الخلل المتمثل في الربط غير المنطقي بين مصدر الحكم وهوية الحاكم، يقترح «بوبر» إعادة صياغة السؤال على النحو التالي: كيف يمكن تنظيم مؤسسات الدولة بطريقة تساهم في تقليص الضرر الناتج عن وجود حاكم سيئ في سدة الحكم؟ صياغة السؤال بهذه الطريقة لا تهتم بهوية الحاكم بقدر اهتمامها بتحديد كيفية الحكم، ولعل تجربتنا الديمقراطية المتواضعة في الكويت تقدم لنا مثالاً على هذا السؤال بصيغته الجديدة، فأداة الاستجواب، مثلا، هي إحدى الوسائل التي تساهم في تقليص الضرر الناتج عن وجود وزير سيئ على رأس الوزارة، ولكن إذا نظرنا إلى كيفية استخدام هذه الأداة الدستورية من قبل أغلب نواب البرلمان، فسنجد أن معظم الاستجوابات يميل إلى التركيز على هوية الوزير، وبمجرد أن ينجح الاستجواب في إطاحة الوزير، لا يكترث أحد بكيفية التعامل مع حجم الضرر الذي تركه الوزير بعد رحيله! من هنا نستنتج أنه على الرغم من أن الهدف من أداة الاستجواب هو تقليص الضرر الناتج عن وزير سيئ، فإن استخدام هذه الأداة يعتمد في أغلب الأحيان على هوية الوزير، أو بعبارة أخرى، الاستجواب كأداة دستورية يجيب جزئيا عن السؤال الذي طرحه «بوبر» بصيغته الجديدة، ولكن الاستخدام الفعلي لهذه الأداة مازال يدور في فلك السؤال نفسه بصيغته القديمة!
هناك، إذن، ضرروة في محاولة الفصل بين مصدر الحكم ومشروعية الحاكم في تقلد مناصب الحكم، وهي ضرورة تستدعي إعادة النظر في جميع أشكال الحكم التي تقوم على أساس بدائي! لكن ينبغي الانتباه إلى أن الأمر لا يقتصر فقط على موضوع الحكم، فنحن نربط أيضاً بين مصدر المعرفة من جهة وحقيقة هذه المعرفة من جهة أخرى، وعلى أساس هذا الربط قامت جميع الأديان التي عرفتها البشرية. عندما يصل إلى أسماعنا خبر غريب يصعب تصديقه، فإننا نقوم عادة بالسؤال عن مصدر الخبر، وكأن مصدر الخبر يصلح أن يكون دليلاً قاطعاً على صحته. حينما يكون الأب هو المصدر الرئيسي للمعرفة، فهل من الغرابة أن يصدّق الأطفال آباءهم على طول الخط، حتى لو جرّوهم إلى المسلخ استعدادا للذبح؟!

ليست هناك تعليقات: