الأربعاء، 29 يوليو 2009

التحقيق في جريمة ضد العقل


«مشكلة هذا العالم هي أن الغبي واثق جداً من نفسه، والذكي يملأ عقله الشك»...
برتراند رسل
قبل عامين تقريباً، قررت مجموعة من الشباب الكويتي الواعي إجراء تجربة للتدليل على حجم التخلف الفكري المذهل في عالمنا الإسلامي، فقاموا باختلاق قصة مزيفة تحت عنوان «معجزة إلهية تحير العلماء في أميركا»، والقصة باختصار هي أن مجموعة من علماء الطبيعة عثروا على نوع من النباتات الاستوائية تصدر ذبذبات فوق صوتية، فحاروا في معرفة السبب وراء هذه الظاهرة، وكان من بينهم عالم بريطاني مسلم من أصل هندي، فوقف ليجيب بكل ثقة: «نحن المسلمون لدينا تفسير لهذه الظاهرة»، وأشار إلى الآية القرآنية التي تشير إلى تسبيح كل المخلوقات بحمد الخالق، ثم تنتهي القصة على الطريقة التراثية السطحية، حيث يقف علماء الطبيعة مندهشين لما سمعوه، ومعلنين دخولهم الإسلام!
على الرغم من مرور أكثر من عامين على ولادتها، مازالت هذه القصة المزيفة تنتشر انتشار النار في الهشيم، فقد وصل عدد صفحات شبكة الإنترنت التي قامت بنشرها حتى هذه اللحظة إلى أكثر من 33 ألف صفحة (بما يعادل 665 موقعاً إلكترونياً حسب إحصائية محرك Google)، ومن بينها صحف ومجلات مطبوعة محلياً وعربياً! هذا يعني أن عشرات الألوف من البشر، على أقل تقدير، «اشتروا القصة» كما يقول الإنكليز، أي أنهم قاموا بتصديقها من دون أن تتحرك خلية دماغية واحدة في رؤوسهم احتجاجاً على إهانة العقل بهذه الطريقة المعيبة!
لست أنقل هذه الحادثة من باب التندر بسذاجة البسطاء والمغفلين، كما أني أرفض الدخول في حفلة جلد الذات والتباكي على ماض ٍلا يقل زيفاً عن تلك القصة المفبركة، إنما أريد فقط أن أفتح تحقيقاً بشأن هذا الموضوع، ليس بهدف الكشف عن هوية مَن نشر القصة، بل بغرض الكشف على عقول مَن صدّقوا القصة، ذلك أن العلة لا تكمن في ذكاء القاص، إنما في غباء «المقصوص عليه»! لنبدأ، إذاً، على بركة العقل في فتح باب التحقيق في هذه الحادثة المؤسفة والمخزية في آن واحد!
من الواضح أن العاطفة الدينية على علاقة مباشرة بسهولة انتشار القصة وتصديقها، فلو استبدلنا مكان العالم البريطاني المسلم عالماً يهودياً، مثلاً، واستبدلنا الآية القرآنية بنص من التوراة، لما اكترث أحد من المسلمين حتى في قراءة القصة، فضلاً عن تصديقها أو نشرها! هناك، إذاً، عامل مهم يقف وراء انتشار القصة، وهو عامل يتعلق بالتقييم غير الموضوعي في الحكم على الأمور، فبدلا من إقصاء العاطفة الدينية المنحازة والتزام الحياد العقلي في تقييم القصة ومدى صحتها، تم استبعاد العقل والاستسلام لقصة تدغدغ المشاعر الدينية! صحيح أن ناشر القصة قام بخداع الآخرين، لكنه خداع لم يكن ليُكتب له النجاح لولا أنْ خدع الآخرون أنفسهم من خلال الميل إلى العاطفة وإقصاء العقل!
وردت في القصة المفبركة إشارة إلى اسم مجلة علمية أجنبية، ومع ذلك لم يكلّف أحد نفسه مهمة التحقق من هذا المصدر، مما يعني أن الحكم على صحة القصة لم يستند إلى أبسط معيار، وهو معيار التحقق من المعلومة قبل تصديقها أو رفضها! صحيح أن قصة بهذا المستوى الفكري المتواضع لا تستحق من الإنسان الواعي عناء البحث والتقصي لمعرفة مدى تفاهتها واستحالة وقوعها، لكن لا ننسى أن القصة لم تكن تستهدف الأقلية الواعية، بل استهدفت الأغلبية الجاهلة، ولا ننسى أيضاً أن إثبات وجود مثل هذه الأغلبية في العالمين العربي والإسلامي هو الغرض الأساسي من هذه القصة، ولهذا السبب تحديداً يستحق مَن اختلق القصة الدرجة الكاملة، ذلك أن هناك فرقاً كبيراً بين الاكتفاء بوصم الآخرين بالجهل وتقديم الدليل القاطع على جهلهم! قد يعترض القارئ ليقول إن من صدّقوا القصة لا يمثلون الأغلبية الفعلية في العالمين العربي والإسلامي، ففي نهاية المطاف لم يتمكّن الجميع من الاطلاع على القصة! أتفق تماماً مع اعتراض القارئ، لكن لاحظ أننا سبق أن أكدنا دور العاطفة الدينية في تصديق القصة وانتشارها، وبما أن هذه العاطفة تحظى بمكانة مرموقة من المحيط إلى الخليج، فإن وجود أغلبية فعلية غير معترضة على صحة القصة يصبح أمراً وارداً!
لا أريد أن أقفل باب التحقيق في هذا الموضوع من دون الإشارة بوضوح إلى السبب الأولي في انتشار مثل هذه الخرافة وتصديق الكثيرين لها، وهو سبب يشير بشكل مباشر إلى غياب التفكير النقدي، فمن يميل إلى دوافعه الذاتية على حساب قدراته العقلية، ومن يقطع بصحة معلومة قبل التحقق من صحتها، لا يمكن له أن يفكر بطريقة نقدية! لا أريد أن أكون سلبياً من خلال الاكتفاء بتشخيص العلة من دون تقديم العلاج، وهذا ما سأحاول القيام به في المقالات المقبلة من خلال التركيز على موضوع التفكير النقدي.

ليست هناك تعليقات: