الجمعة، 31 يوليو 2009

قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر (1)

الناس في الشارع أشبه بالنمل حينما تنظر إليهم من شرفة أحد المباني الشاهقة، وكلما انتقلت إلى الطوابق العلوية، تضاءل الناس إلى مستويات تافهة من حيث الحجم! كل نقطة صغيرة تتحرك أمام عينيك لها همومها الخاصة، وذكرياتها، ورغباتها، ومخاوفها، لكن كل ذلك تم اختزاله بفضل الارتفاع الشاهق إلى مجرد نقطة تافهة تتحرك بغباء على قارعة الطريق! الأمر يبدو مشابهاً حينما ننظر إلى قيمة الإنسان في عصرنا الحاضر، فكلما زاد مستوى التعقيد في العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية، تضاءلت قيمة الإنسان إلى مجرد رقم! في السابق، كان السؤال الأساسي بعد كل مناسبة اجتماعية هو 'من حضر؟'، أما الآن فإن السؤال تحوّل إلى 'كم عدد الحضور؟'. في السابق أيضاً، كانت أنماط التداول التجاري المتواضعة تسمح بوجود علاقة حميمية بين البائع والمشتري، أما في عصر الإنترنت، وفي ظل ارتفاع معدلات الاستهلاك الشامل والبيع بالجملة، فأضحت العلاقة ذاتها باردة، ولاشخصية، ومفرطة في التجريد!
بات الإنسان مجرد سلعة لها رقم يشير إلى قيمتها، أي أن السوق هو الذي يحدد قيمة الإنسان! تقرأ الصحيفة، وتقع عيناك على خبر يقول: 'انتحار خادم في المنطقة الفلانية'! لا يبدو الخبر مهمّاً من وجهة نظر أصحاب الصحيفة، فهو منشور في ركن صغير في أسفل الصحفة، لكن ما يثير الانتباه هو طريقة صياغة الخبر، فالذي أنهى حياته لم يكن خادماً، بل إنساناً في المقام الأول، إنسان له مشاعر ورغبات وأحلام، له أسرة تنتظر عودته بفارغ الصبر، له قيمة بشرية لا تختلف عن أي إنسان آخر. لماذا احتوى هذا الخبر المؤسف على كلمة 'خادم'؟ ما الذي من الممكن أن يضيفه نوع الوظيفة إلى فداحة عملية الانتحار؟ لماذا يعتقد من صاغ ذلك الخبر أن كلمة 'إنسان' لا تؤدي الغرض؟ قد يكمن السبب في محاولة لفت انتباه القارئ إلى مشكلة تزايد عمليات الانتحار بين صفوف الخدم، لكن لا يبدو هذا السبب مقنعاً، فمكان النشر، كما أشرت منذ قليل، لا يوحي بأهمية الخبر! لست أجد سببا مقنعاً سوى أن كلمة 'خادم' تعكس القيمة الحقيقية لهذا الإنسان بالنسبة لنا، فهي كلمة تشير إلى مكانته الاجتماعية المتواضعة من جانب، وإلى قيمته الاقتصادية التافهة من جانب آخر، وهذا بالضبط ما يفسر عدم أهمية الخبر ونشره في ركن صغير في أسفل الصفحة!
تقلب الصفحة، فتقرأ خبراً آخر فيه تأكيد على 'ضرورة ربط المناهج الدراسية باحتياجات سوق العمل'! قد يبدو الخبر طبيعياً، لكن هل هو كذلك فعلاً؟ الأمر الطبيعي هو أن إعداد المناهج الدراسية مرتبط بعوامل تتعلق بمواكبة التراكم المعرفي للبشرية في اللحظة الراهنة، وترسيخ قواعد التفكير النقدي، وبث روح المسؤولية تجاه المجتمع، وتهذيب الإحساس بقيمة الإنسان ومكانته في هذا الكون. لكن عندما تكون 'لغة السوق' هي السائدة، فإن كل إنسان تصبح له قيمة محددة، أي مجرد رقم، وكلما زاد معدل التحصيل العلمي، زادت قيمة الإنسان المتعلم حسب سعر السوق. إذا كنت تحمل شهادة البكالوريوس، فإن قيمتك الاقتصادية أقل ممن يحمل شهادة الماجستير، وإذا كنت طموحاً بما فيه الكفاية وحصلت على شهادة الدكتوراه، فإنك ستجني ثمرة هذا الطموح على شكل زيادة في قيمة راتب آخر الشهر. إذا كان هذا هو واقع الحال، فهل من المنطقي أن نستغرب هذا التسابق المحموم في نيل الشهادات العلمية بأي طريقة وبأي ثمن؟
ربط المناهج الدراسية باحتياجات سوق العمل يعني أن السوق هو الذي يقرر نوعية الفروع العلمية الجديرة بالاهتمام، وإذا ثبت أن أحد التخصصات الدراسية غير مجدٍ اقتصادياً، فإن أرباب السوق لن يتورعوا عن المطالبة بإزالة هذا التخصص من المناهج الدراسية! لم تعد المعرفة مرتبطة بقيمة الإنسان من حيث هو إنسان، بل أصبحت مرتبطة فقط بالجدوى الاقتصادية لهذا الإنسان بوصفه مجرد سلعة في سوق العمل. لم تعد المعرفة غاية في ذاتها، بل مجرد وسيلة إلى صعود السلم الاجتماعي بأقصى سرعة! أصبح اختيار التخصص الدراسي مرتبطاً بالإثراء المادي وزيادة رصيد الحساب، بدلاً من الإثراء النفسي وزيادة رصيد المعرفة.
(يتبع)

ليست هناك تعليقات: