الجمعة، 31 يوليو 2009

حديث حول القمر

من أشهر الصور في تاريخ الفوتوغرافيا تلك التي تم التقاطها قبل أربعين عاماً، ويبدو فيها أثر قدم أحد رواد الفضاء على سطح القمر، لكن الجدير بالذكر هو أن أثر تلك القدم مازال موجوداً على سطح القمر، وسيبقى في مكانه ملايين السنين، فمن المعروف أن القمر ليس له غلاف جوي، ولا يوجد على سطحه ماء، ولم يعد يحتوي على براكين نشيطة، مما يعني أن فرصة بقاء أثر قدم الإنسان على سطح القمر كبيرة جداً، ومن يدري؟ لعل بقاء أثر أقدام الإنسان على سطح القمر سيكون أطول من بقاء الإنسان نفسه على سطح الأرض، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار نزعة التدمير الذاتي لدى الإنسان وميله الغريزي إلى الحروب والدمار والعدم!

الفضاء هو المكان الذي يقطن فيه جيران كوكب الأرض، والقمر هو أقرب جيراننا، لكنه جار خرج من رحم الأرض، فهناك شبه إجماع بين علماء الفضاء على كيفية نشوء القمر، ويمكن تلخيص نظرية نشوء القمر بشكل مبسّط على النحو التالي: قبل أربعة مليارات سنة تقريباً، اصطدم كوكب الأرض بجسم آخر يوازي في حجمه حجم كوكب المريخ، وأدى الاصطدام إلى فقدان الأرض لجزيء كبير من جلدها الصخري، ثم تلاحمت في ما بعد الصخور المتطايرة لتدور في فلك الأرض على شكل جسم دائري، وهذا الجسم الدائري هو القمر! إذا صحّت النظرية (وهناك أدلة علمية على صحتها، لكن لا مجال لذكرها الآن)، فإن هذا يعني أن رحلة 'أرمسترونج' ورفاقه إلى سطح القمر لم تتجاوز سطح الأرض بالمعنى الحرفي، فهي ليست سوى زيارة للفرع الذي انشق قبل مليارات السنين عن الأصل.

ارتبط القمر بثقافات الشعوب على مر العصور، فالقمر هو نديم العشاق في أشعار المحبين، ولعلي أستثني من ذلك الشاعر الأرجنتيني ليوبولدو لوغونس، الذي سخر من صورة القمر ومن هيام العشاق في كتابه الشعري Lunario Sentimental، المنشور في عام 1909، ولكنه نجح مع ذلك في وصف سطح القمر في أشعاره بطريقة لا تختلف كثيرا عما شاهده 'أرمسترونج' ورفاقه قبل أربعين سنة! من ناحية أخرى، ساعد دوران القمر المنتظم حول الأرض في تمكين الإنسان من وضع التقويم القمري، فالقمر يستغرق 27 يوماً و7 ساعات و20 دقيقة كي يكمل دورة واحدة حول الأرض، لكن الأرض أيضا تدور في فلكها حول الشمس، مما يعني وجوب إضافة فارق الوقت الذي يسمح للقمر في الرجوع من جديد إلى نقطة البداية، لذا فإن التقويم القمري يحتوي على 29 يوماً و12 ساعة تقريباً! لكن في المقابل، الأرض تكمل دورة كاملة حول الشمس في حوالي 365 يوماً، لذا فإن الفارق بين التقويم القمري والتقويم الشمسي يساوي 11 يوماً، ولهذا السبب يأتي شهر رمضان في كل عام متقدماً عن السنة السابقة بحوالي 10 إلى 11 يوماً.

في الجزيرة العربية، وقبل مجيء الإسلام بمئات السنين، كان العرب يتبعون التقويم القمري في شؤونهم اليومية، لكن التقويم القمري كما لاحظنا لا يتصف بالثبات، ونظرا لأهمية الأشهر الحرم في رواج التجارة وتأمين سير القوافل، إذ تتوقف في تلك الأشهر كل أشكال العنف من ثأر وحرب ونهب، برزت الحاجة إلى اعتماد التقويم الشمسي بدلا من التقويم القمري، فهذه هي الطريقة المثلى لضمان تزامن الأشهر الحرم مع فترة جني المحاصيل وتحسن الطقس وسهولة الترحال من مكة وإليها. حدث هذا الانتقال إلى التقويم الشمسي قبل 200 عام فقط من مجيء الإسلام، وهو انتقال تطلّب معرفة حسابية بقوانين الفلك، وهذه كانت وظيفة 'القلمس'، التي اشتهر بها بنو كنانة، لكن مع مجيء الإسلام، ونزول 'إنما النسيء زيادة في الكفر'، إلى آخر الآية 37 من 'سورة التوبة'، تم منع التقيد بالتقويم الشمسي والعودة من جديد إلى التقويم القمري، وتشترك أغلب كتب التفسير في التأكيد على أن سبب المنع يعود إلى ميل القبائل العربية إلى التحكم بموعد حلول الأشهر الحرم بما يتناسب مع رغبتها في الاقتتال! لكن هناك تفسير آخر، وهو أن سبب المنع يكمن في محاولة التقليل من أهمية 'القلمس' ومكانته الروحية، والحد من الاحترام الكبير الذي كان يحظى به، أي أن السبب سياسي صرف (انظر في هذا الصدد كتاب A History of Astronomy، للمؤرخ الهولندي Pannekoek، صفحة 27).

هناك اعتقاد يشير إلى تأثير حركة القمر على قدرات الإنسان العقلية والنفسية، ومازالت هناك بقايا لهذا الاعتقاد في بعض اللغات، فكلمة Lunatic تعني بالإنكليزية 'مجنون' أو 'طائش'، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Luna، وتعني 'القمر'. لكن العلاقة بين القمر والأرض تتجاوز مجرد التأثير على معتقدات الشعوب وثقافاتهم، فمن المعروف أيضا أن قوة جذب القمر للأرض هي المسؤولة عن حركتي المد والجزر من جانب، وعن الشكل البيضاوي للأرض من جانب آخر! بالمقابل، الأرض تمارس قوة جذب باتجاه القمر، وقد ساهمت قوة الجذب هذه في تساوي دورة القمر حول نفسه مع دورته حول الأرض، ولهذا السبب تحديداً لا يمكننا أن نشاهد أبداً الوجه الآخر للقمر! يقول العلماء إن الأرض ستلقى المصير نفسه، فبعد مليارات السنين منذ الآن، سيساهم القمر في تقليل سرعة دوران الأرض بحيث تكون الدورة المحورية (دوران الأرض حول نفسها) مساوية للدورة المدارية (دوران الأرض حول الشمس)، مما يعني أن جانباً واحداً من الأرض سيكون مقابلا للقمر على الدوام، في حين لا يرى مَن يعيش في الجانب الآخر من الأرض صورة القمر أبداً! إذا كنت تعيش في الجانب الذي يسمح لك في مشاهدة القمر، فستلاحظ أن القمر يبدو ثابتاً في السماء من دون حراك (انظر كتاب The Universe، لمؤلفه John Scalzi).

أخيرا، إذا كان القمر سيبدو ثابتاً في السماء بعد مليارات السنين، وإذا افترضنا (من ضمن افتراضات أخرى) بقاء فصيلة الإنسان على سطح الأرض إلى ذلك الحين، فإن ما سوف يترتّب على ذلك هو أن الأجيال القادمة من المفسرين وطلاّب العلم الديني سيجدون أنفسهم مرغمين على إعادة تفسير الآية المتعلقة بمنازل القمر.

ليست هناك تعليقات: