الجمعة، 31 يوليو 2009

مادوف والبنوك


منذ أن انكشف النقاب عن فضيحة المحتال الكبير «مادوف» في شهر ديسمبر الماضي، وهي فضيحة انتهت به إلى السجن لمدة 150 عاما، كما تسببت أيضا في خسارة بعض الضحايا لأرواحهم فضلا عن أموالهم، أقول منذ تلك الفضيحة وأنا أقلّب في رأسي سؤالا لا يمكن وصفه بأنه سؤال بريء: مالفرق بين ما قام به «مادوف» وما تقوم به البنوك؟ دعنا نستعرض أولاً أوجه الشبه بين الحالتين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى أوجه الاختلاف.
أولاً، هناك عامل الثقة، فمن المعروف أن «مادوف» استطاع أن يبني سمعة جيدة طوال عقود من الزمن، وأتاحت له هذه السمعة أن ينال ثقة بعض المستثمرين الذين لم يترددوا في إيداع أموالهم لديه. بالمثل، لايستطيع أي بنك أن يعمل من دون ثقة العملاء، وتاريخ النظام المصرفي يشير إلى أن فكرة نشوء البنوك لم تكن لتنجح لولا ثقة الناس بصائغي الذهب أو goldsmiths (وهي ثقة لم تكن في محلها كما سنرى في مقالات لاحقة!). ثانيا، هناك تشابه من حيث طريقة التصرف بأموال الإيداع، فمثلما كان «مادوف» يستخدم أموال المستثمرين الجدد لتسديد عوائد المستثمرين القدامى ومستحقاتهم، تستخدم البنوك أيضا ودائع العملاء لتوفير السيولة لأي عميل آخر يرغب في الاقتراض! النقطة الثالثة هي نتيجة منطقية للنقطة السابقة، وهي أن «مادوف» سيكون معرّضا للإفلاس الفوري في حال طالب كل المستثمرين باسترجاع أموالهم في نفس اللحظة، وهذا ما يحدث عادة في زمن الأزمات الاقتصادية، حيث يخشى الناس على أموالهم من الضياع فيسارعون إلى المطالبة بودائعهم، وهي الحالة التي يسميها أهل الاقتصاد بـ bank run. بالمثل، البنوك تعمل بنطام Fractional Reserve Banking، أي أن حجم المال الحقيقي في عهدة البنوك أقل بكثير من حجم القروض الممنوحة، مما يعني أن شبح الإفلاس ملازم لأي بنك مالي في العالم!
ماذا عن أوجه الاختلاف بين «مادوف» والبنوك؟ الاختلاف الأول هو أن القانون لا يحمي «مادوف»، بينما تحظى البنوك بمباركة كل التشريعات العالمية! الاختلاف الآخر هو أن إفلاس «مادوف» يؤدي به إلى السجن مدى الحياة، بينما إفلاس البنوك يستدعي تدّخل الدولة والبنك المركزي تحت ذريعة «ضمان الودائع»، مع أن ضمان الودائع هو مسؤولية البنوك في المقام الأول، وهي مسؤولية لا يمكن لأي بنك أن يلتزم بها في ظل النظام المصرفي الحالي!
الاقتصاديون المنتمون لما يعرف باسم «المدرسة النمساوية» كانوا أوّل من حذّر من خطورة النظام المصرفي الذي يستبيح ودائع العملاء، ويخلق المال من لاشيء، ويزيد التضخم وزيادة الأسعار، ويسمح للبنك المركزي في لعب دور «المايسترو» عن طريق التحكم في سعر الفائدة والسماح للبنوك بالتضخم بشكل متناغم مع بعضها البعض! من المضحك أن يتفاخر بعض المواطنين البسطاء بحقيقة أن حكومة دولة الكويت لا تفرض الضرائب، ولكن ما فات على هؤلاء المواطنين هو أن التضخم ضريبة غير مباشرة، فعندما تمارس البنوك هواية التوسع في حجم القروض تحت إشراف البنك المركزي، يزداد المعروض من حجم الأموال المتداولة، وبالتالي تقل القوة الشرائية للدينار (أي تزداد الأسعار)، لذا فإن المواطن البسيط ذي الدخل الثابت يشعر أكثر من غيره بأن راتبه الشهري سريع التبخر! هذا بالضبط ما حدث في السنوات الماضية، خصوصا عندما قام البنك المركزي بربط الدينار بالدولار لمدة أربع سنوات كاملة، ثم عاد البنك المركزي من جديد ليصحح الخطأ على استحياء وبطريقة جزئية، فالكل حريص على عدم إثارة غضب العم «سام»!
قصة النظام المصرفي طويلة، لكن من واجبنا جميعا أن نسمعها، فمن خلالها سنتعرف على حقائق كثيرة، وسأحاول قدر استطاعتي أن أحكي هذه القصة في المقالات القادمة مستعينا بما لدي من مراجع.
عندما أقرأ، أكافح جهلي، وعندما أكتب، أكافح جهل الآخرين!

ليست هناك تعليقات: