الأربعاء، 29 يوليو 2009

أين الخلل؟

قبل أكثر من عام تقريباً، تعرفت في مقهى الجامعة على شاب سعودي يُعِّد رسالة الدكتوراة في ميدان علم الأحياء في جامعة بريطانية، ودار الحديث بيننا حول أشهر كتابين لداروين، الأول هو On the Origin of Species ، والثاني The Descent of Man، ولم يدهشني بالطبع الإطلاع الواسع لذلك الشاب على أعمال داروين، لكن ما أدهشني حقاً هو رأيه حول أصل الإنسان، فعلى الرغم من كل الأدلة العلمية التي تعلمها في الجامعة حول نظرية التطور، وعلى الرغم من أن الموضوع الذي اختاره لرسالة الدكتوراة يعتمد اعتمادا كلياً على صحة هذه النظرية، إلا أنه ما زال متمسكاً برأيه، وهو رأي اكتسبه بكل تأكيد عن طريق التلقين والوراثة!
في موقف مشابه من حيث المضمون، التقيت قبل فترة بمهندس كويتي ضليع في علم الرياضيات، والذي أثار دهشتي هذه المرة هو أن هذا الشاب بذل جهداً كبيرأً ووقتاً طويلاً في محاولة منه إلى إقناعي بوجود صخرة معلقة في الهواء! حاولت أن أذكره بأن الرياضيات هي لغة الطبيعة، وأن الطبيعة تحكمها قوانين، وأن اختراق هذه القوانين يعني انهيار كل فروع العلم الحديث، ومن ضمنها علم الهندسة الذي درسه، لكن محاولاتي كلها باءت بالفشل، وقبل أن أمارس حقي الطبيعي في أن أضرب كفاً بكف تحسرأً وألماً على ما سمعته من هذا الشاب، رأيته يقوم من مكانه ساخطاً وحانقاً على غبائي في فهم «المعجزات»!
هناك الألوف من الطلاب العرب ممن درسوا التخصصات العلمية في جامعات أجنبية، ثم عاد معظمهم إلى أوطانهم من دون أن يطرحوا على أنفسهم السؤال المنطقي التالي: ما هو انعكاس المعرفة العلمية التي اكتسبتها في الخارج على الأفكار الموروثة التي تلقيتها في الداخل؟ السؤال نفسه بصيغة أخرى: هل ينسجم ما سمعته من أستاذي مع ما سمعته من أبي، أو من إمام المسجد، أو حتى من أشرطة الكاسيت التي «لا تباع ولا تشترى»؟ من الطبيعي أن يطرح المرء على نفسه هذا النوع من الأسئلة، ومن غير الطبيعي أن يتحاشى الإجابة عن هذه الأسئلة عن طريق خلق عالمين متوازيين، يمارس في الأول قواعد التفكير العلمي، ويتقيد في الثاني بأصول التفكير الخرافي!
أين الخلل؟ لماذا يفشل كثيرٌ ممن حصلوا على شهادات علمية في التفكير بطريقة علمية؟ أعتقد أن الإجابة تكمن في وجود اختلاف أساسي بين الاكتفاء بتحصيل المعرفة العلمية ومحاولة فهم فلسفة العلم التي هي أساس كل معرفة علمية. قد يكون العلم مفيداً، لكنه قطعاً جميل، وفلسفة العلم هي الطريق المؤدي إلى اكتشاف جمال العلم، فهي فلسفة تشرح البناء المنطقي للنظرية العلمية، وتوضح العلاقة بين الإثبات الرياضي والتنبؤ العلمي، وتبين الفرق بين الفرضية والنظرية، واستيعاب مثل هذه المفاهيم الحيوية يدفع الطالب إلى أن يفكر بطريقة علمية، ليس في مجال دراسته فحسب، بل في شؤون الحياة كافة التي تتطلب أدنى قدر من التفكير بطريقة منظمة. إذا اقتصرنا على جني الفائدة من العلم دون محاولة التأمل بجماله الداخلي، فإن التفكير العلمي يكاد يكون مستحيلاً.
من المؤسف ألاّ يتجاوز عدد الكتب المترجمة إلى العربية، والتي تتناول ميدان فلسفة العلم، أصابع اليد الواحدة، وهذه الحقيقة المؤلمة تفسر ظاهرة سوء الفهم لمبادئ العلم والتوجس من نتائجه! أختم هذا المقال بما سبق وأن كتبت في مقال سابق: لن يكون هناك ثورة في التفكير حتى ينال العلم منّا ما يستحق من إعجاب وتقدير!

ليست هناك تعليقات: