الأربعاء، 29 يوليو 2009

ناجي الزيد واللهجات الكويتية


«أنا مؤمن جداً بالحفاظ على الهوية الوطنية، ويجرحني جرحاً عميقاً تعدد (اللهجات) الكويتية في الإعلام وفي مرافق الخدمات وفي الوزارات وفي المطار، والكل يحمل جنسية كويتية وجوازاً كويتياً..» د. ناجي سعود الزيد، جريدة «القبس»، 2007-12-30
أعترف بأني لا أهتم بقراءة أغلب ما يكتبه أولئك الذين يسميهم البعض تجاوزاً «ليبراليين» في صحافتنا الكويتية، لأن كتاباتهم في معظمها، حسب رأيي الشخصي، لا تختلف كثيراً عن أحاديث المقاهي الشعبية، لكن شاءت الصدف أن يقع بصري على هذا الاقتباس أعلاه، وهو اقتباس لا يخلو من طرافة، لذا لن آخذه على محمل الجد، ولن أجعله موضوعاً للهزل، إنما سأتناوله على طريقة أحاديث المقاهي الشعبية، وهي أحاديث يختلط فيها الجد بالهزل!
لا يقدم الدكتور تعريفاً واضحاً لمفهوم «الهوية الوطنية»، لكن يبدو من الاقتباس أعلاه أن هناك شرطين ينبغي توافرهما في كل إنسان ينتمي إلى هذه الهوية: الشرط الأول، أن يحمل الجنسية الكويتية. والشرط الثاني، أن يتحدث لهجة الدكتور! لم أكن أعلم من قبل أني أنتمي إلى «الهوية الوطنية» بنسبة خمسين في المئة، ولكني أعلم أن ارتباط أي إنسان بأرضه أنبل من أن يكون مقيداً بهذه الشروط السطحية! ارتباط الإنسان بوطنه حالة عاطفية، وهي حالة تخضع إلى ظروف موضوعية، لا إلى قوانين وضعية.
صاحب الاقتباس أعلاه طبيب، وهو يقول إن تعدد اللهجات يجرحه جرحاً عميقاً، وهذا يعني أن عدداً لا بأس به من المرضى الذين جاؤوا إلى الدكتور طلباً للعلاج ساهموا من حيث لا يعلمون بجرح الدكتور في مشاعره الوطنية! لو كنت أحد هؤلاء المرضى، لما ترددت في كتابة اعتذار خطي إلى الدكتور، لكنه لن يكون اعتذاراً مجانياً، ذلك أني سأطالبه في المقابل أن يتعهد بعدم كتابة أي مقال صحفي، وهو جالس في زاوية من زوايا المقاهي الشعبية، فليست كل فكرة يلتقطها الدكتور من هناك تصلح أن تكون مادة مقروءة!
تعدد اللهجات في أي بلد يمنحه بعداً جغرافياً وتنوعاً ثقافياً، لكن الدكتور وعدداً غير قليل من الكتاب «المخضرمين» لا يجدون في تعدد اللهجات سوى تهديد لـ «الهوية الوطنية»! أريد أن أطمئن الدكتور وأؤكد له أن السياسة الإعلامية الحكومية المتخلفة تتبنى وجهة النظر التي يدافع عنها، فهي تحرص حرصاً شديداً على عدم تسرب اللهجات «الدخيلة» إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، وتعمل كل ما بوسعها للحفاظ على اللهجة الكويتية الصافية! لديَّ صديق كان يعمل سابقاً في «كونا»، وطلب منه رئيسه في العمل أن يحاول إخفاء لهجته «البدوية» عند قراءة نشرة الأخبار! في موقف مشابه من حيث المضمون، سألني مرة صديق مغربي بنبرة استغراب: «لماذا تختلف لهجتك عن اللهجة التي أسمعها في المسلسلات التلفزيونية الكويتية»؟! أعترف بأني ضحكت ولم أعرف كيف أجيب، لكني سأخبره في المرة القادمة إن السبب يكمن في عدم حصولي على الدرجة الكاملة في اختبار «الهوية الوطنية»، وهو اختبار يحمل توقيع صاحب الاقتباس أعلاه!
هناك العديد من علماء اللغة ممن اختاروا هجر أوطانهم والذهاب إلى مناطق مختلفة حول العالم، والسبب في ذلك يعود إلى محاولة دراسة اللغات التي شارفت على الانقراض والمساهمة في حفظها من الضياع، فكل لغة بشرية هي جزء من الحضارة الإنسانية. لكن الصورة لدينا تبلغ من التخلف حداً إلى درجة أن من يحملون شهادات الدكتوراه يطالبون بالقضاء على تعدد اللهجات والحد من هذا الخطر الذي يحيق بالهوية الوطنية! لست أدري متى نتوقف عن النظر إلى مفهوم الوطنية من زاوية عنصرية ضيقة، ومتى نبدأ في إخضاع هذا المفهوم الحيوي إلى رؤية نقدية موضوعية، فمفهوم الوطنية بشكله الحالي فيه بقايا من نفس إقطاعي، ذلك أن الإحساس بالانتماء إلى بقعة جغرافية عن طريق التوارث يصاحبه عادة إحساس بتملك هذه البقعة، ولعل ذلك يفسر النزعات العنصرية تجاه «الآخر» في كل بقاع الأرض!
أشعر أحياناً أني أنساق رغماً عني إلى خوض حرب على جبهتين، فمن جهة هناك من يظن واهماً أن رمال الصحراء أنتجت حضارة، ومن جهة أخرى هناك من يظن واهماً أن سور مدينته يعتبر امتداداً لسور الصين العظيم! لا أطلب من الطرفين سوى أمرين اثنين فقط: أن يتواضعوا قليلاً، وأن ينصرفوا إلى أمور أكثر نفعاً لوطنهم!

ليست هناك تعليقات: