الأربعاء، 13 نوفمبر 2013

أسباب انحسار دور الكنيسة في أوروبا (2- 2)

 ذكرنا في المقال السابق بعض الأسباب الداخلية للتحول التاريخي المتمثل في انحسار دور الكنيسة في المجتمع الأوروبي، وسنحاول من خلال هذا المقال تسليط الضوء على بعض الأسباب الخارجية لهذا التحول التاريخي الذي أفضى في زمننا الحاضر إلى ظاهرة واسعة الانتشار في القارة الأوروبية، وهي الظاهرة التي تُعرف باسم "The Empty Church"، أو "الكنيسة الخاوية"، في إشارة إلى التناقص الحاد في أعداد مرتادي الكنائس.
أولا: هناك سبب سياسي يتعلق بالصراع التاريخي بين البابوية والملكية، وهو صراع ألحق أضراراً جسيمة بمكانة البابا الروحية، لعل أبرزها هو الانتقال الشهير لكرسي البابوية من روما إلى أفنيون الفرنسية إبان القرن الرابع عشر، الأمر الذي أدى إلى تضاؤل مكانة البابا في نفوس أتباعه من المسيحيين، فالبابا الذي كان يُنظر إليه كخليفة للرب في الأرض، تحوّل إلى مجرد تابع للعرش الفرنسي.
ثانياً: هناك سبب اقتصادي مرتبط بنزوح كبار الإقطاعيين وملاك الأراضي إلى "دول المدن" مثل فلورنسا وميلانو والبندقية، وقد صاحب هذا النزوح تحرير أعداد كبيرة من الأقنان ممن كانوا يعملون في الأرياف وانتقالهم إلى العمل في المدن، وبطبيعة الحال لم تكن وراء عملية تحرير العبيد هذه دوافع إنسانية، إنما جاءت لتأمين الأيدي العاملة ورفع إيراد الضرائب، لكن ما يهمنا هنا هو أثر هذا التحول الديموغرافي في تقليص هيمنة الكنيسة على أتباعها، فالحياة السياسية للمدينة جعلت من الإقطاعيين منافسين حقيقيين على السلطة، والحياة الاجتماعية الأكثر تعقيداً أضعفت من الارتباط الروحي بين الطبقات الكادحة ورجال الكنيسة، فمن المعروف أن أثر الأديان بشكل عام في الحياة البسيطة لسكان الريف أكبر بكثير من أثرها في الحياة المعقدة لسكان المدينة (لعلّ تركيا هي المثال الأبرز في وقتنا الحاضر).
ثالثاً: هناك سبب ابستمولوجي، فالكنيسة التي كانت تحتكر مصادر المعرفة وجدت نفسها أمام ثورات مناهضة لذلك الاحتكار، بدءاً بثورة لوثر الدينية، مروراً بثورة كوبرنيكوس الفلكية، وانتهاء بثورة داروين الطبيعية، فالأول قضى على وساطة الكنيسة بين العبد والرب، والثاني أثبت تهافت فكرة مركزية الأرض، والثالث سحق فكرة الإنسان- الإله وأعاده إلى جذوره الطبيعية، وقد كان من شأن هذه الثورات الفكرية انتزاع سلطة المعرفة تدريجياً من القساوسة وسحب البساط من تحت الكنيسة، الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في تهذيب الدين المسيحي وجعله أكثر توافقاً مع استحقاقات العصر الحديث.
أخيراً: هناك سبب ثقافي لا يقل أهمية عما تقدم من أسباب، بل لعله أعظم منها خطراً، وأبعد منها أثراً، إذ لا يمكن فهم انحسار دور الكنيسة في المجتمع الأوروبي بعيداً عن عصر التنوير، ذلك العصر الذي أعلى من شأن العقل الإنساني، وحارب الخرافة والجهل، كما مهد الطريق أيضاً إلى قيام الثورة الفرنسية، تلك الثورة العنيفة التي عصفت بالسلطة السياسية والسلطة الدينية على حد سواء، لتتحقق بذلك رغبة "ديدرو"، أحد أبرز الكتاب الموسوعيين، الذي سبق أن كتب قبل الثورة يقول: "وددت لو أشنق آخر ملك بأمعاء آخر راهب"!

ليست هناك تعليقات: