الجمعة، 31 يوليو 2009

صفحات من دفتر الذاكرة 4

القافلة تسير ببطء. الصحراء المريضة تئن من زناجير الآليات المدرعة. تتحرك دبابة على يسار الطريق فتثير زوبعة ترابية من خلفها، هناك بعيدا في الأفق، يزحف رتل عسكري فتثور عاصفة: لن تتعافى هذه الصحراء بسهولة! شمس شهر مارس الدافئة تغري بالخروج، لكن لا أثر لأي حيوان، عدا الإنسان!
«بو علي» مازال ناعسا. بماذا يحلم يا ترى؟ أحلم بالنيابة عنه:
نحن في نزهة. الصحراء انقلبت روضة خضراء. الأزهار في كل مكان. الحيوانات كلها تخرج من جحورها... ترقص، تغني! الجنود ليسوا جنودا، بل مجرد ممثلين... ممثلين بأقنعة في حفلة تنكرية! بو علي يحتج، فهو لا يستطيع أن يدخل إلى حفلة تنكرية من دون قناع! الدبابات عربات لتوزيع المرطبات، والصواريخ ألعاب نارية، والطائرات طيور تزيّن صفحة السماء! المطر يتوقف، قوس قزح يمتد طويلا كجسر من الألوان الزاهية... جسر بين الشرق والغرب! الكل هناك، الإنسانية جمعاء، كلنا على الجسر، نضحك، نغني، نتعانق! ما الحياة سوى طاقة ترقص!
«بو علي» يفيق من نومه. يبدو أن الشمس محرقة من خلف الزجاج ، أو أن الحُلم لم يعجبه! انحرفت القافلة عن الشارع الرئيسي و شقّت طريقها في الصحراء. بوابة المعسكر البريطاني عبارة عن برميلين وجنديين يقفان في الواجهة. دخلنا المعسكر. الخيام مرصوصة بطريقة تبعث على الإعجاب: تنظيم لا يليق إلا بعقلية عسكرية! لافتة من خشب رُكزت على يسار الطريق الترابية: Command Centre 450 yd
الآليات العسكرية لا حصر لها، والأكياس المملوءة بالتراب تشير إلى مواقع الخنادق. دورات المياة أشبه بكبائن الهاتف. لا أثر للقاذورات: مخيّم مثالي!
توقفنا أمام خيمة ضخمة، لها باب في كل زاوية، وفوقها علم بألوان فاتحة. حمل كلٌ منا حقيبته وسار في اتجاه الخيمة. أرضية الخيمة مفروشة بالحصير وبعض قطع السجاد. الكراسي مبعثرة، وأما الطاولات فمرصوصة بطريقة منظمة. جلس بعضنا، وظل البعض الآخر واقفا. عدد الجنود في الخيمة يفوق عدد المترجمين. قدموا لنا الفطائر والبسكويت مع المرطبات. تناولت حصتي من الطعام وخرجت.
الشمس الوديعة تتناوش الأفق: يا لجمال اللوحة! الإنسان كائن عجيب، عندما يشعر أن حياته في خطر، يستيقظ فيه فجأة الإحساس بالأشياء الجميلة من حوله! أعترف أني أفضّل الشروق على الغروب ألف مرّة، لكن جمال غروب الشمس في هذا اليوم بالذات لا يقاوم! الحنين لما مضى، هذا سر جمالها... هذا ما توقظه في داخلي هذه الساحرة عندما تطبع قبلة على جبين الأفق! مرآة عملاقة، على سطحها أرى وجوها أعرفها وأماكن زرتها: عائلتي هناك، بيتنا، مسجد الحي، الجيران، مدرستي، صديقي «سعود» بأحاديثه الجادة المملة ونكاته الممتعة، جبال الألب الإيطالية، رحلة الدراجات في «كامبردج»، غفوة الظهيرة في كنيسة «نوتردام»، مقاهي «باريس»، قرع الأجراس والأمنية في معبد «كيوتو»، مدينة «سلمنكا» الرمادية، جامعتي وميدان «أنايا»! لحظة، أرجوكِ، لا تغربي، مازال لدي الكثير من الذكريات! حلّ الظلام.
أضواء المخيم تعاند الطبيعة! عندما رجعت إلى الخيمة، شاهدت جميع المترجمين مصطفّين في طابور طويل. انضممت إليهم. في أول الطابور يقف جنديان، أحدهما يقوم بالقياس، والآخر يدوّن الأرقام على ورقة. يستلم كل مترجم الورقة الخاصة به، ثم يتجه إلى ركن آخر من الخيمة لاستلام الملابس العسكرية: زوج من القمصان والبناطيل، وخوذة، وسترة واقية من الرصاص، و زوج من الأحذية، وآخر من الجوارب، وحقيبة، وأخيرا... كمّام الغاز! بادر أكثر المترجمين حماسا إلى ارتداء الملابس العسكرية على الفور، لكن الأغلبية آثرت التريث قليلا. الاستثناء الوحيد كان «بو علي»، فقد بدا مشغولا بفحص كمّام الغاز!

ليست هناك تعليقات: