الجمعة، 31 يوليو 2009

الإبداع وأشياء أخرى


كلمة «إبداع» تنتمي إلى ذلك النوع من المصطلحات التي يسهل فهمها ويصعب تعريفها، مثل «الحب» أو «الحدس» أو «الكتلة»، لكن إذا كان لابد من العثور على تعريف محدد لكلمة «إبداع»، فإني لا أجد تعريفاً أفضل من تلك العبارة المرورية التي نقرؤها عادة على قارعة الطريق، وهي عبارة «توقّع غير المتوقّع»، ذلك أن الإبداع يتضمن في أغلب الأحيان عنصر المفاجأة، ويشير دائماً إلى ما هو جديد، إما عن طريق إنتاج شيء جديد فعلاً، وإما من خلال النظر إلى شيء قديم من زاوية جديدة.
موباسان قاص مبدع لأنه يجعل قلبك يخفق بشدة مع نهاية كل قصة قصيرة، وبروكوفييف موسيقيّ مبدع لأن ألحانه ترجمت أعظم الأعمال الأدبية المكتوبة، ونيوتن مبدع لأنه استطاع الربط بين سقوط التفاحة ودوران القمر، وآينشتين مبدع لأنه وضع تفسيراً هندسياً لمفهوم الجاذبية، والتاريخ الإنساني زاخر بنماذج كثيرة لمبدعين آخرين، لكن الإبداع لا يقتصر فقط على ما هو عظيم، بل إنه يرتبط أحيانا بأشياء بسيطة في حياتنا اليومية، ومن يراقب حركة الأطفال وتصرفاتهم سيدرك حتما ما أعني!
يقولون إن الروتين يقتل الإبداع، وفي هذه المقولة قدر كبير من الصحة، فالروتين والإبداع لا يلتقيان أبداً، الروتين يشير إلى خط مستقيم، إلى حياة مطمئنة، إلى وجوه مألوفة، بينما الإبداع يدل على خط متعرج، وحياة مضطربة، وخيال جموح. عندما تجلس بصحبة موظف سحق الروتين حياته، فإن بإمكانك إثارة غضبه بسهولة: حاول، مثلا، أن تزيح ورقة واحدة فقط من فوق مكتبه وستجد ما لا يسرّك! على النقيض من ذلك، عندما تجلس بصحبة طفل متوقد الذهن، وحينما يلاحظ هذا الطفل أنه لا شيء فيك يثير الاهتمام، فإنه سيتركك ليلهو مع بقية الأطفال، لأنهم من وجهة نظره أكثر إبداعا منك!
هناك معاهد تجارية تزعم أنها «راعية للإبداع»، وهناك جوائز مخصصة لتحفيز «المواهب الإبداعية»، ولا أدري ما هي الجدوى الفعلية وراء كل ذلك، إذ ليست هناك قوانين آلية تقود إلى الإبداع، بل إن الإبداع ذاته قائم على كسر القوانين والخروج على كل مألوف، كما أن مكافأة الإبداع تعني ببساطة وأده والقضاء عليه!
في تجربة علمية مثيرة للانتباه، قدّم عالم الحيوان البريطاني «دسموند موريس» بعض الألوان والأوراق البيضاء لمجموعة من القردة من فصيلة الشامبانزي، وبعد مرور فترة من الوقت، استطاعت القردة أن ترسم لوحات فيها شيء من النظام واللمسة الفنية، لكن «موريس» قام بتكرار التجربة مع إضافة عنصر جديد، وهو عنصر المكافأة، فكلما قام أحد القردة بتمرين الرسم، قدّم له «موريس» قطعة من الطعام على شكل مكافأة، لكنه لاحظ لاحقا أن القردة قامت بتلطيخ الورقة بالألوان بأقصى سرعة طمعا في نيل المكافأة! النتيجة التي خرج بها «موريس» من التجربة تشير إلى أن التفكير بمكافأة المبدع قد يؤدي إلى القضاء على إبداعه!
هناك من يعتقد أن الإبداع سمة تقتصر على عدد محدود من البشر، وهو اعتقاد غير صحيح من وجهة نظري، لكن حتى لو قبلنا بصحته، ينبغي ألا نغفل حقيقة أننا جميعا ثمرة عمل مبدع، إذ ليس هناك إبداع أكبر من تلقيح بويضة على يد حيوان منوي من بين ملايين الحيوانات المنوية! ليس عندي شك في حقيقة أن الإبداع سمة إنسانية عامة، فجميعنا مبدع بشكل أو بآخر، لكن أغلبنا يخفق في تحرير الطاقة الإبداعية الكامنة في داخله، ولهذه الحقيقة أسباب تتعلق بالبيئة والتربية والثقاقة السائدة.
أفراد المجتمع المنغلق لا أشكال واضحة لهم، ومن لا شكل له يسهل وضعه في قالب، ولهذا السبب يتشابه جميع أفراد المجتمع المنغلق من حيث إنهم أتوا جميعا من القالب نفسه! لكن الإنسان المبدع لا يقبل الترويض، ولا يعترف بالخطوط الحمراء، ولا يقبل التنازل عن حريته، فالحرية ذاتها هي شرط الإبداع. أجل، جميعنا مبدع بالفطرة، فالطبيعة منحتنا فضيلة الإبداع، ولا يسلب منا هذه الفضيلة سوى تعليم مزيف وتربية خاطئة وثقافة منغلقة! حاول، عزيزي القارئ، أن تتمرد، ولو ليوم واحد فقط، وستعرف حجم الطاقة الإبداعية الكامنة في داخلك! سيقولون لك إن التمرد جريمة، وهذه نصف الحقيقة، فالتمرد جريمة لأنك تعيش في مجتمع مستكين، وسيقولون لك إن التمرد خطيئة، وهذه نصف الحقيقة، فالتمرد خطيئة لأنك تعيش في مجتمع قائم على التقديس، وسيقولون لك إن التمرد مراهقة فكرية، وهذه نصف الحقيقة، فالتمرد مراهقة فكرية لأنك تعيش في مجتمع يرى البلوغ في الانصياع إلى عصا الطاعة!
لقد تحدث باكونين عن «غريزة الثورة»، ولن تحتاج إلى البحث عن هذه الغريزة في كتب باكونين، ذلك أنها موجودة في داخلك، إنها أشبه ببركان يوشك أن يثور في وجه الظلم والتخلف والانحطاط!

ليست هناك تعليقات: