الأربعاء، 29 يوليو 2009

الدين والأخلاق

«هل المقدس مقدس في ذاته، أم أن المقدس مقدس لأن الآلهة تراه كذلك؟»
(من حوار سقراط مع إيوثيفرو، انظر حوارات أفلاطون)
كلمة «حرام» تنتمي إلى دائرة الدين، وكلمة «لاأخلاقي» تنتمي إلى دائرة الأخلاق، ولا يجوز من الناحية المنطقية الخلط بين هاتين الكلمتين إلا إذا استطعنا إثبات المقولة التالية: كل فعل لاأخلاقي هو فعل محرّم، وكل فعل محرّم هو فعل لاأخلاقي. بإمكاننا إعادة صياغة هذه المقولة بصورة أوسع على النحو التالي: ليس هناك دين دون أخلاق، وليست هناك أخلاق دون دين! أشك في قدرة أي شخص على إثبات صحة هذه المقولة، لكن في المقابل من السهل إثبات عدم صحتها. لنفرض أن الدين المقصود هنا هو الدين المسيحي، ففي هذه الحالة يصبح كل فرد غير مسيحي لاأخلاقيا بالضرورة، وأعتقد أن القارىء لن يكتفي برفض هذه المقولة، بل إنه سيدينها أيضا، وهو محق في ذلك! لكن أليس القارىء يتفق معي على أن استبدال الدين المسيحي بأي دين آخر سيقود إلى النتيجة ذاتها؟ إذا كان القارىء متحرراً من أي نزعة شوفينية، فإني أعتقد أنه لن يملك الاعتراض على هذه الحقيقة المنطقية. بعد هذه المقدمة التمهيدية، أريد من خلال هذا المقال أن أوضح الفرق بين المبدأ الأخلاقي والمعتقد الديني، وسوف أستعرض بعض مظاهر الخلط بينهما في المقال القادم.
المبدأ الأخلاقي ينظم سلوك الفرد مع الآخرين، وهو يتصف بالشمولية، أي أنه غير مرتبط بثقافة معينة، بل إنه ينطبق على الكائنات كافة القادرة على الشعور بالألم، والسبب في اختيار القدرة على الشعور بالألم كمعيار نحدد من خلاله حدود المبدأ الأخلاقي، هو أن أي محاولة لإلحاق الضرر بالآخرين تصنّف على أنها فعل لاأخلاقي (ربما مع استثناء فكرة الدفاع عن النفس). هذا يعني أني لست في حاجة إلى الإلمام بأي معتقد ديني كي أعرف، مثلاً، أن السرقة فعل غير أخلاقي، ذلك أن من السهل إثبات أن السرقة تسبب الضرر للآخرين. بالمثل، ليس من الضروري الإطلاع على رأي أي ديانة حول حرمة الاغتصاب الجنسي، إذ يكفي معرفة أن هذا الفعل المشين يلحق الضرر بالآخرين.
أكاد أسمع صوت القارىء متسائلاً: ماذا عن السارق الذي يسرق وهو يعلم أن السرقة تلحق الضرر بالآخرين؟ هذا سؤال مشروع، فلولا معرفة السارق بحقيقة السرقة، لما سرق في الخفاء بعيداً عن أعين الآخرين، وهنا يبرز دور القانون كأداة رادعة، لكنها أداة غير مشروعة إلاّ في حالة تحقق شرطين اثنين: الشرط الأول، أن يتم إثبات السلامة العقلية للسارق ومعرفته بحقيقة السرقة، والشرط الثاني، أن يتم إثبات حقيقة السرقة نفسها، أي أنها فعل غير أخلاقي يلحق الضرر بالآخرين. لو أخفقنا في تحقيق هذين الشرطين، يصبح الشروع في محاكمة السارق عملية غير مشروعة! هذا يقودنا إلى طرح التساؤلات التالية: هل كل التشريعات الدينية، بصفتها أحد أشكال القانون، تهدف إلى منع الفرد من إلحاق الضرر بالآخرين؟ إذا كانت الأديان كلها لا تجرّم المجنون (الشرط الأول)، فهل تقتصر الأديان في تشريعاتها على ضمان عدم إلحاق الضرر بالآخرين (الشرط الثاني)؟ هل نستطيع أن نثبت أن المسلم الذي يمتنع عن أداء الصلاة في المسجد، مثلاً، يتسبب في إلحاق الضرر بالآخرين؟!
من الواضح إذن أن المعتقد الديني يختلف عن المبدأ الأخلاقي، فالثواب والعقاب في أي دين لا يرتبطان بضمان عدم إلحاق الضرر بالآخرين بقدر ارتباطهما بضمان عدم إلحاق الضرر بالعقيدة نفسها. إذا كان كل دين يعرّف الأخلاق حسب تشريعاته الخاصة، وإذا كان عدد الأديان على سطح هذه الأرض يتجاوز 300 دين حسب الموسوعة الأميركية، فإن النتيجة المنطقية هي أن لدينا أكثر من 300 نظام أخلاقي، وكل نظام على حدة يدعي أنه أكثر شمولية من غيره! من الواضح أن هناك مشكلة، وهي مشكلة ناتجة عن حقيقتين: الأولى، هي إضفاء صفة الشمولية على المعتقدات الدينية الخاصة بكل ثقافة على حدة، والثانية، هي إخضاع المبادىء الأخلاقية العامة إلى المعتقدات الدينية الخاصة. لعلنا نجد في قصة النبي إبراهيم مع ابنه إسماعيل (أو إسحق حسب التراث اليهودي-المسيحي) مثالاً واضحاً على إخضاع المبدأ الأخلاقي إلى المعتقد الديني، فهي قصة تشير إلى جواز التضحية بالمبدأ الأخلاقي في حالة أقر المعتقد الديني ذلك! المثال الآخر على الانتصار للمعتقدات الدينية على حساب المبادىء الأخلاقية نجده في شعوب الأزتيك البدائية في المكسيك، فالمعتقد الديني لتلك الشعوب كان يشير إلى أن استمرار سطوع أشعة الشمس مشروط بأكل لحوم البشر، وقد احتلت شعوب الأزتيك المرتبة الأولى من بين كل الشعوب البدائية في تقديم أعداد هائلة من البشر على شكل قرابين للآلهة!
هناك مبدأ أخلاقي يعرف باسم «القانون الذهبي»، وضعه الفيلسوف الصيني كونفوشيوس، والمبدأ يقول: «عامل الناس كما تحب أن يعاملوك». هذا المبدأ البسيط لا يقتصر فقط على الثقافة الصينية، لأنه يبلغ من الشمولية حداً يجعله قابلاً للتطبيق في أي ثقافة إنسانية، لأن أي انتهاك لهذا المبدأ سيقود حتما إلى رذيلة النفاق! لكن في المقابل، ماذا عن المعتقد المسيحي الذي يأمر بأن تكون المعاشرة الزوجية بغرض الإنجاب، وليس بغرض اللذة الجنسية؟ هل يكفي وجود نص ديني يدعم هذا الاعتقاد المسيحي كي نجعل منه مبدأ أخلاقياً ينطبق على شعوب العالم؟ خلاصة الموضوع هي أن المبادىء الأخلاقية أكثر شمولية من المعتقدات الدينية، والسبب يرجع إلى حقيقة أن معيار إلحاق الضرر بالآخرين أكثر شمولية من معيار إلحاق الضرر بالعقيدة الدينية. لو تأملنا كل مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لوجدنا أنها تستند إلى مبادىء أخلاقية شاملة تتجاوز حدود الثقافات والأديان كلها، وهنا تحديداً تكمن أهمية هذا الإعلان العالمي!

ليست هناك تعليقات: