الجمعة، 31 يوليو 2009

غزة ولغة القوة

في الصيف الماضي، عندما اجتاحت القوات الروسية الأراضي الجورجية، أدرك الشعب الجورجي أن الاستنجاد بأوروبا وحلفائها في مواجهة الاحتلال الروسي لن يجدي نفعا، وأن منطق القوة مازال يشكل العامل الرئيسي في تحديد شكل العلاقات الدولية، فإنسان القرن الحادي والعشرين لا يختلف كثيرا عن الإنسان البدائي، إذ مازالت لغة العضلات هي السائدة، ورغم أكثر من ألفي سنة من تراكم المعرفة العلمية والحضارة الإنسانية، مازلنا نصنّف قوة كل دولة حسب حجم ترسانتها العسكرية.
لا أحد يفهم معنى الدرس الجورجي أكثر من الشعب الفلسطيني في غزة، ففي ظل لامبالاة المجتمع الدولي بحجم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، ستذهب صرخات الاستنجاد أدراج الرياح، وسيستمر شبح الموت بحصد العشرات من الأرواح يوميا على مرأى ومسمع العالم أجمع، ففي زمن القوة يحق للضعيف أن يئن بعد أن يتجرع مرارة الذل والهوان، لكن لا يحق له أن يتفادى النزعة السادية لجبروت البطش والقوة! حلبات المصارعة في روما القديمة مازالت تشكل مادة للتسلية، فبينما تنقل وسائل الإعلام حجم الدمار في غزة، يكتفي الإنسان الغربي بالمشاهدة وهز كتفيه، فبالرغم من قرب عصر التنوير الأوروبي زمنيا، فإن الجذور الرومانية للإنسان الغربي مازالت هي الطاغية!
تاريخ الحروب يكشف لنا عن حقيقة ثابتة، وهي أنه في كل نزاع مسلح بين طرفين غير متكافئين من حيث القوة، يختار الطرف القوي نقطة زمنية يبرر من خلالها استخدامه للقوة، فإسرائيل تدعي أن صواريخ «حماس» هي نقطة البداية لهذا النزاع، لكن الحقيقة تشير إلى أن نقطة البداية هي يناير من عام 2006، أي بعد الفوز الساحق لـ«حماس» في الانتخابات التشريعية، والذي أدى إلى فرض الحصار على غزة ومعاقبة أهلها على خيارهم «الخاطئ»! إذا كان خيار أهل غزة «خاطئا، فإن إسرائيل ذاتها هي المسؤولة عن تهيئة الظروف التي أدت إلى هذا الخيار، فإسرائيل هي من منحت الإذن الخطي للشيخ «أحمد ياسين» بجمع التبرعات الخارجية لمساعدة الفلسطينيين في الداخل، وإسرائيل هي من سجنت الشيخ لتجعل منه بطلاً قومياً، وإسرائيل هي من سمحت بتراكم قوة «حماس» في قطاع غزة لإضعاف السلطة المركزية للسلطة الفلسطينية، وإسرائيل هي من غضت الطرف عن التمويل الخارجي لـ«حماس» واستخدام قادة الحركة لهذا التمويل في بسط سيطرتها على قطاع غزة من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي لأهالي غزة. إذا كان الخيار الانتخابي لأهل غزة خاطئا، فإن السبب في ذلك يعود في الأساس إلى قصر نظر الإدارتين الإسرائيلية والأميركية!
لم تكتف إسرائيل بفرض الحصار الجائر على غزة، بل سعت أيضا إلى اتخاذ سياسة مضادة لسياستها القديمة، وذلك عن طريق تقديم الدعم المادي والعسكري واللوجستي إلى أنصار «فتح» للقضاء على حركة «حماس»، ورغم الأحداث الدموية بين الحركتين، فشلت هذه السياسة في كسر شوكة «حماس»، ولكنها نجحت مع ذلك في عزل غزة والاستفراد بها! إن الشروط التي أملتها إسرائيل على حركة «حماس» لفك الحصار تدل على حجم النفاق الإسرائيلي-الأميركي، فـ«حماس» مطالبة بالاعتراف بإسرائيل بينما إسرائيل لا تعترف بفلسطين، و«حماس» مطالبة بنبذ العنف بينما إسرائيل لم ولن تنبذ العنف، و«حماس» مطالبة بتطبيق الاتفاقات الدولية بينما إسرائيل كانت ومازالت تنتهك الاتفاقات الدولية، خصوصا ما يسمى بـ«خارطة الطريق»!
الحرب على غزة كشفت عن لغة العنف السائدة، وعن لامبالاة الإنسان بآلام أخيه الإنسان، وعن حجم النفاق السياسي في العلاقات الدولية، لكنها كشفت أيضا عن ملامح اللاعقلانية في تعاطي العالم العربي-الإسلامي مع أحداث غزة، وهذه النفطة الأخيرة هي محور موضوعنا في المقال القادم.

ليست هناك تعليقات: