الاثنين، 26 أكتوبر 2015

مشروع التنوير والعالم العربي (1-2)


كثيرة هي الأدبيات التي تتحدّث عن "التنوير العربي" بوصفه مشروعا لم يحالفه النجاح، وفي ظني أنّ في هذا الوصف إجحافاً بحقّ هذا المشروع، ليس لأنّه مشروع نال نصيبا من النجاح في عالمنا العربي، بل لأنه مشروع لم يبدأ كي نحكم عليه بالنجاح أو الفشل، وهذه هي القضية الأساسية التي نريد الدفاع عنها من خلال هذا المقال، لكن ينبغي لنا أولا أن نقف عند مفهوم التنوير بوصفه حقبة تاريخية من جهة، وبوصفه حركة فلسفية من جهة أخرى، وذلك بغرض الوقوف على أهم العوامل التي ساهمت في نشأة "التنوير" في الغرب المسيحي.

التنوير بوصفه فصلا من فصول التاريخ الغربي يشير إلى حقبة تاريخية امتدّت من منتصف القرن السابع عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، وهي من أكثر الحقب التاريخية التي شهدت صخباً كبيراً من جرّاء قيام الثورات الإنكليزية (1688) والأميركية (1775) والفرنسية (1789)، وأمّا التنوير بوصفه فصلا من فصول الفلسفة الغربية فيشير إلى حركة فلسفية استفادت من أهم مذهبين من مذاهب الفلسفة الغربية، المذهب العقلاني الذي حمل رايته ديكارت وسبينوزا ولايبنز وغيرهم، والتيار التجريبي الذي حمل رايته بيكون ولوك ونيوتن وغيرهم.


لم يكن التنوير الأوروبي حدثا لحظيا، بل جاء بعد مخاض عسير أدى تدريجيا إلى تحرير ميادين المعرفة من قبضة الرؤية المسيحية للعالم، فنجاح الثورة العلمية لم يساهم في تحرير العلوم الطبيعية من الدين وحسب، بل شجّع أيضا على علمنة ميادين السياسة والأخلاق وغيرهما من العلوم الاجتماعية، وبذلك يكون التنوير بمنزلة انقلاب على الموقف القروسطي المتشائم واللاعقلاني واستبداله بموقف أكثر تفاؤلا وعقلانية، وقد ساهم المنهج العلمي في هذا الانقلاب الفكري الكبير، فبفضل هذا المنهج تراجع التفسير الخُرافي لصالح التفسير العلمي في فهم الطبيعة وقوانينها، وبفضل هذا المنهج أقيمت نظرية "العقد الاجتماعي" على أنقاض نظرية "الحق الإلهي للملوك"، وبفضل هذا المنهج أصبح المعيار الأخلاقي محكوما بعلاقة أفقية بين الإنسان وأخيه الإنسان بعد أن كان محكوما بعلاقة رأسية بين الأرض والسماء.

بطبيعة الحال، لم يكن المنهج العلمي لينجح في الانتقال بالإنسان من الظلمات إلى النور لولا توافر ظروف موضوعية ساهمت بشكل مباشر في تبلور عصر التنوير، لعلّ من أهمها بروز طبقة وسطى واعية بحقيقة التغيرات التاريخية وبطبيعة مصالحها الطبقية، بحيث وجدت في أطروحات التنوير تعبيرا عن طموحاتها السياسية في مقابل طبقة أرستقراطية طفيلية، وتجسيدا لطموحاتها الاقتصادية ضد نظام إقطاعي متهالك، وتنفيسا عن طموحاتها الفردية ضدّ نظام ملكي-لاهوتي متسلّط. 
  
 على ضوء ما تقدّم، يُصبح الحديث عن وجود "مشروع تنوير" في العالم العربي مرتبطا بمدى تحقّق عاملين اثنين على الأقل: سيادة المنهج العلمي بحيث يشمل مناحي الحياة كافة، وتوافق مصالح الطبقة الوسطى مع القيم المعرفية والأخلاقية لهذا المنهج، فهل بمقدورنا الزعم بتحقق هذين العاملين في العالم العربي طوال تاريخه الحديث؟
يتبع،،،

ليست هناك تعليقات: