الجمعة، 31 يوليو 2009

قصة المال

ما هو «المال»؟ قد يبدو السؤال سهلاً للغاية، إذ يكفي أن أشير إلى ما في محفظتي من دنانير كي أجيب عن هذا السؤال، لكن ماذا عن رصيدي البنكي الذي أشاهده الآن أمامي على شاشة الكمبيوتر، هل أعتبر هذا الرقم الإلكتروني مالاً أيضا؟ ماذا عن بطاقة الائتمان؟ ماذا عن الشيكات المصرفية؟ ماذا عن الأسهم في البورصة؟ بمعنى آخر، ما هو المعيار الذي نحدد من خلاله قائمة الأشياء التي من الممكن إدراجها ضمن تعريف «المال»؟ أي محاولة جادة لفهم النظام المصرفي لابد أن تبدأ من خلال التعرف على ظروف اكتشاف إحدى أهم الأفكار في تاريخ البشرية، وهي فكرة «المال».
كان نظام المقايضة هو السائد قبل أن يكتشف الإنسان فكرة «المال»، أي أن عملية الشراء أو البيع كانت تتم عن طريق استبدال سلعة بسلعة أخرى، وللقارئ أن يتخيل مدى قصور هذا النظام البدائي في تلبية رغبات الناس، ذلك أنه نظام يشترط أن تكون رغبات الناس منسجمة مع نوعية الإنتاج. لتوضيح هذه النقطة، دعنا ننظر إلى المثال التالي: لنفترض وجود فلاّح يستمد مصدر رزقه من إنتاج القمح، ولنفترض أن هذا الفلّاح يرغب في الحصول على السمك، في هذه الحالة كان لابد له من أن يبحث عن صياد سمك لاستبدال القمح بالسمك، لكن ماذا لو كان صياد السمك لا يرغب في الحصول على القمح، بل يريد بدلاً من ذلك جرّة من العسل؟ في هذه الحالة، كان لابد للفلاح من أن يبحث عن شخص ينتج العسل كي يستبدل القمح بالعسل أولا، ثم يرجع من جديد إلى صياد السمك كي يستبدل العسل بالسمك! لكن لاحظ أن الفلّاح لم يقم باقتناء العسل إلا كي يحصل بواسطته على شيء آخر، وهنا تحديدا تكمن البذرة الأولى لمفهوم «المال»، فالمال هو عبارة عن سلعة تسمح لمن يقتنيها بالحصول على أي سلعة أخرى! من هنا نستنتج أن فكرة «المال» كانت وليدة قصور واضح في نظام المقايضة.
مع مرور الزمن، اكتسبت بعض السلع قيمة خاصة بالقياس إلى بقية السلع، ولهذا السبب تم اختيارها لتقوم بوظيفة المال، أي بوصفها سلعة تعارف الناس على استخدامها كوسيلة للتبادل التجاري، ففي إفريقيا، مثلاً، كان الحديد هو السلعة التي تتم بواسطتها كل التبادلات التجارية، وفي قارة أميركا كانت قبائل الهنود الحمر تستخدم بعض أنواع الجلود الفاخرة، وفي بعض أقاليم آسيا كان النحاس هو السلعة التي تقوم بوظيفة المال، لكن سرعان ما اكتسب الذهب قيمة خاصة بوصفه الوسيلة المعتمدة من قبل أغلب شعوب الأرض للقيام بكل أنواع التبادل التجاري، وهناك أسباب منطقية لاختيار الذهب، منها أن الذهب مرغوب لذاته، ونادر، وقابل للنقل بسهولة، وقابل للتجزئة أيضا.
مع بدايات القرن السادس عشر، اعتاد الناس في أوروبا على حفظ أموالهم من الذهب في مستودعات يقوم بإدارتها مجموعة من صائغي الذهب، وأما عملية الإيداع فكانت تتم على النحو التالي: يأتي الشخص بأمواله من الذهب ليودعها عند صائغ الذهب، ثم يقدم له هذا الأخير ورقة على شكل «إيصال إيداع» بقيمة الذهب الذي تم إيداعه، وللشخص الحق في استرجاع الذهب في أي وقت يشاء، وأما صائغ الذهب فيتلقى أجرة بسيطة نظير محافظته على أموال الناس.
مع مرور الوقت، بدأ الناس في استخدام إيصالات الإيداع مباشرة في تعاملاتهم التجارية، فبدلا من الذهاب إلى صائغي الذهب لاستعادة أموالهم قبل كل عملية شراء، كان من الأسهل استخدام إيصال الإيداع مباشرة لقضاء حاجاتهم اليومية، ومن هنا تحديداً ولدت فكرة استخدام «الورقة النقدية»، فهي ليست سوى إيصال إيداع يسمح لحامله أن يسترجع أمواله من الذهب عند صائغي الذهب.
بعد أن اعتاد الناس على استخدام ايصال الإيداع في تعاملاتهم التجارية، لاحظ صائغو الذهب أن أغلب الناس لا يأتون إلى المستودع لاسترجاع الذهب إلا بعد مرور مدة طويلة، لذا فقد بادر صائغو الذهب في استصدار أعداد إضافية من إيصالات الإيداع وتقديمها على شكل قروض، وهذه بلا شك عملية احتيال صريحة، فهي تعني أن عدد إيصالات الإيداع في أيدي الناس أكبر من حجم أموالهم من الذهب في مستودعات صائغي الذهب! لكن أليست هذه هي وظيفة البنوك في ظل النظام المصرفي الحالي؟ أليس صحيحا أن حجم القروض التي تقدمها كل البنوك أكبر بكثير من حجم الأموال الحقيقية التي يقوم الناس بإيداعها في هذه البنوك؟ ما الفرق بين صائغ ذهب يقوم باستصدار عدد من إيصالات الإيداع يفوق بكثير ما في عهدته من ذهب، وبين بنك يقوم بتقديم قروض تفوق بكثير ما في عهدته من أموال الناس؟ القصة طويلة، لكننا سنكمل في المقال القادم!

ليست هناك تعليقات: