الأربعاء، 29 يوليو 2009

مهارات التفكير النقدي

تحدثنا في المقال السابق عن بعض العقبات في طريق التفكير النقدي، ونأتي الآن إلى الحديث عن بعض المهارات المرتبطة بهذا اللون من التفكير المنظم.
1 - التحلّي بالموضوعية
لو طلبنا من مواطن متحمس لقضية إسقاط القروض، مثلاً، أن يقوم بكتابة حوار بين شخصيتين بشأن هذا الموضوع، أحدهما مع مسألة إسقاط القروض والآخر ضدها، فكيف سيكون شكل الحوار؟ من الطبيعي أن يهتم هذا المواطن بصياغة حجج طويلة ومنمقة على لسان الشخصية المؤيدة لإسقاط القروض، بينما تكون حجج الطرف الآخر مختصرة وهزيلة، فهو كمن يقول لنفسه «يجب أن أعبّر عن وجهة نظري بصورة دقيقة، ولا بأس في أن تأتي آراء خصومي بشكل كاريكاتوري»! هذا النوع من الحوار اللاموضوعي موجود بغزارة في الأدبيات الدينية، وعادة ما يدور الموضوع حول مسألة الإيمان والإلحاد، حيث نقرأ إجابات جميلة ومنمقة من الطرف المؤمن، وإجابات غبية ومختصرة من الطرف الملحد! صياغة الحوار بهذه الطريقة تكشف عن شخصية الكاتب أكثر من كشفها عن مضمون الحوار، فمن يلجأ إلى الخداع لإقناع الآخرين يعبّر بوضوح عن افتقاره إلى حجة منطقية.
انحياز الفرد إلى آرائه أمر طبيعي، فهناك دائماً علاقة حميمية بين الإنسان والرأي الذي يؤمن به، كما أن هناك علاقة نفور بين الإنسان والآراء التي يكفر بها، لكن التفكير النقدي لا ينسجم مع هذا الانحياز غير الموضوعي، فهو يشترط أن نلتزم الحياد عند تقييم صحة رأيين متناقضين، وأن تكون الحجة المنطقية السبيل الوحيد إلى تفضيل رأي على آخر. أخيراً، يبقى أن نؤكد أن اتهام الآخرين بعدم الموضوعية أسهل بكثير من اعتراف الذات بها، وهذه عقبة ينبغي التخلص منها إذا أردنا التفكير بطريقة نقدية.
2 - تحصين العقل من المؤثرات البلاغية
تمتاز الخطب السياسية والدينية بمؤثرات بلاغية تخاطب القلب أكثر من مخاطبتها العقل، فبدلاً من أن تكون الحجة المنطقية المعيار الأوحد في إقناع المستمع، نجد أن آلية الإقناع في هذا النوع من الخطب ترتكز على عناصر هامشية تهدف إلى استمالة عاطفة المستمع وتوجيهها الوجهة المطلوبة، ومن هذه العناصر الهامشية تلك المتعلقة بنبرة الصوت وشكل الإيماءات ونوع الألفاظ المستخدمة، وفي بعض الأحيان التي تتخللها مؤثرات تراجيدية يلجأ الخطيب إلى البكاء الفردي لتحفيز البكاء الجماعي! وجود مثل هذه المؤثرات البلاغية يكشف عن محاولة لتسويق الأيديولوجيا بصورة فنية، وهي محاولة تنطوي على خلط متعمد بين الخطاب الفني والخطاب الأيديولوجي، فإذا كان تذوق الخطاب الفني يستوجب الاهتمام بشكل الخطاب ومضمونه، فإن ما يهمنا في الخطاب الأيديولوجي ان يقتصر فقط على المضمون. باختصار شديد، ما يحقّ للفنان على خشبة المسرح لا يحقّ للخطيب على المنبر.
هناك شرطان للتمكن من تحصين العقل ضد المؤثرات البلاغية في الخطاب الأيديولوجي: الشرط الأول مرتبط بمدى قدرة المستمع على إهمال الجانب البلاغي في الخطاب الأيديولوجي، والتركيز بدلاً من ذلك على فحوى الخطاب نفسه، وهي عملية ليست سهلة كما قد تبدو للوهلة الأولى، الشرط الثاني يشير إلى ضرورة عدم الاقتناع بأي رأي لا يستند إلى أسباب منطقية، ذلك أن المستمع المتمكن من تحصين عقله يدرك جيداً أن آلية الإقناع مرتبطة فقط بنشاط خلايا الدماغ، ولا علاقة لها بمتانة الأوتار الصوتية. الصراخ والبكاء لا يقنعان، فالأول يصم الآذان والثاني يثير الشفقة، وكلاهما يدل على فشل في العثور على حجة منطقية!
3 - رصد الافتراضات الضمنية
لو سألني القارئ هل سأكون أكثر سعادة لو فزتُ بالمركز الأول في سحب «جوهرة الوطني»، فلن أتردد في أن أجيب «بكل تأكيد»! إجابتي هذه تخفي بين طياتها افتراضاً ضمنياً مفاده أن المال الوفير يجلب السعادة، ورصد هذا الافتراض الضمني (المخفي) خطوة ضرورية لتقييم صحة إجابتي، لا يمكنك كقارئ أن تعترض بشكل مباشر على سعادتي لو فزتُ بالجائزة، ولكنك تستطيع أن تعترض على صحة الافتراض الضمني الذي يربط بين السعادة والمال الوفير، وإذا استطعت إثبات عدم صحة هذا الافتراض، فإنك عندها تكون قد تمكنتَ من إثبات أن سعادتي لا تستند إلى سبب منطقي! القدرة على رصد الافتراضات الضمنية تعتبر من أهم مهارات التفكير النقدي، فمن خلالها نستطيع تقييم صحة الكثير من الآراء. لكن هذه المهارة ليست مجانية، فهي تحتاج إلى تمرين ذهني متواصل.
خاتمة
كتب الزميل الدكتور خالد الجنفاوي مقالاً في شهر أغسطس الماضي في جريدة السياسة، يدعو فيه وزارة التربية إلى استحداث مادة جديدة تحت اسم «مادة التفكير النقدي»، ويبدو أن دعوة زميلنا الفاضل، على الرغم من أهميتها، لم تجد بعد آذاناً صاغية! عندي يقين بأن الوطن العربي أرض خصبة لتطبيق مهارات التفكير النقدي، فهو الوطن الوحيد الذي يملك قدرة فائقة على استفزاز العقول وإثارة علامات التعجب! على الرغم من ذلك، لم تقم أي حكومة عربية بتبني «مشروع التفكير النقدي» كأولوية ضمن برنامجها التعليمي، ولهذه الحقيقة أسباب قد نتطرّق إليها في مقال لاحق.

ليست هناك تعليقات: