الأربعاء، 29 يوليو 2009

الفتوى الدينية سلاح سياسي قديم

تحظى الفتوى الدينية في زمننا الحاضر بدور بالغ الأهمية، ويعود السبب في ذلك إلى حقيقتين: أولا، مجال الفتوى الدينية يكاد يكون بلا حدود، فهي تتعلق بكل شؤون الحياة تقريبا، ومن الممكن تفسير هذه الحقيقة بسهولة من خلال النظر إلى طبيعة الدين الشمولية. ثانياً، أهمية الفتوى الدينية تكمن أيضا في أثرها البالغ في حياة الناس، ودورها البارز في تشكيل عقول الأفراد، وتحديد سلوكهم. توظيف الفتوى الدينية في الشأن السياسي هو أحد مظاهر الخلط بين الدين والسياسة، ولو كان الدين مقتصراً على الحياة الخاصة دون الحياة العامة، لما وَجَدَت الفتوى الدينية طريقاً إلى ميدان السياسة، ولو كان أثر الدين في حياة الناس أقل مقداراً من الوضع الحالي، لفقدت الفتوى الدينية قيمتها السياسية!
عند صدور فتوى دينية تتناول شأنا من شؤون السياسة، فإن هناك شكلين للعلاقة المتبادلة بين الدين والسياسة: إما أن يكون الدين في خدمة السياسة، وإما أن تكون السياسة في خدمة الدين، عندما أصدرت بعض الجماعات الدينية فتاوى تحرّم الديموقراطية، كان من الواضح أن السياسة هي التي تم إخضاعها لشروط الدين، لكن مع نضوج هذه الطوائف الدينية وتحوّلها إلى حركات سياسية فاعلة، بدأ الدين في التأقلم مع شروط السياسة، ويبدو أن هذا التأقلم هو السائد في وقتنا الحاضر، عندما اجتاحت القوات العراقية الكويت، ظهر نوعان متضادان من الفتوى الدينية، الأول يجيز الاستعانة بالقوات الأجنبية لتحرير الكويت، والثاني يحرّم هذه الاستعانة! ربما يرجع السبب في ذلك إلى مجرد اختلاف في تفسير الدين، لكن هل من المصادفة أن تأتي الفتاوى، التي تجيز الاستعانة بقوات أجنبية، من دول مثل السعودية وبقية دول الخليج، وأن تأتي الفتاوى، التي تحرم الاستعانة بهذه القوات، من دول مثل العراق والأردن وفلسطين والجزائر وتونس؟ أليس ثمة تطابق بين مضمون الفتوى الدينية وبين التوجه السياسي للبلد الذي خرجت منه الفتوى؟ حتى في مصر، لم يؤثر الموقف المخزي لجماعة الاخوان المسلمين من الحرب في موقف السلطة السياسية، فالفتوى، التي أصدرها الأزهر الشريف بشأن جواز الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت، كانت كافية لدعم الموقف السياسي لحكومة الرئيس «مبارك»!
لكن أين تكمن الجذور التاريخية للفتوى الدينية؟ لو نظرنا إلى تاريخ الأديان القديمة، فسنجد أن تطور أي دين مرتبط بشكل المجتمع الذي نشأ فيه، فالمجتمعات البدائية التي اتخذت من الزراعة حرفة لها أنتجت طقوساً دينية تختص بمواعيد الحرث والحصاد، والمجتمعات التي اتخذت من حرفة الصيد مصدر رزق لها أنتجت طقوساً دينية تهتم بمواسم الصيد، ومن هنا نستنتج أن الوظيفة البدائية للدين اقتصرت على حماية مصالح الجماعة والحفاظ على بقائها، لكن مع تطور المجتمعات البشرية، أصبحت وظيفة الدين أكثر تعقيداً، ومع تزايد عدد الأفراد في المجتمعات البدائية، برزت الحاجة إلى تأسيس طبقة دينية من رجال الدين تهتم بشؤون الدين وإقامة طقوسه الموسمية، وكانت من بين أهم وظائف رجال الدين وظيفة تفسير رغبات الآلهة، ونقل أوامرها إلى عامة الناس، وهنا تحديداً تكمن الجذور التاريخية للفتوى الدينية، ففي نهاية المطاف ليست الفتوى سوى تفسير لنصوص الدين.
في التاريخ المصري القديم، كان الفرعون، قبل اتخاذ أي قرار سياسي، يستشير الإله «آمون» عن طريق توجيه بعض الأسئلة، ثم يأتيه الرد على شكل إشارات مبهمة لا يستطيع تفسير معناها إلا الكهنة، فهم وحدهم من يحق لهم تفسير إشارت الإله «آمون»، والنتيجة الطبيعية هي أن السلطة السياسية انتقلت من قصر الفرعون إلى معابد الكهنة! في بعض الأحيان، يصل الأمر إلى حد القيام بتقديم رشوة إلى الآلهة للحصول على الجواب المطلوب، وهذا ما يخبرنا به المؤرخ الإغريقي «هيرودوتس» عن معبد «دلفي» في بلاد الإغريق، ففي هذا المعبد يجيب الإله «أبوللو» عن كل سؤال يطرح عليه عن طريق الوحي، ولم يكن الوحي سوى امرأة تعمل في خدمة رجال الدين القائمين على حراسة المعبد، وعندما شعر أحد نبلاء «أثينا» بظلم الطبقة السياسية له، حينما أمرت بنفيه إلى خارج المدينة، قام بتقديم رشوة إلى الوحي كي يأمر أهل مدينة سبارتا باجتياح «أثينا»، وكان له ما أراد فسقطت المدينة! يعلّق «هيرودوتس» على هذه الحادثة بنبرة ساخرة «لقد كان أهل «سبارتا» يحترمون السماء أكثر من احترامهم الأرض»! (انظر «تاريخ هيرودوتس»، الكتاب الخامس، الفصل الثالث والستين).
إذا كان الدين هو المهيمن على مصالح الجماعة، فإن من يقوم على رعاية هذا الدين يكتسب تلقائياً سلطة سياسية، وهذا بالضبط ما حدث مع أول نشوء لطبقة رجال الدين، إن نشوء مثل هذه الطبقة الاجتماعية ساهم في تحوير وظيفة الدين الأساسية، فبدلاً من حماية مصالح الجماعة، أصبحت الوظيفة تقتصر على حماية مصالح رجال الدين، ومن هنا بدأ توظيف الدين في خدمة السياسة، وتحويل الفتوى الدينية إلى سلاح سياسي، ولكنه سلاح سياسي قديم، يرجع إلى زمن كهنة مصر، وإلى زمن الإله أبوللو المرتشي!

ليست هناك تعليقات: