الجمعة، 31 يوليو 2009

البديل النمساوي

الفيزيائي الدنماركي الشهير 'نيلز بوهر'، الحاصل على جائزة 'نوبل' لإسهاماته الكبيرة في 'نظرية الكم'، قال مرة ممازحاً أحد أصدقائه: 'التنبؤ صعب جداً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمستقبل'! ربما تعذّر على الفيزيائيين من أمثال 'بوهر' التنبؤ بسرعة الإلكترون ومكانه في الوقت نفسه، لكن مشكلة التبنؤ لدى الاقتصاديين أصعب من ذلك بكثير، فالاقتصاد ينتمي إلى مجموعة من العلوم تعرف باسم 'العلوم الخاصة'، والسبب في خصوصية هذه العلوم يكمن في عدم قدرتها على صياغة قوانين علمية خالية من أي استثناء كما هي الحال عادة في علم الفيزياء، ولعل أبرز مثال على هذه الحقيقة هو استحالة العثور على قانون اقتصادي من دون أن يكون مقروناً بالمصطلح اللاتيني ceteris paribus، والذي يشير إلى صرف النظر عن بقية العوامل التي من شأنها تهديد صحة القانون!
لا أحد بالطبع يلوم الاقتصاديين على عدم مقدرتهم في العثور على قوانين ثابتة، فالمشكلة لا ترتبط بمهارة الاقتصاديين بقدر ارتباطها بطبيعة الميدان الذي اختاروا التخصص فيه، ومثلهم في ذلك مثل العلماء الآخرين في ميادين الطب والأحياء والجيولوجيا وغيرها من العلوم الخاصة، ولكن على الرغم من ذلك، فإن هناك من استطاع من الاقتصاديين وضع نظريات اقتصادية ذات قدرة تنبؤية فائقة، ولعل أبرز مثال في هذا الصدد هي نظرية العالم النمساوي 'لوفينغ فون مسيز' حول ميكانيكية الدورة الاقتصادية، فلقد استطاع هذا العالم الاستفادة من أبحاث الفيلسوف الاقتصادي الإسكتلندي 'ديفيد هيوم' والمفكر الاقتصادي الإنكليزي 'ديفيد ريكاردو'، ليضع بعد ذلك نظريته الخاصة حول الدورة الاقتصادية، ومن الممكن شرح هذه النظرية على النحو التالي:
في حال عدم وجود توسع في الائتمان المصرفي، يميل كلا من العرض والطلب إلى التوازن في ما بينهما من خلال النظام الحر للأسعار، وبالتالي لا يحدث توسع أو انكماش في دورة الاقتصاد، لكن تدّخل الحكومات بواسطة بنوكها المركزية يساهم في تحفيز التوسع الائتماني من خلال زيادة المطلوبات لدى البنوك المركزية، أي من خلال زيادة نسبة أموال احتياطي البنوك، ثم تقوم البنوك بعد ذلك بالتوسع بمنح القروض وزيادة كمية المعروض من النقود، وهذه العملية، كما لاحظ 'ريكاردو'، تؤدي لاحقا إلى زيادة الأسعار والتضخم. لكن 'ميسز' استطاع أن يرى ما لم يره 'ريكاردو' أو أي اقتصادي آخر، فقد لاحظ أن سر الدورة الاقتصادية مرتبط بعملية التوسع في الائتمان، وهو توسع ناتج عن خفض مصطنع لسعر الفائدة إلى ما دون السعر الحقيقي حسب اقتصاد السوق الحرة.
في سوق اقتصادي حر وبعيد عن تدخل البنوك المركزية، تكون قيمة سعر الفائدة مرتبطة بمدى ميل الناس إلى الادخار أو الاستهلاك، فكلما زادت نسبة ادخار الناس لأموالهم، تضاءل سعر الفائدة، والعكس صحيح، لكن عندما تقوم البنوك المركزية بتخفيض سعر الفائدة بشكل مصطنع لا يعكس المستوى الحقيقي لنسبة ادخار الناس لأموالهم، فإن المحصلة هي قيام المستثمرين بالاقتراض والاستثمار في السلع الرأسمالية (مثل المصانع والآلات وغيرها، فجميعها سلع رأسمالية لأنها تستخدم لإنتاج سلع أخرى)، ظناً منهم أن الناس لديها من الأموال المدخرة ما يكفي لشراء كل السلع الجديدة الناتجة عن الاستثمار في السلع الرأسمالية، والنتيجة هي سقوط هؤلاء المستثمرين ضحايا التخفيض المصطنع لسعر الفائدة!
لقد حّذر 'ميسز' وبقية أتباع المدرسة النمساوية من خطورة النظام المصرفي بشكله الحالي، فعلى عاتق هذا النظام تقع مسؤولية هذه الدورة الكارثية للاقتصاد! لكن أتباع هذه المدرسة لم يكتفوا بالتحذير، بل قاموا بتقديم البديل، ومن الممكن تلخيص أهم النقاط في هذا المشروع البديل على النحو التالي:
أولاً، العودة إلى قاعدة الذهب التي تسمح بتحويل العملات الورقية إلى ذهب عند سعر ثابت، إذ إن من أهم مزايا ربط العملات الورقية بالذهب هي استحالة تناقص كمية المعروض من النقود، وبالتالي القضاء على الدورة الاقتصادية التي تنتهي عادة بانكماش الاقتصاد وانخفاض حاد في المستوى العام للأسعار.
ثانياً، إلغاء البنوك المركزية وتأسيس نظام مصرفي قائم على المنافسة الحرة بين البنوك، ذلك أن وجود بنك مركزي بصفته الملاذ الأخير لإقراض البنوك المعرضة للإفلاس يشجع هذه البنوك على الاستهتار والمغامرة، كما أن وجود بنك مركزي يتيح للبنوك حرية التضخم بشكل متناغم (كما رأينا في مقال سابق)، لكن عندما يتم إلغاء البنوك المركزية، فإن قدرة كل بنك على التضخم ستكون محدودة بعدد عملاء البنك، فكلما زاد عدد البنوك في أي دولة، تضاءل عدد العملاء لدى كل بنك، وفي هذه الحالة سيتعين على كل بنك الاحتفاظ بجزء كبير من أموال الإيداع تحسّباً لمطالبة البنوك الأخرى بهذه الأموال، والمحصلة النهائية هي عدم قدرة أي بنك على التضخم من دون التعرض إلى الإفلاس!
ثالثاً، إجبار البنوك على الاحتفاظ بأموال الإيداع بنسبة مئة في المئة، أي عدم السماح للبنوك في تقديم القروض من أموال المودعين، لكن ينبغي الاعتراف بصعوبة إجبار البنوك على هذا الأمر نظراً لقدرتها الفائقة على تجديد أشكال الائتمان والسيولة، وعلى الرغم من ذلك، فإن إتاحة الفرصة للبنوك في التنافس من دون وجود بنك مركزي سيساهم حتما في ارتفاع نسبة الاحتفاظ بأموال الإيداع لدى كل بنك كما ذكرنا سابقا.
مراجع:
استعنت بقائمة من المراجع الأجنبية في كتابة هذه السلسلة من المقالات حول قصة المال والنظام المصرفي، ونظراً لطول القائمة، سأكتفي بتقييد أهم المراجع، ولمن أراد الحصول على قائمة المراجع كاملة، فبوسعه أن يبعث لي برسالة على بريدي الالكتروني، وسأقوم بإرسالها إليه.
1 - كتاب The Mystery of Banking، للمؤرخ الاقتصادي الأميركي 'موري روثبارد'، 1983.
2 - كتاب What Has Government Done To Our Money?، للكاتب نفسه في (1)، 1963.
3 - كتاب Human Action، للمفكر الاقتصادي النمساوي 'لودفينغ فون ميسز'، 1949.
4 - كتاب Principles of Macroeconomics، للاقتصادي الأميركي 'نيكولاس غريغوري مانكيو'، 1999.

ليست هناك تعليقات: