الخميس، 16 نوفمبر 2017

من الأسطورة إلى الفلسفة

من الأسطورة إلى الفلسفة

لا تحظى كلمة "أسطورة" بدلالة إيجابية من الناحية المعرفية، فعادة ما يشير المعنى الدارج لهذه الكلمة في كثير من اللغات الحيّة إلى ما هو غير حقيقي في أفضل الأحوال، أو إلى ما هو تلفيق وكذب في أسوئها، ولا تقتصر هذه الدلالة السلبية على وقتنا الحاضر، بل تمتدّ إلى قرون طويلة، وليس أدلّ على ذلك من موقف الفلاسفة الإغريق الأوائل من ملحمتيْ هوميروس أو أشعار هيسيود. لكن ما هي الأسطورة من حيث معناها العميق؟

الأسطورة هي حكاية بغرض التفسير، وأما موضوع التفسير فعادة ما يرتبط بالظواهر الكونية وأصل الموجودات وعلاقة الإنسان بالطبيعة من حوله. الأسطورة، بمعنى آخر، هي استجابة لحاجة الإنسان إلى التكيّف الذهني مع محيطه المادي، وقد عبّر عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم عن هذه الفكرة بقوله إنّ "ما يكمن في جوهر الأساطير لا يعبّر عن حاجة عَمَليّة، بل عن حاجة عقلية للفهم"، هي حاجة "عامة وإنسانية في جوهرها". لو نظرنا إلى تاريخ الحضارات القديمة، فسنلاحظ أن لكلّ حضارة أساطيرها الخاصة بها، أي منظورها الخاص عن الكون وما يحتويه من كائنات وأشياء، وقد حفظ لنا التاريخ بعضاً من أساطير المصريين والبابليين والصينيين وغيرهم من الشعوب القديمة، كما انتقلت بعض أساطير الشرق إلى آسيا الصغرى (الأناضول) لتشكّل جانبا مهما من الثقافة الإغريقية القديمة وتلهم لاحقاً أشهر شعراء تلك الثقافة من أمثال هوميروس وهيسيود.

اتصفت آلهة جبل الأولمب في أساطير الإغريق بالخلود والقوة الخارقة، غير أنّ تلك الآلهة لها من الصفات الأخرى التي تجعلها إلى الإنسانية أقرب منها إلى الألوهية، فهي آلهة تفرح وتغضب، تُحبّ وتكره، تضحك وتبكي، تصحو وتغفو، تعفو وتنتقم، تساعد وتتآمر، تفي وتخون، تتصالح وتتخاصم، تتزاوج وتُنجب، وإلى غير ذلك من الصفات الإنسانية المألوفة. بل إن كبير الآلهة، زيوس، لم يكن ليفطنَ، وهو ما هو، إلى الحيلة التي حاكتها له زوجته الإلهة هيرا، فبعد أن تبيّن لها محاباة بعلها زيوس للطرواد في حربهم ضدّ الإغريق، لجأت هيرا إلى هيبنوس (إله النوم) تسنجده في أن يُعينها على إنجاح حيلتها، فكان لها ما أرادت وغلب على زيوس النعاسُ لِتنتهز هيرا الفرصة في ترجيح كفة الإغريق ضد الطرواد، وقد صوّر هوميروس مشهد تلك الحيلة في ملحمة "الإلياذة" التي ترجمها سليمان البستاني إلى العربية:
                      فارتأت مُذْ أعملت فكرتَها         لَتعُدّنّ له زينتها
فإذا ما جاءها مُفتتنا                بسناها أنفذت حيلتها
وعلى عينيه إن تلق السبيل       سكبت روح السبات المستطيل

لم يكن كبير الآلهة زيوس خالقاً للكون في الأساطير الإغريقية، فبالنسبة إلى هوميروس يُشكّل الكون المسرح الكبير الذي تدور فيه أحداث الأسطورة، ولكننا لا نجد عند هوميروس أدنى إشارة إلى كيفية نشوء الكون، وأما الشاعر الإغريقي هيسيود فاكتفى في "أنساب الآلهة" بالإشارة إلى أن بداية الكون كانت فراغاً، ومع ظهور الآلهة ازداد مقدار الفوضى في الكون جرّاء الحالة المزاجية التي اتصف بها سلوك الآلهة فيما بينهم ومع بني البشر!

لم تكن "الإلياذة" وغيرها من الملحمات الشعرية سوى بداية عملية تدوين لتراث شفهي امتدّ إلى قرون من الزمن، وقد دأبت الطبقة الأرستقراطية الإغريقية على دعم رواة الأساطير والاعتناء بهم، فالنظام الطبقي لآلهة الأساطير فيه تعزيز للنظام الطبقي بين البشر، كما اعتنت الطبقة التجارية الصاعدة في أثينا إلى العناية بأشعار هوميروس على وجه الخصوص لما لها من منافع مادية، فإلقاء أشعار هوميروس في المناسبات الدينية والاجتماعية كان له جمهور عريض بين الإغريق القدماء، والنقوش التي تصّور آلهة "الإلياذة" وأبطالها كانت تزخرف المباني والجدران والأواني المنزلية، وبهذا شكّلت أشعار هوميروس الوعي الإغريقي لقرون طويلة، وهذا ما يعترف به أفلاطون نفسه بالرغم من بغضه الشديد للأثر الذي تركه هوميروس على حياة الإغريق، حيث نجد في كتاب "جمهورية أفلاطون" إشارة إلى هوميروس بوصفه "مُعلّم اليونان".     

إنّ الأسطورة، وبصرف النظر عن بُعدها الخُرافي، تنطوي على تأمّل الإنسان في الظواهر الكونية وأصل الموجودات وعلاقة الإنسان بمحيطه المادي، وبهذا فإن أشعار هوميروس وهيسيود بوصفها بداية الأدب الإغريقي القديم لم تُساهم في تخليد التراث الأسطوري الشفهي وحسب، بل ساهمت أيضا في تمهيد الطريق أمام التأمّل الفلسفي الذي عبّر عنه فلاسفة عصر ما قبل سقراط، وقد اتّخذ معظم أولئك الفلاسفة من نظرية "العناصر الأربعة" نقطة الانطلاق نحو تصوراتهم حول العالم الطبيعي،  وتشير هذه النظرية، كما يدلّ على ذلك اسمها، إلى أن أصل الأشياء كلها يعود إلى عناصر أربعة، كما تُعدّ أقدم نظرية فيزيائية موثّقة عرفتها البشرية، إذْ يرجّح الباحثون تاريخ ظهورها إلى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، كما أنها نظرية عرفتها الحضارات القديمة مثل المصرية والهندية، ثم انتقلت لاحقاً إلى الحضارة الإغريقية، وأمّا ماهية العناصر الأربعة فتختلف في تفاصيلها بين حضارة وأخرى، ولكن القائمة السائدة هي تلك التي تُشير إلى العناصر التالية: الماء، والنار، والهواء، والتراب (أو الأرض). لقد اقتصر معظم فلاسفة عصر ما قبل سقراط على عنصر واحد من هذه العناصر الأربعة بوصفه الأصل الذي انبثقت منه كلّ الأشياء. على سبيل المثال، أصل الأشياء هو الماء عند طاليس، وهو الهواء عند أنكسمانس، وهو النار عند هيراقليطس.

لم تكن الفلسفة الإغريقية في بداياتها سوى امتداد طبيعيّ للأسطورة، فكلاهما عبّر عن نظرة الإنسان التأملية في مُحيطه، وكلاهما جسّد استجابة عقلية لتلك النظرة التأملية، لكن الاختلاف بين الأسطورة والفلسفة يكمن في طبيعة هذه الاستجابة، فالأسطورة لجأت إلى عالم الآلهة لتفسير عالم الطبيعة، بحيث أضحى عالم الطبيعة محكوما بقوانين تعتمد على مزاج الآلهة، وبهذا اتّسم النّسق الأسطوري بأنه نسقٌ مفتوح لا يُميّز بين ما هو خارق للطبيعة وما هو طبيعي، في حين اقتصرت الفلسفة في بداياتها على الاشتغال داخل حدود الطبيعة، وبهذا اتّسم النسّق الفلسفي بأنه نسقٌ مغلق لا يقبل إلّا ما هو طبيعي. بل حتى عندما نعثر على الأصل الأسطوري لفكرة فلسفية، فإنّ هذا لا ينفي حقيقة أن الفلسفة في بداياتها دأبت على استبعاد أي دور للآلهة في تفسير الظواهر الطبيعية. فعلى سبيل المثال، أشارت نظرية طاليس حول ظاهرة الزلازل إلى أن الأرض تطفو فوق الماء وأنّ السبب وراء نشأة الزلازل يعود إلى حركة الماء العنيفة من تحت الأرض، ويرجع أصل هذه الفكرة إلى أساطير بعض الحضارات القديمة، ومن ضمنها أساطير الحضارة الإغريقية التي تُرجع السبب في حدوث زلزال معيّن إلى غضب إله البحر "بوسيدون"، ومع ذلك فإن تفسير طاليس لظاهرة الزلازل، وبصرف النظر عن مدى صحته أو عمق جذوره الأسطورية، كان تفسيراً خُلواً من أي إشارة إلى دور الآلهة في هذه الظاهرة الطبيعية.

من جهة أخرى، اعتمدت الفلسفة الإغريقية منذ نشأتها على الحجة العقلية كوسيلة إقناع، ولعلّ المثال الأبرز هو زينون، وتحديدا في إشارته إلى عدد من المفارقات الناتجة عن الوثوق بحواسنا كمصدر للمعرفة، والهدف من هذه المفارفات هو إثبات أنّ ظاهرة التغير في المكان أو الحركة الفيزيائية ليست إلاّ وهماً، وإحدى أشهر المفارقات تلك التي تُعرف باسم "أخيل والسلحفاة"، وهي في جوهرها تجربة ذهنية تقوم على افتراض إجراء سباق بين البطل الأسطوري "أخيل" والمعروف بسرعته الفائقة، والسلحفاة المعروفة ببطء حركتها، بحيث يبدأ السباق بعد أن تُمنح السلحفاةُ مسافة متقدمة على أخيل، وإزاء هذه المعطيات، يؤكّد زينون أنه بالرغم من أن حواسنا تشير إلى أنّ أخيل سيلحق لامحالة بالسلحفاة ويسبقها، فإن هذا مع ذلك مجرّد وهم، فلو تأملنا الأمر من الناحية العقلية الصرفة، فإنّ السباق يبدأ عندما يكون أخيل عند نقطة معينة، ولنسميها "س"، وأما السلحفاة فستكون عند نقطة متقدمة من السباق، ولنسمّيها "ص"، وفي الوقت الذي يصل فيه أخيل إلى النقطة "ص"، تكون السلحفاة قد تخطّت تلك النقطة إلى نقطة أخرى، ولنسمّيها "ع"، وعندما يصل أخيل إلى النقطة "ع"، تكون السلحفاة قد وصلت نقطة متقدمة، وهكذا دواليك، فمهما حاول أخيل لن يستطيع اللحاق بالسلحفاة، فبصرف النظر عن التناقص التدريجي للمسافة بين نقطة وأخرى على طول السباق، هناك دائما عدد لا متناه من النقاط بين نقطتين! الجدير بالذكر هنا هو أن مفارقة "أخيل والسلحفاة" لم يكن من الممكن حلّها قبل اكتشاف حساب التفاضل والتكامل في القرن السابع عشر، وقد مثّلث مفارقات زينون أحد مظاهر مشكلة اللامتناهي التي تعامل معها فلاسفة الإغريق.


أخيرا، شكّلت الروح النقدية التي اتسمت بها آراء فلاسفة ما قبل سقراط علامة فارقة بالقياس إلى النزعة السردية التي اتسمت بها الاساطير والحكايات الخُرافية، فقد خالف أنكسمندرس أستاذه طاليس وقال إن "اللامتناهي"، لا الماء، هو أصل الأشياء، وخالف أنكسمانس أستاذه أنكسمندرس وقال إنّ الهواء، وليس "اللامتناهي"، هو أصل الأشياء، وكذلك هي الحال مع الآراء المغايرة الأخرى التي نادى بها فلاسفة مدرسة فيثاغورس وفلاسفة مدرسة برمنيدس وغيرهم الكثير، وهو ما يعكس إدراك الفلاسفة الأوائل للحقيقة التالية، وهي أنّ الرؤى الفلسفية، وإنْ كانت تتناول الموضوع نفسه، فإنها مع ذلك تعبّر عن رؤى متنافسة من الناحية الإبستمولوجية، أي أنها رؤى لا يُمكن أن تكون جميعها صحيحة في الوقت ذاته، وهذا تحديدا ما تفتقر إليه الأساطير والحكايات الخرافية بشكل عام، فعندما يصف الشاعر أو الرّاوي أمراً ما، فإنه لا يجد في وصف غيره من الشعراء أو الراوة للأمر نفسه تنافسا معرفيا للوصول إلى الحقيقة، ولهذا فإن معيار عدم التناقض بين الروايات والأوصاف غير وارد على الإطلاق عند شعراء الأساطير ورواة الحكايات الخرافية.



ليست هناك تعليقات: